عجز القرار السّيادي.. هكذا ذهبت البحرين باتجاه التّطبيع مع "إسرائيل"
منذ آذار/مارس 2011 ودخول "درع الجزيرة"، صودر القرار السيادي للبحرين بشكل أو بآخر، وظلت السعودية والإمارات تتحكّمان في الخطوط العامة للسياسة الخارجية للبلاد.
في هذا المقال، أحاول أن أستقرئ العوائق التي تقف أمام تشكّل قرار سيادي للبحرين، سواء كان داخلياً أو خارجياً. يتوزع المقال على 3 أفكار رئيسية: الاستعباد الاقتصادي الخارجي والفساد الداخلي، والعقيدة الأمنية تجاه مطالب التغيير والقضية الدستورية، وأخيراً التطبيع مع الكيان الصهيوني.
لماذا لا تتمتّع البحرين بسياسة مستقرّة؟
يربض هذا الاستفهام على كومة من التساؤلات الملحة. وإذا جمعناها، فإننا نتمكّن من التعرف إلى وضع البحرين؛ البلد المعتمد على النفط بشكل كبير، والذي يأتي 80% منه من حقل أبو سعفة الخاضع للسيطرة السعودية، إذ تعطي المملكة البحرين 150 ألف برميل يومياً.
بالرجوع إلى ما قبل العام 2011، فإن أرخبيل البحرين الذي تشعّ عليه شمس الخليج الحارقة، لا يخلو من مظلة سياسية من دولة من الدول ذات الحجم السياسي الكبير، فمن الإمبراطورية البريطانية إلى تمركز الأسطول الخامس الأميركي في العام 1995، أي في فترة الفتور السياسي بين الدولة برئاسة أمير البحرين السابق عيسى بن سلمان والمعارضة التي يتصدّرها علماء الدين من الطائفة الشيعية، ظلت البحرين مرتهنة بين قرار لندن وواشنطن.
في العلوم السياسيّة، يسوّق لجوء الدول الصغيرة إلى الدول الكبيرة على أنه طبيعي، بحكم أن اللعبة الدولية لا تقف على خطف المكاسب الاقتصادية وتنمية المجتمع، بل تعتمد بشكل أساس وصارم على تمديد النفوذ. من هنا، تدرك الدول الصغيرة أنّها ما لم تلجأ إلى دولة كبيرة في عقد التحالفات (وخصوصاً العسكرية)، ستصبح ورقة في مساومة الجيوبوليتيك الفاقد للرحمة والبعيد عن أيِّ بعد إنسانيّ.
بهذا النوع من الفهم، يبدو طبيعياً أن تكون البحرين في حماية دولة مهيمنة ورأس للناتو وأول اقتصاد، كالولايات المتحدة الأميركية، على الأقل في حسابات الجغرافيا والتاريخ اللتين عجنتهما بريطانيا مع فرنسا، وسلّمتهما لأميركا على طبق "سايكس بيكو".
بالطبع، إنَّ الثمن المدفوع هو التّماهي مع السياسة المهيمنة لواشنطن على البحرين (وعلى دول الخليج عمومًا)، لكن منذ الاستقلال، في 15 آب/أغسطس 1971 وحتى لحظة 2011، لم تتأرجح السياسة الخارجية للبحرين، بحكم أن تماهيها مع دولة عظمى لا يدخلها في مغامرات قد تبدو لاحقاً غبية، على الأقل بشكل فاقع.
ماذا حدث للقرار السيادي بعد العام 2011؟
منذ آذار/مارس 2011 ودخول "درع الجزيرة"، صودر القرار السيادي للبحرين بشكل أو بآخر، وظلت السعودية والإمارات تتحكّمان في الخطوط العامة للسياسة الخارجية للبلاد.
كلّ مؤشرات الصداقة والعداء ينبغي أن تمضي بتوقيع سعودي أو بختم إماراتي، فعلاقة البحرين مع إيران ومصر وقطر كانت تمشي بخطى "سياسة التبعية" للرياض وأبو ظبي، بل حتى في التصريحات التفصيلية تجاه إيران وقطر مثلاً، فإن البحرين تنتظر الموقف السعودي لتعبّر عن وجهة سياستها التي تأتي مطابقة، لكن ليت الأمر توقَّف على "الريتويت" الخالي من أيِّ بصمة محلية، فقد ظلت السلطة في البحرين مرهونة للقرار الخارجي بضغط الاقتصاد أيضاً.
