عراق 2022 من الانسداد إلى الانفراج.. ماذا عن 2023؟
لاحت معالم وملامح الانفراج السياسي في المشهد العراقي بشكل أوضح بعد ثلاثة عشر شهراً من الانسداد، إذ طويت صفحة حكومة تصريف الأعمال برئاسة مصطفى الكاظمي، وطويت معها مرحلة التناحر والتأزيم السياسي.
ربما كان عام 2022، من أكثر الأعوام التي شهدت أحداثاً ووقائع دراماتيكية، وأوضاعاً مضطربة، وتحديات صعبة في العراق، مقارنة بالأعوام السابقة، حتى بدا عند بعض المحطات والمنعطفات أن البلد ذاهب إلى الهاوية، وأن كل ما تحقق في الجوانب والمجالات السياسية والأمنية والاقتصادية من منجزات خلال التسعة عشر عاماً المنصرمة مرشح للانهيار، أو بتعبير آخر، وكما كان يردد الكثيرون، إن انعكاسات ومخرجات حصيلة الأخطاء والسلبيات والانحرافات والصراعات ومظاهر الفساد التي تراكمت واستفحلت على امتداد ما يقارب العقدين من الزمن راحت تبرز وتتجلى بكل وضوح، لترسم مشهداً مقلقاً وخطيراً وسوداوياً قاتماً.
تفاعلات وتداعيات وإرهاصات عام 2022 في العراق بكل جوانبها وأبعادها وعناوينها ارتبطت أساساً بالمخرجات الجدلية للانتخابات البرلمانية المبكرة التي جرت في العاشر من شهر تشرين الأول/أكتوبر 2021، والتي أوصلت البلد بشكل أو بآخر إلى الانسداد السياسي، فكان مصداقه الأهم والأبرز، هو العجز عن تأليف حكومة جديدة إلا بعد مرور أكثر من عام، في سابقة اعتبرتها مختلف الأوساط والمحافل السياسية والمراقبون خطيرة للغاية، ويمكن أن تفتح الأبواب على أسوأ الخيارات، وليس أقلها الحرب الأهلية الداخلية أو إخضاع البلد من جديد للوصاية الأجنبية، في الوقت الذي كانت قواه السياسية والمجتمعية تتحرك وتحشد لإنهاء الوجود الأجنبي بالكامل.
ومع بداية عام 2022، وعلى ضوء نتائج الانتخابات ومعادلاتها والاصطفافات التي أفرزتها، كانت المؤشرات تقول بأن كفة التيار الصدري بزعامة السيد مقتدى الصدر المتحالف مع بعض القوى الكردية والسنية، تحت مسمى (تحالف إنقاذ وطن)، هو الذي سوف يؤلّف الحكومة ويمسك بزمام الأمور، وفق رؤيته المتمثلة بتأليف حكومة أغلبية وطنية، ومغادرة صيغة التوافق التي تبنتها ودعت إليها قوى الإطار التنسيق الشيعي.
بيد أن الأمور لم تكن سلسة ويسيرة مثلما افترض وتصور البعض، فبعد فترة من الزمن وصل "إنقاذ وطن" إلى طريق مسدود وتبين أن خيار "حكومة أغلبية وطنية.. لا شرقية ولا غربية"، ليس هو الخيار المتاح والممكن في ظل واقع سياسي شائك ومعقد، لينتهي المطاف بالتيار الصدري إلى الانسحاب من العملية السياسية، بعدما وجه الصدر في الثالث عشر من حزيران/يوينو أعضاء الكتلة الصدرية في البرلمان، البالغ عددهم 73 نائباً إلى الانسحاب والاستقالة، ليصبح الإطار التنسيقي فيما بعد الكتلة الأكبر عدداً بعد تعويض النواب المستقيلين. ولم يفلح بعض قادة الإطار التنسيقي والقوى الكردية والسنية في إقناع الصدر بالتراجع عن قراره، في سياق المحاولات والمساعي المحمومة لتطويق الأزمة.
ولم يمر وقت قصير، حتى بلغت الأزمة ذروتها، بعد أن أعلن الإطار التنسيقي في الخامس والعشرين من شهر تموز/يوليو ترشيح محمد شياع السوداني لرئاسة الوزراء، الأمر الذي دفع الصدر إلى توجيه أنصاره باقتحام المنطقة الخضراء والاعتصام داخل مبنى البرلمان، وقد تسبب ذلك في إرباك الأوضاع بمستويات خطيرة في العاصمة بغداد وأغلب المحافظات. وكانت مجمل المعطيات والمؤشرات تؤكد أن زعيم التيار الصدري بات يراهن على الشارع بعدما فقد حضوره وتأثيره السياسي من خلال البرلمان، وقبل ذلك أخفق في فرض رؤيته السياسية بتأليف حكومة أغلبية وطنية.
