صناعة الدول الفاشلة والحالة اللبنانية
لبنان، اليوم، يعدّ نموذجاً لصناعة الدول الفاشلة، عن سبق إصرار وتعمّد، وضمن استراتيجية واضحة معدّة في دوائر المتروبولات.
نعرف أنه ما من دولة تتمسك بسيادتها وجرى استهدافها من قبل الإمبرياليين وأدواتهم، حتى خضعت لما يمكن تسميته بـ"القاتل المتسلسل"، بدءاً من القاتل الاقتصادي ممثلاً بالبنك وصندوق النقد الدوليين وأدواتهما، مثل: الخصخصة والقروض وإعادة الهيكلة والتحريض ضد الشمولية، التي تعني في الواقع القطاع العام، وتدخّل الدولة في الاقتصاد أكثر من دلالاتها السياسية، مروراً بالقاتل الليبرالي (الثورات الملونة والجماعات التي اختطفت مفهوم المجتمع ونسبته إلى نفسها)، وانتهاءً بواحد من خيارين، بحسب كل حالة:
- القاتل التكفيري.
- الانقلاب العسكري، بعد دفع البلد إلى عنق الزجاجة.
مع الانهيار السوفياتي، أطلقت المتروبولات الرأسمالية، وفي مقدّمتها الإمبريالية الأميركية، استراتيجيةً جديدةً لإعادة إنتاج الهيمنة، عبر أشكال وأساليب جديدة، بينها نحت مصطلحات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، لإزاحة مصطلحات الحرب الباردة السابقة، وحركات التحرر وتوفير أدوات هذه الاستراتيجية وشروطها.
ومن هذه المصطلحات، ما عُرف بـ "قاموس أكسفورد" والقائمة الأخرى لمؤسسات مثل: راند، كارنيجي، المجتمع المفتوح، نيد وكانفاس وغيرها، بالإضافة إلى الدور المعروف للبنك وصندوق النقد الدوليين. فأصبحنا نسمع بمصطلحات مثل: إعادة الهيكلة، التمكين، الحوكمة، الصحافة الاستقصائية، الاستبداد الشمولي والدولة الفاشلة وغيرها.
وقد وظفت، من أجل ذلك، ماكينة ضخمة من المنابر الإعلامية، وصناديق التمويل الخارجي، وعملاء السفارات الأطلسية ومرتزقتها، والرجعية، وشاشات محميات النفط وحنفيات الغاز المسال.
ما إن تستهدف هذه الدولة أو تلك حتى تقوم أقلام الاستخبارات الأطلسية بدفع كل قواها وأدواتها ومنابرها ومرتزقتها ضد هذه الدولة، مرفقة بسياسات اقتصادية وتدخلات استخباراتية وعسكرية، من الحصار الاقتصادي وإخفاء المواد التموينية، وابتزاز العالم كله من حولها بعقوبات اقتصادية، إلى الحرب على الجبهة الإعلامية.
والأخطر من كل ذلك، إجبار الدولة المستهدفة على تبني سياسات بعينها تفاقم ديونها، وتعمق أزمتها بدلاً من حلّها، مثل الاستقراض لغايات استهلاكية وخدمية بدل الإنتاج، وإجراءات الخصخصة وهيكلة القطاع العام، ورفع الدعم عن السلع والخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة.
كما أظهرت اعترافات جون بيركنز، المستشار السابق في البنك الدولي، في كتابه "اعترافات قاتل اقتصادي" ما هو أعقد وأوسع من ذلك، وصولاً إلى الدولة الفاشلة.
يضاف إلى ذلك في حالة مثل لبنان، حملات أخرى من حملات التعبئة والشحن الطائفي والجهوي، انطلاقاً من حضور العامل الصهيوني في الحسابات الأميركية والأطلسية ورجعية النفط والغاز المسال، بل إن بعض الدوائر الأميركية راحت تتصرف بمنطق رعاة البقر، والثأر الإمبريالي من هذا البلد الذي أجبر الأميركيين على الانسحاب الذليل من أراضيه وشواطئه، مرتين: الأولى عام 1958 بعد الثورة الوطنية المسلحة، المدعومة من عبد الناصر، ضد حكم كميل شمعون، والثانية 1983 على يد مقاومين من الضاحية الجنوبية، بحسب التوصيف الأميركي.
