طوفان الأقصى وموقف اليسار في أميركا اللاتينية
في حين طَغَت مشاهد التظاهرات التي ترفع أعلام فلسطين في شوارع تشيلي والأرجنتين، عكسَت ردود الفعل الشعبية والدبلوماسية في كوبا وفنزويلا تضامناً كبيراً مع الفلسطينيين.
شاهَد ويُشاهد المتابعون لملحمة طوفان الأقصى المستمرة، عبر شبكات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، تظاهرات في جميع أنحاء المعمورة ترفع أعلام فلسطين وتندّد بممارسات الاحتلال الصهيوني، وفي حين قوبلت هذه التظاهرات بالقمع في كثير من دول أوروبا وأميركا الشمالية، مصحوباً بسيول من التصريحات التي تعكس نظرة الرجل الأبيض ومنافعه الاستعمارية من وراء وجود الكيان الصهيوني كقاعدة استعمارية للإمبريالية في المنطقة، كان المشهد في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي مختلفاً سواء على الصعيد الشعبي أو الدبلوماسي.
وفي حين طَغَت مشاهد التظاهرات التي ترفع أعلام فلسطين في شوارع تشيلي والأرجنتين، عكسَت ردود الفعل الشعبية والدبلوماسية في كوبا وفنزويلا تضامناً كبيراً مع الفلسطينيين، وعبَّر الموقف الدبلوماسي في بوليفيا عن ميوعة سياسية إزاء الحدث على عكس الموقف الشعبي المؤكِّد للحقّ الفلسطيني، وأوضح التصعيد الدبلوماسي بين كولومبيا و"إسرائيل" وجود مكتسبات أخرى لملحمة طوفان الأقصى لم نكن نتوقّعها تتخطى جغرافيا الوطن العربي، فيما عكس الموقف الدبلوماسي البرازيلي الأزمة السياسية الداخلية في البرازيل موضحاً النفوذ اليميني الطاغي وحدود آفاق تضامن حزب العمال اليساري مع المقاومة الفلسطينية.
الموقف في كوبا وفنزويلا وبوليفيا
قطعت كوبا علاقتها مع الكيان الصهيوني خلال قمة حركة عدم الانحياز المنعقدة في الجزائر عام 1973، وهي الدولة الوحيدة في الأميركيتين التي لا تعترف اليوم بـ "إسرائيل كدولة"، أما فنزويلا فقد قطعت علاقتها بالكيان الصهيوني في أعقاب عملية الفرقان بين عامي 2008-2009 وأقامت علاقات دبلوماسية مع السلطة الوطنية الفلسطينية في نيسان/أبريل 2009. أما بوليفيا التي قطعت علاقتها بالكيان الصهيوني وصنَّفَت "إسرائيل كدولة إرهابية" في كانون الأول/ ديسمبر 2008 تحت قيادة إيفو موراليس، فموقفها اليوم ليس واضحاً خاصة مع تصريح وزير الخارجية البوليفي روجيليو مايتا هذا العام أكثر من مرة عن نية بلاده إعادة العلاقات الدبلوماسية مع "إسرائيل"، إلا أن البلاد لم تتخذ خطوات عملية للقيام بذلك حتى الآن.
شهدت الدول الثلاث تظاهرات وفعّاليات شعبية مختلفة منذ الليلة الأولى لملحمة طوفان الأقصى نصرةً وتأييداً للشعب الفلسطيني، وتنديداً بالعدوان الصهيوني الغاشم عليه في قطاع غزة والضفة الغربية، وبينما أدانَت حكومتا كوبا وفنزويلا الاعتداء الصهيوني في بيانات وتصريحات عديدة، طَغى الموقف الشعبي مع موراليس على المشهد في بوليفيا مقابل الموقف الدبلوماسي المائع سياسياً على حد تعبير موراليس، وغياب أي تصريح للرئيس البوليفي الحالي لويس آرسي.
أصدرت وزارة الخارجية الكوبية بياناً مساء اليوم الأول من المعركة جاء فيه "تعرب جمهورية كوبا عن قلقها العميق إزاء تصاعد العنف بين إسرائيل وفلسطين الذي جاء كنتيجة لـ 75 عاماً من الانتهاك الدائم لحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتنازل، وسياسة إسرائيل العدوانية والتوسعية". ويوم الأحد الماضي أصدرت الوزارة بياناً آخر تؤكِّد فيه إدانتها للعدوان وضرورة بحث فُرص التهدئة والسلام وفق حل الدولتين، ونَشر الرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل منشوراً على حسابه في إكس جاء فيه "نكرّر قلقنا العميق إزاء تصاعد العنف بين إسرائيل وفلسطين نتيجة لعقود من الممارسات الإسرائيلية الاستعمارية وغير القانونية في انتهاك صارخ لحقوق الشعب الفلسطينيّ التي لا يمكن التفريط فيها".
