سوريا.. كلّ الدروب تؤدي إلى فلسطين
لقد اختبرت القيادة السورية بالحديد والنار والدماء والحصار معنى موقفها وتعاطيها العمليّ التاريخيّ والمبدئيّ مع القضية الفلسطينية.
"تحية إلى المقاومين، كلّ المقاومين في غزة. إنّ أبواب سوريا مفتوحة لكلِّ فصائل المقاومة الفلسطينيّة، وسوريا في صلب محور المقاومة ضد كيان الاحتلال الإسرائيليّ سياسيّاً وعسكريّاً" - الرئيس السوري بشار الأسد خلال لقاء مع عددٍ من قادة فصائل المقاومة الفلسطينيّة في أيّار/مايو 2021، بعد معركة "سيف القدس".
"إنّ الصاروخ الأوّل المضاد للدّروع الذي أطلقته "سرايا القدس" باتجاه مركبة صهيونية في غلاف غزّة خلال معركة "سيف القدس"، حصلنا عليه بدعمٍ من سوريا، وقد وصل إلى غزّة عبر ميناء اللاذقيّة" - الأمين العام لحركة الجهاد الإسلاميّ المجاهد زياد نخالة.
كان كلّ شيء في سوريا، وما يزال، يبدأ من فلسطين وينتهي عندها. ورغم سنواتٍ 10 مريرة من العدوان والحرب التي دمّرت البلاد، وأرهقت العباد، وقسمت السوريين إلى شرائح سياسيّة متنافرة أو متباينة في المواقف السياسيّة والوطنيّة، إلّا أنّ جامعاً واحداً، هو القضية الفلسطينيّة، بقي متماسكاً إلى حدّ كبير، وظل يحافظ على مكانته ومكانه الحميم في وجدان الغالبية العظمى من السوريين، وفي رسم رؤاهم السياسية وتحديد مواقفهم الوطنيّة والقوميّة.
يكفي المراقب أن يلقي نظرة على حسابات السوريين في مواقع التواصل الاجتماعي، ليجد أنّ الموقف من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين هو أكثر ما يحدّد علاقة السوريين السياسية ببعضهم البعض، إذ إنّ كلّ شيء قابل للنقاش إلّا خيانة الوطن والتعاون مع العدو الصهيونيّ، والتهاون في الخطاب ضد الاحتلال، وبثّ أيّ نوع من الدعاية المضادة لقضية تحرير فلسطين، أو التي تُحابي الاحتلال وتتماهى مع مشاريعه.
وقد كان لهذا الأمر أثره الكبير خلال سني الحرب السوريّة، لجهة نفور الشريحة الأكبر من الشعب السوريّ من فصائل المعارضة السورية، التي اعتبرت أنّ وجود الدولة السورية كركنٍ أساسيٍّ في محور المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي والهيمنة الأميركيّة، وكونها الداعم الأبرز لفصائل المقاومة الفلسطينية والعربيّة، يجعلان التعاون مع العدو المشترك - كيان الاحتلال الإسرائيليّ - أو بثّ خطاب يدعو إلى التطبيع معه هو الطريق الأقصر لكسب التأييد والدعم العسكريّ والسياسيّ والماليّ من قوى الهيمنة الغربية وأدواتها في المنطقة، وبالتالي الوثوب إلى السلطة في دمشق، لكن هذا الموقف تحوّل إلى سُبّةٍ تلاحق تلك الفصائل وتجعلها منبوذة من غالبية الشعب في سوريا.
لقد اختبرت القيادة السورية بالحديد والنار والدماء والحصار معنى موقفها وتعاطيها العمليّ التاريخيّ والمبدئيّ مع القضية الفلسطينية؛ فبعد 10 سنوات من العرض الشهير الذي قدّمه وزير الخارجية الأميركيّ الأسبق كولن باول للرئيس السوري بشار الأسد، عاد الأخير ليسمع العرض ذاته من وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد في بدايات الأزمة السورية: خذوا كلّ شيء، بما في ذلك لبنان والمال والاستثمارات ويافطات شعارات "الربيع العربي" التي نرفعها في وجوهكم، مقابل أنْ تتخلّوا عن دعم فصائل المقاومة الفلسطينية والعربية، وتعلنوا ترحيبكم بـ"السلام مع إسرائيل" والتطبيع معها.
وقد أعاد الأسد الجواب ذاته في الحالتين، معتبراً أنّ كلفة الرضوخ والتنازل عن الحقوق الفلسطينية والعربية أعلى بكثير من كلفة المقاومة، مهما كانت التضحيات، وأنّ موقف سوريا القاضي بوضع كلّ إمكانياتها بتصرّف الشعب الفلسطينيّ ودعمه في نضاله التحرري هو موقف مبدئيّ ولا تراجع عنه.