إلى ذلك، وبالإضافة إلى القواسم المشتركة التي تربط لبنان بالدول المستهدفة، وما تبديه من أشكال مختلفة من مقاومة المصالح الإمبريالية، السياسية والاقتصادية وممانعتها، كما في أميركا اللاتينية وشرق المتوسط، ناهيك ببلدان من مستوى الصين وروسيا الأوراسية وروسيا البيضاء وكوريا الشمالية، فإن لبنان اليوم يعدّ نموذجاً لصناعة الدول الفاشلة، عن سبق إصرار وتعمّد، وضمن استراتيجية واضحة معدّة في دوائر المتروبولات وأقلام استخباراتها وأدواتها وشبكة عمالاتها الرسمية وغير الرسمية، وتتناغم في هذه الاستراتيجية إيقاعات شتى، من العمل الاستخباراتي إلى المنابر الإعلامية ومرتزقتها، إلى الضغوط والابتزاز السياسي والاقتصادي.
وإذا كان حزب الله، و التيار الوطني الحر ورئيس الجمهورية الجنرال ميشال عون وما أحدثه من انقلاب داخل المارونية السياسية، هم الهدف المباشر والمعلن، لذلك وانطلاقاً من القراءات والمصالح الصهيونية أساساً، فمن الوهم أيضاً أن يعتقد بعض اللبنانيين أن "إسرائيل" يمكن أن تسمح لهم ببناء لبنان أوروبي منافس لها، وهو ما حذر منه ميشال شيحا، أحد أهم المهندسين الأيديولوجيين للكيانية اللبنانية.
وفي كل الأحوال، فإن ما وصل إليه لبنان، وما يراد له من ترد غير مسبوق في الوضع الاقتصادي والاجتماعي والمالي والنفسي، هو عمل مدبّر، استغل بالتأكيد تركيبة الدولة وتمحور اقتصادها حول البنوك والخدمات والحصص الريعية، وما يرتبط بذلك من مناخات فساد موضوعية، تتغذى من تواطؤ الكومبرادور والبيروقراط معاً، لا سيما في ظل المحاصصات الطائفية المعروفة ولعبة السفارات الأطلسية والرجعية وأزلامها وأنصابها.
وليس بلا معنى أن يصمت المتواطئون من كل المستويات مع الأسئلة الساخنة، التي تؤكد السيناريو الطويل الممل والمكلف لتحويل لبنان إلى دولة فاشلة، وصولاً إلى صناديق اقتراع يائسة، أو نيران تمتد من أطراف الثوب إلى أعلاه، ومن هذه الأسئلة:
1- إذا كانت محميات النفط والغاز المسال ودموعها المدرارة، حريصة على لبنان وشعبه، لماذا لم تبادر إلى إرسال باخرة نفط واحدة، وتقطع الطريق على إيران وحزب الله ومبادرته؟
ولماذا لا يسأل أصدقاء سفارات (العروبة النفطية المفاجئة) أنفسهم هذا السؤال؟ بل لماذا لم يقوموا بتشكيل وفود من أجل ذلك، وتكليف الإعلاميين المرتبطين بهم بشن حملة عتب على الأصدقاء العرب توازي حملة الكراهية ضد حزب الله وأصدقائه؟
2- إذا كانت العواصم الأطلسية، مثل: واشنطن وباريس ولندن وبون، وسفن مخابراتها المتقدمة جداً التي لا تغادر سواحل لبنان، حريصة على معرفة الحقيقة بخصوص جريمة تفجير ميناء بيروت، لماذا لم تبادر إلى إرسال صور الأقمار الصناعية أو السماح بالكشف عنها، إذا ما قامت بإرسالها؟ ولماذا لا يقوم المتحمسون من أصدقاء هذه العواصم وعملائها بالإلحاح عليها من أجل كشف الحقيقة، إذا لم تكن تطالهم ويهربون منها إلى فبركة تحقيق على شاكلة ديتليف ميليس، وشهود الزور الذين جلبهم في قضية المرحوم رفيق الحريري؟
3- بدلاً من معاقبة لبنان بالجملة ومنع الاستيراد منه، لماذا لم تقم محميات النفط والغاز المسال بالاستنسابية (الانتقائية)، واختيار المنتجات والبضائع اللبنانية من مزارع أصدقائها ومصانعهم ومؤسساتهم، ما دامت تجمعهم بها العروبة النفطية المفاجئة، والتي كانت غائبة بالكامل عندما كان عبد الناصر هو عنوان هذه العروبة؟