ولأن السيطرة على البرلمان لم تفض إلى نتيجة سوى استمرار الانسداد السياسي وازدياد حالة التأزم، لذا فإن أتباع التيار الصدري، توجهوا إلى مقر السلطة القضائية وقرروا اقتحامه كما فعلوا مع مقر البرلمان، إلا أن ردود الأفعال الواسعة، وما كان قد يترتب من عواقب وخيمة، دفعت الصدر إلى إصدار أوامر مشددة لأتباعه بالانسحاب من المنطقة الخضراء بالكامل وإنهاء كل مظاهر الاعتصامات والتظاهرات، ومن ثم أعلن أواخر شهر آب/أغسطس اعتزال العمل السياسي، لتسود حالة من الهدوء المشوب بالقلق والحذر في الشارع العراقي، مهدت السبيل لحراك سياسي بإيقاع سريع للإطار التنسيقي والأطراف الأخرى، تبلور بتشكيل تحالف واسع في الثامن والعشرين من شهر أيلول/سبتمبر ضم الإطار التنسيقي وأغلب القوى الكردية والسنية، أطلق عليه (ائتلاف إدارة الدولة)، وهو ما أدى إلى استئناف عقد جلسات البرلمان بعد توقف دام عدة شهور، وانتخاب القيادي المخضرم في الاتحاد الوطني الكردستاني عبد اللطيف رشيد رئيساً للجمهورية في الثالث عشر من شهر تشرين الأول/أكتوبر، كحلّ وسط وخيار توافقي، بعد استبعاد مرشّحَي الحزب الديمقراطي والوطني الكردستاني، الرئيس السابق برهم صالح، ووزير الداخلية في حكومة إقليم كردستان المحلية ريبر أحمد البارزاني. وقد مرّ انتخاب رشيد على نحو يسير للغاية، ليقوم هو في اليوم ذاته بتكليف محمد شياع السوداني بتأليف الحكومة الجديدة، الذي نجح بمهمته وعرض التشكيلة الجديدة بعد أقل من ثلاثين يوماً، لتنال ثقة البرلمان في السابع والعشرين من الشهر نفسه.
ومن هنا لاحت معالم وملامح الانفراج السياسي في المشهد العراقي بشكل أوضح بعد ثلاثة عشر شهراً من الانسداد، إذ طويت صفحة حكومة تصريف الأعمال برئاسة مصطفى الكاظمي، وطويت معها مرحلة التناحر والتأزيم السياسي، ولا سيما مع صمت السيد مقتدى الصدر، وعدم إدلائه بأي مواقف ورؤى وتصورات حول الحكومة الجديدة وأدائها وتوجهاتها.
ومن الطبيعي جداً، أن يلقي التأزم والانسداد السياسي بظلاله الثقيلة على عموم أوضاع البلد الأمنية والاقتصادية، فالاعتصامات والتظاهرات الجماهيرية ذات الطابع السياسي في داخل المنطقة الخضراء وعند بعض مداخلها، وفي بعض المحافظات الأخرى، أربكت النشاط التجاري والاقتصادي بشكل عام، وفاقمت ذلك التظاهرات الاحتجاجية المطلبية المتواصلة لفئات وشرائح مختلفة من خريجي الجامعات وغيرهم.
إلى جانب ذلك، فإنه رغم الجهد العسكري والاستخباراتي المتواصل في التصدي للجماعات الإرهابية، ولا سيما عصابات "داعش"، إلا أن عام 2022 شهد العديد من الخروقات الأمنية في مدن ومحافظات مختلفة، ولا سيما كركوك وديالى وصلاح الدين والموصل، ولعل تلك الخروقات لم تكن بعيدة بشكل أو بآخر عن مجمل الأوضاع السياسية المرتبكة، لأنه على طول الخط كانت الأوضاع السياسية المرتبكة تنعكس سلباً على الأوضاع الأمنية، والعكس صحيح.