وأصدرت رئاسة الجمهورية في فنزويلا مساء اليوم الأول من المعركة بياناً جاء فيه "تُعرِب جمهورية فنزويلا البوليفارية عن قلقها العميق إزاء تطوّر الأحداث الأخيرة في قطاع غزة"، ودَعَت إلى "إيجاد حلٍ سريع لحالة العداء والمواجهة الحرجة، وإنهاء العنف في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية من خلال الحوار المباشر، والامتثال لقرار مجلس الأمن رقم 2334 الذي يطالب إسرائيل بوضع حدٍ فوريّ وكامل لجميع أشكال العنف الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية".
وجاء في حديث الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو مساء الثلاثاء الماضي في برنامجه التلفزيوني على شاشتي تيليسور والميادين "قصفٌ عشوائي لتدمير المباني التي تعيش فيها عائلات ومدنيون ما يدل على تصعيد جديد. لقد شاهدنا في الماضي مجازر وحشية ضد الشعب الفلسطيني، وقد مرَّ 75 عاماً على أكبر عملية سَلبٍ معروفة في التاريخ هي سلبُ الأرض الفلسطينية".
أما في بوليفيا فكان الموقف الدبلوماسي مخيباً للآمال. على مرّ الأعوام الثلاثة الماضية، وجَّه موراليس العديد من الانتقادات لآرسي وحكومته بسبب غياب أو ميوعة الموقف الدبلوماسي البوليفي إزاء الممارسات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية. من المهم هنا لفت الانتباه إلى أن الحركة نحو الاشتراكية التي رفضت ترشيح موراليس في الانتخابات الرئاسية السابقة ورشَّحت آرسي بدلاً عنه، قرّرت الشهر الماضي الدفع بموراليس مرة أخرى في الانتخابات الرئاسية المُزمع عقدها عام 2025.
ورداً على بيان وزارة خارجية بلاده الصادر مساء اليوم الأول من المعركة الذي عبَّرت فيه بوليفيا عن "قلقٍ عميق بشأن العنف في قطاع غزة بين إسرائيل وفلسطين"، نَشر موراليس صورة لفلسطينيّ يحمل علم فلسطين ويقف على دبابة صهيونية كانت المقاومة قد أسرَت من فيها صباح هذا اليوم وكَتب "يؤسفني أن بيان وزارة الخارجية البوليفية لا يدين بشكل متماسك سياسياً الوضع الحقيقي الذي يمرّ به الشعب الفلسطيني. نحن نُدين من بوليفيا الممارسات الإمبريالية والاستعمارية للحكومة الإسرائيلية الصهيونية".
الموقف في كولومبيا
في صباح اليوم الأول للمعركة، أصدر وزير الخارجية الكولومبية ألفارو ليفا بياناً جاء فيه أن كولومبيا "تدين بشدة الإرهاب والهجمات ضد السكان المدنيين"، ولكن بعد ساعات قليلة استُبدِل البيان بآخر لم يستخدم كلمة "الإرهاب". وبعد اتضاح المعالم الأولى لملحمة طوفان الأقصى وتوارد الأخبار والبيانات والمشاهد مساء اليوم الأول، بدأ الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو في حسابه على إكس ومنصات التواصل الاجتماعي الأخرى حملة واسعة للتضامن مع الفلسطينيين؛ يُشير إحصاء صدر صباح هذا الأحد أن حجم تفاعل بيترو تضامناً مع فلسطين تخطَّى على إكس وحده 200 منشور وتعليق وإعادة نشر شملت صوراً وفيديوهات للشهداء والقصف الإسرائيلي على غزة.