الاقتصاد المطعون برمحين والمعلّق بالاستعباد
ظلَّ اقتصاد البحرين مطعوناً برمحين لا يمكن الفكاك منهما بيسر؛ أول رمح يطعن في جسد الدولة هو فساد العائلة الحاكمة، التي لا تُعرف حجم ثروتها، لكنّ المواطنين يرون الأملاك الخاصة المسوّرة جيداً لآل خليفة، كما أنّ الأراضي البحرية (دفن البحار) والتوسّع في هذا الاتجاه لمصلحة أفراد بعينهم من العائلة علامة إضافية على ذلك الفساد، وما يرشح من تقارير يعتدّ بها عن حجم استثماراتهم وضخامتها، كلّها تشي بأمر مهول ينهش اقتصاد البحرين الذي يمثل الاقتصاد الأضعف تقريباً بين دول مجلس التعاون.
في تشرين الأول/ديسمبر 2014، نشرت صحيفة "الفايننشال تايمز" الأميركية تقريراً بعنوان "صفقات الأراضي في البحرين: خيمياء صناعة المال من الرّمال"، يؤكد استثمارات مجموعة "بريمير" التي تعود ملكيتها إلى الملك حمد نفسه، والتي تستثمر المليارات داخل البحرين وخارجها، وخصوصاً في بريطانيا. وتعتبر هذه الاستثمارات إحدى نوافذ الفساد المفتوحة على ميزانية البلاد.
وقد أعطى ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة لنفسه فقط الحق في وهب أراضي الدولة للأفراد والمؤسسات. وبهذا القانون الصادر في العام 2002، وهب الملك عدة أراضٍ كبيرة لمجموعة "بريمير" التي تعود إليه كمُلك خاص.
الفساد المتعلّق بأفراد العائلة الحاكمة لا يمكن حصره في مقال، كما ذكر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في حديث إلى ولي العهد البحريني سلمان بن حمد، أثناء زيارة الأخير للبيت الأبيض في أيلول/سبتمبر 2019: "تمتلكون 700 مليار دولار. إنها أموال طائلة. أليس كذلك؟"، فردَّ ولي العهد ضاحكاً: "نعم، إنها كذلك".
الرمح الثاني الطاعن في جسد الاقتصاد هو التجنيس السياسي المتفاقم، الذي لم يوضع وفق خطة تنمويَّة، إنما قُدم كخطة سياسية لتغيير التركيبة الديمغرافية. هذا ما كشفه التقرير الشهير المعروف بـ"تقرير البندر"، والذي أصدره مستشار الملك الدكتور صلاح البندر في العام 2006. وقد طُرد على أثرها من البلاد، واستقرَّ في بريطانيا التي يحمل جنسيتها. إنَّ حجم المبالغ الطائلة التي تخرج من البلاد من خلال المجنسين، تُقدّر بعشرات الملايين من الدولارات، إضافةً إلى العمالة الأجنبية غير المنضبطة، والتي تفتقد القياس التنموي الملائم لاقتصاد البلد.
في خضمّ ترنّح الاقتصاد البحريني بين ذينك الرمحين وعدد من المشاكل الأخرى، كانخفاض سعر النفط وتفشي كورونا والركود العالمي، علّقت السعودية والإمارات شقيقتهما الصغرى بخيط الاستعباد الاقتصادي، إذ إنَّ السياسة السعودية في دعم البحرين تجاوزت مرحلة الابتزاز، ووصلت إلى مرحلة الاستعباد، فحاجة البحرين إلى الانتعاش والخروج من الركود لا تتطلَّب سوى سدّ العجز وإيجاد فرص استثمارية.
