صراع جنرالات السودان وشبح الحرب الأهلية في دارفور
إذا استمر عناد جنرالات الصراع في السودان، فسيتحول القتال إلى حرب أهلية بدأت ملامحها تتشكل في ربوع السودان عموماً، وفي عين العاصفة إقليم دارفور على وجه الخصوص.
تنبّأ رئيس الوزراء السوداني السابق عبد الله حمدوك في لقاء صحافي أجراه في 29 نيسان/أبريل الماضي بأن الصراع الحاصل في السودان قد يتحول إلى أسوأ حرب أهلية في العالم ما لم يتم وقفه مبكراً، قائلاً: "إن الصراعات في سوريا واليمن وليبيا ستبدو صغيرة مقارنة بما يمكن أن يؤول إليه الوضع في السودان". لم يكن قد مضى على اقتتال الجنرالين؛ قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، أكثر من أسبوعين آنذاك.
أما وقد مضى الصراع في السودان متخطياً شهره الثاني من دون أفق للحل، فإن نبوءة حمدوك عن الحرب الأهلية باتت قاب قوسين أو أقرب. هكذا أفضى سوء تقدير الجنرالات إلى تحول الخلاف السياسي إلى اشتباكات واقتتال. وإذا استمر عنادهم، فسيتحول القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع إلى حرب أهلية بدأت ملامحها تتشكل في ربوع السودان عموماً، وفي عين العاصفة منه، إقليم دارفور، على وجه الخصوص.
قراءة مآلات المشهد في السودان لم تكن بحاجة إلى نبوءة حمدوك، بعدما أسقط الجنرالان البرهان ودقلو كل مناهج التنبؤ والاستشراف في قتالهما، ذلك أن واحدة من أسوأ مخرجات النظام الدولي الراهن تقوم على إهدار هيبة الدولة وتفكيكها وتقسيمها وإشغال جيشها بالصراعات الداخلية، ثم الانقضاض عليها.
حدث ذلك في العراق وليبيا واليمن والصومال، وكاد يقع في سوريا. واليوم، يحدث في السودان. وقد تلاشت فيه هيبة الدولة وتأكلت في صراع لا منتصر فيه، فيما يتململ شبح الحرب الأهلية في دارفور، ليعيد إلى ذاكرة الشعب السوداني مآسي 20 عاماً مضت.
ككلّ المآسي في المنطقة العربية، تُرك السودان وحيداً يواجه مصيره. وكعادتها، اكتفت المنظمات الأممية والدولية بثالوث المشاهدة والتوصيف والتحذير. في 9 تموز/يوليو الجاري، حذرت الأمم المتحدة من حرب أهلية شاملة في السودان، وأعلن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أن "الحرب المستمرة بين القوات المسلحة دفعت السودان إلى حافة حرب أهلية شاملة قد تزعزع استقرار المنطقة بأكملها"، واكتفى رئيس أكبر وأهم منظمة دولية بالتوصيف ثم انزوى.
منذ 15 نيسان/أبريل، يشهد السودان معارك بين الجيش وقوات الدعم السريع أدت إلى مقتل أكثر من 2800 شخص ونزوح نحو 3 ملايين. رغم ذلك، لم يتوقف القتال بين الفرقاء، ولم يلتقط المجتمع الدولي بكل مكوناته مشاهد المجازر والجرائم التي ترتكب، حتى تدحرج المشهد في 13 حزيران/يونيو الماضي إلى قتل والي غرب دارفور خميس عبد الله أبكر الذي طالب قبل يوم من مقتله بالتدخل لوقف ما سمّاه بـ"الإبادة"، وتفرق دمه بين الجيش وقوات الدعم السريع، ليبدأ فصل جديد من الصراع الممتد من العاصمة الخرطوم إلى إقليم دارفور.
مؤشرات الحرب الأهلية في إقليم دارفور المكون من 5 ولايات، والذي يمتد على ربع مساحة السودان، لم تعد مجرد نبوءة سودانية أو تحذير أممي، فالتقارير الصادرة من هناك صادمة ومقلقة، ولا سيما أن الإقليم شهد حرباً أهلية طاحنة عام 2003 لم يتعافَ من تبعاتها تماماً بعد، وامتدت إلى أكثر من عقدين، وراح ضحيتها أكثر من 300 ألف مواطن سوداني.
الحرب الأهلية في دارفور مشتعلة منذ عقدين. هدأت فكانت جمراً تحت الرماد. نفخ فيها صراع البرهان ودقلو فاشتعلت من جديد. كانت قد بدأت عندما قامت جماعة من قبيلة المساليت الأفريقية - ينتمي إليها والي غرب دارفور أبكر- بتمرد مسلح على الرئيس عمر البشير عام 2003، فكان رده تسليح القبائل العربية وتنظيمها كقوة عسكرية سُميت حينها "الجنجويد".
وقد تطورت لاحقاً لتصبح قوات الدعم السريع بقيادة دقلو الذي ينتمي إلى قبيلة عربية تسمى الرزيقات. وقد قتل في السنوات الخمس الأولى من الحرب نحو 300 ألف شخص، وشرد أكثر من 2 مليون سوداني، فيما اعتُبر أول حرب إبادة في القرن الحادي والعشرين.