في البداية، أعاد بيترو في حسابه على إكس تذكيرنا بخطابه في الأمم المتحدة عن نفاق القوى العالمية التي "تتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين بشكل مختلف عن معاملتها للاحتلال الروسي في أوكرانيا"، وأعاد تأكيده مطلَب حكومته "بوقف الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وتفعيل اتفاقيات السلام المنسيَّة"، وأعرَب عن غضبه لأن "إطلاق إسرائيل للصواريخ وارتكابها للمذابح بحق المدنيين في غزة والضفة الغربية يُعتبر بمثابة دفاع عن النفس، في حين يُتهم الفلسطينيون بالإرهاب إذا فعلوا ذلك".
واحد من المنشورات اللافتة التي شاركها بيترو تضمَّنت "لقد اخترعَت المملكة المتحدة بغطرستها دولةً في فلسطين وفرضتها من دون أي اعتبار للأمة"، ورداً على رسالة من السفير الإسرائيلي في كولومبيا غالي داغان قال فيها "نأمل أن تدين الدولة الصديقة بقوة ووضوح الهجوم الإرهابي ضد المدنيين الأبرياء في إسرائيل"، كَتب بيترو في إكس منشوراً أدان الهجوم من الجانبين وتضمَّن "الإرهاب يقتل الأطفال الأبرياء سواء في كولومبيا أو في فلسطين"، وفي ردٍ آخر على طلب السفير الإسرائيلي منه المساعدة في الإفراج عن الأسرى كتب بيترو "نحن على استعداد للمساعدة، الحكومة الكولومبية ملتزمة بضمان عدم وجود رهينة واحدة في كامل أراضي فلسطين وإسرائيل".
لم يتوقّف الأمر عند هذا الحد، وناهيك عن عشرات التفاعلات لبيترو التي استفزَّت المسؤولين الإسرائيليين وتضمَّنت تشبيه ممارسات وتصريحات الاحتلال الحالية بالممارسات والتصريحات النازية، استدعى وزير خارجية الاحتلال إيلي كوهين السفيرة الكولومبية لدى "إسرائيل" مارغاريتا منخاريز بسبب تصريحات الرئيس بيترو، وإلى جانب ذلك أعلنت الحكومة الإسرائيلية وقف الصادرات الأمنية لكولومبيا، بما يشمل استيراد المعدات والتكنولوجيا الدفاعية وبرامج مشاركة المعرفة والتدريب، في تطور خطير وهام للمشهد في كولومبيا.
ومباشرة بعد دقائق من إعلان وزير خارجية الاحتلال لهذه التطورات في منشور على حسابه في إكس يوم الأحد، جاء رد بيترو بإعادة نشر المنشور وتثبيته على رأس حسابه مُعلِّقاً بالتهديد "إذا اضطُرِرنا إلى تعليق العلاقات الخارجية مع إسرائيل، فإننا نعلّقها. نحن لا نؤيد الإبادة الجماعية، ولا يمكن إهانة رئيس كولومبيا". وسرعان ما وصل الأمر أمس إلى أن يطلب وزير الخارجية الكولومبي من السفير الإسرائيلي مغادرة البلاد.
أخذت العلاقات الكولومبية الإسرائيلية تتشكّل دبلوماسياً خلال منتصف خمسينيات القرن المنصرم، وتوسّع التعاون الاقتصادي مع توقيع الاتفاقيات الثنائية في عام 1994، ونشأت علاقات قوية في مجالات شملت المحاصيل والمدخلات الزراعية والدفاع والأمن السيبراني إلى جانب التبادل التكنولوجي والابتكار اللذين يشكّلان الحيِّز المحوري في العلاقة. وفي السنين الماضية جاهدت حكومة الرئيس الكولومبي الأسبق إيفان دوكي في تعزيز تلك العلاقات عبر زيارات متعددة وإقامة أكثر من مركز للتعاون بين كولومبيا و"إسرائيل". في هذا الإطار، تتضح أهمية وفرادَة موقف بيترو من اعتداءات الاحتلال على قطاع غزة، ولا بدّ أن يتأمله العرب جيداً.
في جميع تفاعلاته، لم يَتهم بيترو المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، وإنما اكتفى بإدانة قتل واختطاف المدنيين في نسبة ضئيلة منها. وبالمقابل، مثَّل موقفه إزاء مذابح الاحتلال في غزة تطوراً وتصعيداً ملفتاً في العلاقات الكولومبية الإسرائيلية، ولا يمكننا تجاهل المشهد بما يحمله من مفاعيل ومضامين تؤكِّد الحق الفلسطيني، حتى وإن كان يقف دبلوماسياً عند حدود قرارات الأمم المتحدة وحل الدولتين.