كلّ ذلك لا يكلّف السعودية مصاريف 3 أشهر مما تنفقه في عدوانها على اليمن، فوضع الاقتصاد البحريني مزرٍ، حتى وصل الدين العام للمنامة في آخر تقرير لصندوق النقد الدولي في آذار/مارس من العام الجاري إلى نسبة 133%. أما العجز المالي الكلي، فوصل إلى 18.2%.
العقيدة الأمنية للأسرة الحاكمة
منذ انطلاق شرارة ثورة البحرين في العام 2011، المطالِبة بتغيير جذري يمكّن الشعب من المشاركة في القرار وتقاسم الثروة ومحاربة الفساد، صار لدى بيت الحكم عقيدة أمنية صارمة، وباتت تلك العقيدة مترجمة بشكل جلي في حزمة من الإجراءات الأمنية والقانونية التي اتُخذت طوال عقد من الزمن. ومن تلك الإجراءات نزع جنسية المئات من المواطنين الفاعلين في الحراك، من بينهم علماء دين وأكاديميون ومثقفون وإعلاميون ونشطاء حقوق إنسان، وقمع كلّ من يرتفع صوته بشتى صور القمع.
وقد راح ضحية الأحداث عشرات الشهداء وآلاف المعتقلين، كما أنّ الدولة أغلقت كلّ الجمعيات السياسية التي أيّدت الحراك. ولاحقاً، تم إصدار قانون العزل السياسي المفضي إلى عدم تمكين أيّ منتسب إلى الجمعيات المغلقة من المشاركة السياسية أو الالتحاق بالجمعيات الخيرية الاجتماعية.
كلّ هذه الإجراءات تمثّل غيضاً من فيض العقيدة الأمنية المفضية إلى تفتيت المعارضة الوطنية، لكن مع وجود ضغوط غربية مؤخراً على السلطة في البحرين، فإنَّ الأخيرة تحاول رسم مسار لإيجاد معارضة طيّعة أشبه بالشكلية، تتحدَّث كثيراً عن الخدمات، وتصمت عن جوهر المأساة، أي القضية الدستورية وما ينتج منها من تداعيات وآثار تلقي بظلالها على القانون والحرية وطريقة الممارسة السياسية.
أعتقد أنَّ هذا ما التفت إليه ملياً آية الله الشيخ عيسى قاسم، حين أصدر بياناً في شهر أيلول/سبتمبر الماضي، دعا فيه المعارضة إلى عدم التفرّج على الوضع وتوحيد الصفوف وإيجاد رؤية واضحة ومنتجة لإصلاح الوضع.
الهرولة نحو "إسرائيل".. السّراب الأخير
تبيَّن مما سبق أنَّ العائلة الحاكمة وجهازها السياسيّ محصوران بين أمرين؛ الأول هو تبعية اقتصادية للسعودية والإمارات تفضي إلى تبعية سياسية بالتأكيد، والآخر هو سباق مع الزمن للانتهاء من تفتيت المعارضة والاستجابة - في الوقت نفسه - للضغوط الغربية بإيجاد حلول مقبولة تحسّن وضع حقوق الإنسان والحريات السياسية في البلد.
بين هاتين الكمّاشتين، وجدت السياسة الخارجية البحرينية نفسها في حضن الصهاينة، فهو اتباع لسياسة إقليمية بالتطبيع تقودها السعودية، وفي الوقت نفسه محاولة للتنفس، لعلَّ رشفة مالية ترشح وجه الاقتصاد المتصحر في المنامة أو رشحة سياسية تقلّل من ضغوط واشنطن ولندن على بيت الحكم، والمضي في هذا السراب اتخذته البحرين بشكل مبالغ فيه، بحيث بدا وكأنه احتفاء مهرجاني لا تطبيع سياسي، وسط احتجاجات شعبية غاضبة على هذا الارتماء المهين في حضن الكيان الغاصب.
إذاً، المعارضة البحرينية اليوم إزاء متغيرات جمة تتطلَّب تكوين رؤية وطنية غير تقليديّة أبداً لإصلاح وضع تجاوز مرحلة العوار، وبدأ بعض أجزائه بالتسرطن، ما يلقي مسؤولية كبيرة على المتصدّين، في ظلِّ مضي البحرين إلى وجهة مجهولة العواقب في سياساتها الخارجية.