تم التوصل إلى اتفاق سلام في 3 تشرين الأول/أكتوبر 2020 في عاصمة جنوب السودان جوبا بين الحكومة السودانية والحركات المسلحة في إقليم دارفور، مع وعود بالمشاركة في السلطة وتمثيل عادل للمنطقة في الحكومة المركزية. تطرح الأحداث الدموية الحاصلة الآن في دارفور عدة تساؤلات حول مصير اتفاق السلام الموقع في جوبا وإمكانية العودة إلى الحرب الأهلية مرة أخرى.
قراءة مآلات المشهد في إقليم دارفور وحتمية سيناريو الذهاب إلى الحرب الأهلية من عدمه تقتضي التوقف عند حدثين مهمين؛ الأول تقرير أعدته قبيلة المساليت الأفريقية عن الأوضاع في الجنينة في الفترة الممتدة من 24 نيسان/أبريل وحتى 12 حزيران/يونيو، تتهم فيه قوات الدعم السريع بارتكاب معظم الانتهاكات في المدينة.
وأشارت المساليت في تقريرها إلى "إحراق وتدمير جميع مراكز إيواء النازحين البالغ عددها 86، إضافة إلى "نهب وإحراق قصر سلطنة دارمساليت"، مطالبة المجتمع الدولي بوضعه تحت "الوصاية الدولية". وأفاد التقرير بأنَّ "انعدام الأمن وغياب سيادة الدولة أديا إلى مقتل أكثر من 5 آلاف شخص وجرح ما لا يقل عن 8 آلاف شخص".
المقلق ليس ما ورد من حيثيات في تقرير قبيلة المساليت. في 27 حزيران/يونيو، ذكرت تقارير صحافية أن أفراد قبيلة المساليت في "إسرائيل" قلقون على أهلهم وأصدقائهم، وقال زعيم قبيلة المسالي في "إسرائيل" إسماعيل بركة: "لا يوجد إنترنت هناك، لكن ما زال لدينا اتصال بأشخاص يخبروننا بما يحدث في الجنينة الآن".
وأضاف: "الجنجويد ينتقلون من منزل إلى منزل محاولين فتح النوافذ والأبواب وقتل الناس. هم ينتقلون من منزل إلى منزل ويسألون: هل أنتم من قبيلة المساليت؟".
يذكر أنَّ أكثر من 5 آلاف سوداني يعيشون في "إسرائيل"، معظمهم في "تل أبيب"، ويعود تاريخ توافدهم إلى تصاعد الصراع الدموي في دارفور منذ عام 2003. وبالتالي من غير المستبعد حدوث توظيف إسرائيلي للصراع الدائر في دارفور، فتقسيم السودان كان وما زال هدفاً إسرائيلياً مركزياً اتضحت ملامحه وأدواته بشكل بارز في تقسيم السودان إلى شمال وجنوب.
الحدث الثاني هو حشد القبائل العربية في دارفور. انتشر في 6 تموز/يوليو الجاري مقطع مصور يظهر فيه زعماء أكبر 7 قبائل عربية في دارفور وهم يدعون أفراد قبائلهم للانضمام إلى قوات الدعم السريع، مطالبين المنخرطين في صفوف الجيش على وجه الخصوص بتركه للانتقال إلى المعسكر الآخر.
هذه الدعوة تعني أنّ القتال في دارفور تدحرج من اشتباك بين الجيش والدعم السريع إلى صراع عرقي وقبلي من جهة، وإلى صراع بين الجيش والقبائل العربية من جهة أخرى.
إن تبعات ذلك ودلالاته خطرة على المكون الاجتماعي، وإحدى نتائجه المتوقعة قد تفضي إلى تقسيم إقليم دارفور إلى عرب وغير عرب، وبالتالي يتحول الصراع من صراع سياسي بين طرفين - الجيش والدعم السريع - إلى صراع عرقي وحرب أهلية تبدو مؤشرات حدوثها أكبر وأكثر من محددات منعها أو استبعادها.
شبح الحرب الأهلية إذا أطل برأسه في دارفور لن تتوقف تبعاته على حدود السودان، بل ستمتد بحكم التحالفات الإقليمية والتقاطعات العرقية إلى عموم القارة الأفريقية، وتحديداً وسط القارة وغربها. وبينما تشتعل الحرائق في دارفور، لا يبدو كل من الجنرالين البرهان ودقلو مهتمين أو معنيين بشبح الحرب الأهلية.
إن المجتمع الدولي الذي ترك رواندا تحترق على مدار 4 سنوات بنيران الحرب الأهلية التي قُتل فيها أكثر من مليون رواندي، لا يبدو مهتماً بتجنب تكرار السيناريو نفسه في السودان، ويكتفي بالإدانة والاستنكار.
وعندما دقت 30 منظمة مدنية سودانية في 15 حزيران/يونيو جدران خزان الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والولايات المتحدة ومجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية لتنبههم من شبح الحرب الأهلية في دارفور، صمت هؤلاء كلهم، وتبخرت كل الإجراءات الاستباقية والاتفاقيات الدولية لمنع الحروب الأهلية وانزوت، وتُرك السودان وحيداً.