غوستافو بيترو ليس رئيساً كولومبياً عادياً، وناهيك عن مشاركته في الكفاح المسلّح لليسار الكولومبي وأيضاً مسيرته السياسية فيما بعد، كان فوزه في الانتخابات الرئاسية في حزيران/يونيو 2022 تعبيراً عن نقلة نوعية لليسار في أميركا اللاتينية، فكولومبيا دائماً ما كانت رأس حربة واشنطن والشريك الأساسي واليَد اليُمنى للولايات المتحدة في حظيرتها الخلفية كما أشار مسؤولون أميركيون.
يُمثِّل التصعيد الدبلوماسي الأخير مع ما صاحبه من وقف الصادرات الأمنية الإسرائيلية إلى كولومبيا، وتهديد الرئيس الكولومبي بتعليق العلاقات مع "إسرائيل"، ثم طلب وزير الخارجية الكولومبي من السفير الإسرائيلي مغادرة البلاد، خطوة بالغة الأهمية بالنسبة إلينا في العالم العربي.
يبدو أن ملحمة طوفان الأقصى المستمرة لا تفتح الباب أمام القضاء على نظرة العرب لأنفسهم من ثُقب إبرَة السردية الغربية والصهيونية الرائجة التي تضع صورة فانتازية مسبقة عنّا وتحتقرنا وتعتبرنا بمثابة "حيوانات" وحسب، وإنما تزيل الستار للعالم أجمع عن كيانٍ استيطانيّ إحلاليّ متوحِّش، ولكنه ضعيف، أوهن من بيت العنكبوت ولا يأبه حتى بجنوده في الميدان أو أسراه لدى المقاومة الفلسطينية.
بهذه الطريقة، يمكننا تفسير موقف بيترو الذي يُغامر بتبادل تجاري بالغ الأهمية لاقتصاد بلاده في سبيل أن يقف العالم أجمع ليُعيد النظر ويتأمل الحق التاريخي المشروع للفلسطينيّ في أرضه.
الموقف في البرازيل
في مساء اليوم الأول للمعركة، كَتب الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا على حسابه في إكس "صُدِمتُ من الهجمات الإرهابية اليوم ضد المدنيين في إسرائيل التي أوقعت العديد من الضحايا، أُعرِب عن تعازيَّ لأسر الضحايا وأؤكد مجدّداً رفضي للإرهاب بجميع أشكاله". وأعرَب عن نية بلاده منع تصعيد الصراع والعمل على "الاستئناف الفوري للمفاوضات التي تؤدي إلى حلٍّ للصراع يضمن وجود دولة فلسطينية قادرة على البقاء اقتصادياً وتتعايش بسلام مع إسرائيل".
جاء ذلك مباشرة بعد أن دَعَت البرازيل التي تتولى الرئاسة الدورية لمجلس الأمن هذا الشهر إلى اجتماع طارئ للمجلس "يبحث الصراع بين إسرائيل وحركة حماس"، فيما أصدرت وزارة الخارجية البرازيلية بياناً أكّدت فيه "الالتزام بحل الدولتين".
وبين الـ 11و12 من تشرين الأول/أكتوبر، بدأت البرازيل في تنفيذ خطة تتضمن إرسال 6 طائرات عسكرية لإجلاء البرازيليين من الأراضي المحتلة بعد أن طَلَب أكثر من 1800 برازيلي المساعدة من سفارتهم في مغادرة الأراضي المحتلة، إلى جانب التقاء وزير الخارجية البرازيلي ماورو فييرا برئيس الوزراء المصري سامح شكري حيث طلب منه إرسال حافلة إلى معبر رفح لنقل أكثر من 30 برازيلياً موجودين في قطاع غزة.
وفي الـ 11 من تشرين الأول/أكتوبر كَتب دا سيلفا في إكس "على حماس إطلاق سراح الأطفال الإسرائيليين المخطوفين من عائلاتهم، وعلى إسرائيل أن توقِف القصف حتى يتمكّن الأطفال الفلسطينيون وأمهاتهم من مغادرة قطاع غزة عبر الحدود مع مصر".
وفي اليوم التالي أجرى دا سيلفا مكالمة هاتفية مع رئيس الاحتلال إسحاق هرتزوغ أكّد له فيها "إدانة البرازيل للهجمات الإرهابية وتضامنها مع أسر الضحايا" وشدّد على ضرورة "ألا يصبح الأبرياء ضحايا للمجانين الذين يريدون الحرب"، وطَلَب منه "إقامة ممرٍ إنساني حتى يتسنى لمن يريدون مغادرة قطاع غزة عبر مصر المغادرة بأمان".