ليس هذا فحسب، وإنما ساهمت الأوضاع السياسية المرتبكة، وإن بشكل غير مباشر في توسيع نطاق الانتهاكات والتجاوزات الخارجية للسيادة الوطنية، بحجة ملاحقة الجماعات المعارضة المسلحة التي تتخذ من الأراضي العراقية منطلقاً لتنفيذ عمليات عسكرية وأمنية في داخل بعض بلدان الجوار، وهو ما عقّد مشاكل وأزمات إقليم كردستان وأحرج الحكومة العراقية.
لا شك أن صورة نهاية عام 2022 بدت مختلفة إلى حد كبير-أو تماماً-عن صورة بداية العام. فالانسداد السياسي الذي عبر عنه تقاطع المواقف، واحتقان الشارع، وانعدام افق الحوار الجدي والبناء، والذهاب إلى خيار التأزيم سواء عن قصد أو غير قصد، والبحث في خيارات وحلول الخارج. كل ذلك جعل المشهد لا يبدو ضبابياً فقط بل قاتماً ومظلماً بصورة كاملة أو شبه كاملة.
وطبيعي أنه ثمة عوامل وظروف ربما لم تتبين وتتضح للعيان بالقدر الكافي، ساهمت مجتمعة في نزع فتيل الأزمة وإنهاء الانسداد والانتقال إلى مرحلة الانفراج.
وإذا كان العنوان الأبرز لمشهد عام 2020 هو جائحة كورونا، والعنوان الأبرز لمشهد عام 2021 هو الانتخابات البرلمانية المبكرة، والعنوان الأبرز لمشهد عام 2022 هو الانسداد السياسي، فإن الانفراج وما يمكن أن يترتب عليه ويفضي إليه من نتائج ومعطيات ومخرجات يمكن أن يكون العنوان الأبرز لمشهد العام الجديد 2023. فهناك حزمة فرص ومعها حزمة تحديات، ينبغي على حكومة السوداني-والإطار التنسيقي الذي انبثقت منه-أن تحسن استثمار الأولى(الفرص) لكي تنجح في التغلب على الثانية(التحديات).
فمن بين الفرص المتاحة أمامها، الدعم والتأييد السياسي والجماهيري الواسع لها، وغياب المعارضة المعرقلة والمعوقة لعملها-حتى التيار الصدري يبدو أنه ارتأى أن يتيح لها فرصة تطبيق برنامجها الوزاري-والاستفادة من الوفرة المالية المتحققة من خلال ارتفاع أسعار النفط، والمواقف الإيجابية إزاءها على الأصعدة الإقليمية والدولية المختلفة.
أما التحديات، فتتمثل في مكافحة الفساد المالي والإداري بصورة حقيقية بعيداً عن التسييس والمجاملات والمساومات، وكيفية حسم ومعالجة الملفات العالقة منذ أعوام، ولا سيما مع إقليم كردستان، والمتعلقة بتصدير النفط والمناطق المتنازع عليها وضبط الحدود، ومسألة وجود الجماعات والحركات الأجنبية المسلحة المعارضة لحكومات بعض دول الجوار، والنهوض بالقطاعات الزراعية والصناعية ووضع حد لهدر الموارد والثروات من جراء تفشي الفساد وسوء الإدارة والتخطيط، ومنع عودة الإرهاب التكفيري "الداعشي" الذي ما زالت جذوره قائمة. وفي موازاة ذلك كله التهيّؤ لإجراء انتخابات برلمانية جديدة في غضون عام أو عام ونصف العام، فضلاً عن انتخابات مجلس المحافظات التي تم تعليق أو تجميد عملها حتى قبل أن يصوت البرلمان السابق على حلها في أواخر شهر تشرين الأول/أكتوبر من عام 2019، هذا إلى جانب قضايا وملفات أخرى تفصيلية تندرج ضمن العناوين المشار إليها.
وفوق هذا وذاك، فإن الحكومة الاتحادية في بغداد لن يكون بإمكانها غض الطرف وإدارة الظهر عمّا يمكن أن تؤول إليه الأمور في إقليم كردستان، في ظل التناحر السياسي الداخلي وغياب الثقة بين الفرقاء الكرد، وعموم الأوضاع القلقة هناك.
وفي حال لم تنجح حكومة السوداني -لا سمح الله-بتحويل التحديات إلى فرص، فإن عنوان الانفراج للعام الجديد سيصبح الانسداد مرة أخرى، وعندئذ يمكن أن تختلط كل الأوراق، وتضيع معها المسارات، وتختل وتضطرب الأولويات من جديد.