وبالمقابل، أجرى دا سيلفا مكالمتين هاتفيتين مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره الفلسطيني محمود عباس الأحد الماضي مؤكداً لهما دعمه للقضية الفلسطينية وحل الدولتين، وأدان "الهجمات الإرهابية وعمليات سلاح الجو الإسرائيلي"، وشدّد على ضرورة "إقامة ممرٍ إنساني وإطلاق سراح الرهائن"، وطَلَب تسهيل خروج البرازيليين من قطاع غزة. وفي تطور هام للموقف، امتنعت البرازيل في اجتماع مجلس الأمن المنعقد مساء أمس عن التصويت على مشروع قرار روسي يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة ولم يتضمَّن توجيه الاتهامات لحركة حماس.
من الواضح أن الموقف البرازيلي ملتزم دبلوماسياً إلى أقصى درجة، في حين جاءت تصريحات دا سيلفا، التي اعتبر فيها ملحمة طوفان الأقصى بمثابة عملية إرهابية، متبوعةً بامتناع البرازيل عن التصويت في مجلس الأمن، صادمة للعديد من المتابعين العرب، ولكن الأمر يرتبط بعوامل سياسية داخلية في البرازيل. فخلال العقدين الماضيين، بدأت حركة يمينية بروتستانتية في البرازيل بتقديم فكرةٍ عن "مسيحية يهودية" لاقت بسرعة دعماً من الولايات المتحدة والفاشيين واللوبي اليهودي والإنجيليين في البرازيل.
لهذا السبب على دا سيلفا أن يكون حريصاً في حديثه عن المقاومة الفلسطينية وموقفه الدبلوماسي إزاءها، إذ استطاع اليمين البرازيلي من خلال الدعم الأميركي واليهودي والتجييش الإعلامي أن يتربَّص بدا سيلفا واتهمه زوراً بقضية مفبركة ما منعه من الترشح في الانتخابات الرئاسية قبل الأخيرة، غير أنه استطاع اختراق المجتمع البرازيلي ونصَّب جايير بولسونارو رئيساً في تشرين الأول/أكتوبر 2018.
كان فوز بولسونارو بالانتخابات الرئاسية البرازيلية الحدث الذي مثّل بداية فصل جديد في تاريخ العلاقات البرازيلية الإسرائيلية مع ارتفاعها إلى أعلى مستوى، لدرجة أن رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو حَضَر حفل تنصيب بولسونارو في كانون الثاني/يناير 2019، فضلاً عن زيارة بولسونارو للأراضي المحتلة وظهوره المتكرّر حاملاً العلم الإسرائيلي في العديد من المناسبات بالبرازيل، ناهيك عن عشرات التصريحات المُلغّمَة التي عبّر من خلالها عن احتقاره للعرب وإدانته للمقاومة الفلسطينية؛ بهذا المعنى يمكننا أن نرى إلى أي مدىً يسيطر اليمين البرازيلي في الشارع وإلى أي مدى يستطيع المناورة في الانتخابات.
والإعلام البرازيلي مرتبط أشدَّ ارتباط بالمنظومة الإعلامية الإمبريالية، واستطاع تأدية دور كبير لصالح اليمين في المعارك الداخلية على مدار العقدين السابقين، كما أنَّه يُقدِّم السردية الغربية والصهيونية نفسها عن حركات المقاومة الفلسطينية.
والانتخابات الرئاسية المقبلة هي عامل حاسم بالنسبة إلى دا سيلفا وحزب العمال البرازيلي، وبالتالي يَصعُب ألّا يَصِف الرئيس البرازيلي في مثل هذا الموقف الحَرِج الملحمة العربية التحررية الجارية بالإرهاب، ناهيك عن عدم قدرته على اعتبارها جولة في صراع العرب ضد "إسرائيل" لأن أغلب البرازيليين يصدّقون السردية الغربية والصهيونية عن المقاومة الفلسطينية، الأمر الذي إن عبَّر عنه قد يَحِدُّ من شعبيته في الانتخابات الرئاسية المزمع عقدها عام 2026؛ وهذا كفيل بتفسير الموقف الأخير للبرازيل في جلسة مجلس الأمن مساء أمس.