وكما هو الحال لدى القيادة السورية، هناك قناعة واضحة لدى السواد الأعظم من السوريين بأنّ تآمر الغرب على سوريا وسعيه الحثيث من خلال الحرب الأخيرة إلى تدميرها وتحويلها إلى دولة فاشلة لا تأثير لها في المنطقة، سببه الرئيس موقف سوريا من الاحتلال الإسرائيليّ لفلسطين، وتموضعها في قلب محور المقاومة الذي يتبنّى عقيدة التحرير ويسعى إلى تحقيقها.
وإذا كانت الحرب المدمّرة الّتي كلّفت الدولة والشعب في سوريا أثماناً باهظة دفعت البعض إلى الاعتقاد بأنّ دمشق باتت أضعف من أنْ تقوم بدورها التاريخيّ في دعم حركات المقاومة الفلسطينية والعربية، فإنّ شواهد كثيرة أظهرت أنّ سوريا، ومعها الحلفاء في محور المقاومة، ذهبوا في السنوات الأخيرة أبعد كثيراً ممّا توقّعه المحتل والقوى الغربية في دعمهم المقاومة في فلسطين، وفي مشروعهم التحرري المتكامل.
ولعلّ ملحمة "سيف القدس"، وما تكشّف عنها من معلومات، وما أرسته من معادلات جديدة في الصراع العسكريّ مع كيان الاحتلال، أثبتت أنّ دمشق ما تزال رأس حربة في هذا الصراع، بل باتت أكثر إصراراً وعملاً على جبهاته المختلفة، وخصوصاً أنّ الحرب عليها رفعت مستوى التنسيق الميداني والعمليّاتي بينها وبين قوى المقاومة في المنطقة.
وإذا كان "الكورنيت" الَّذي انطلق من ميناء اللاذقية وبلغ هدفه بين قبضات المقاومين الفلسطينيين في غزّة غيّر معادلات الميدان في محيط المدينة المقاوِمة، فإنّ طريقه وحدها، ما بين اللاذقية وغزّة، تكشف معالم ذاك الجهد العظيم الذي تقوم به دمشق وحلفاؤها لتغيير معادلات الصراع كلها، لمصلحة هدف التحرير الأكيد.
وبلغ مستوى الانخراط السوري في العمل الفلسطينيّ المقاوم مؤخّراً حدّ إطلاق صواريخ "ليست مجهولة" من الداخل السوري باتجاه الأراضي المحتلة خلال معركة "سيف القدس"، للتخفيف عن المقاومة في الداخل وإرسال رسالة واضحة للعدو - استلم واحدةً مثلها من جنوب لبنان - بأنّ المحور، وفي قلبه دمشق، جاهز لدخول المعركة إلى جانب المقاومين الفلسطينيين في أيّة لحظة.
هذا كلّه يكشف موقف دمشق النهائيّ وعلاقتها بفصائل المقاومة في الداخل الفلسطينيّ، كما تتكشّف الكثير من أسباب مواظبة العدو الإسرائيلي على الاعتداء على الأراضي السورية، وحقده على ميناء اللاذقية تحديداً، الذي وجّه إليه صواريخه المدمّرة مرّتين خلال الأشهر القليلة الفائتة.
ومن الأمور التي بيّنت فهم العدو الإسرائيلي وخشيته من الدور المركزي الذي تضطلع به سوريا على مستوى المعركة الرئيسية لتحرير فلسطين، هو عدوانه المتكرر على الأراضي والمقدّرات السورية الموضوعة في خدمة هذا الهدف، وصراخه العالي وتحريضه على دمشق، باعتبارها باتت ساحة رئيسية وشديدة الخطورة لمحاصرة الاحتلال، ومنصة متقدّمة لقوى محور المقاومة في أيّ حرب قادمة معه.
ولم يكن استهداف الشهيد المجاهد جهاد عماد مغنية ورفاقه في منطقة القنيطرة السورية المحررة، المتاخمة للأراضي الفلسطينية المحتلة، واستهداف الشهيد سمير القنطار، سوى دلائل شديدة الأهمية على هذا الفهم الإسرائيليّ لخطورة الجبهة السورية، وما تعدّ له دمشق وحلفاؤها على هذا الصعيد.
ويأتي في صلب هذا السياق، السعيّ الإسرائيلي والأميركي طوال سني الحرب لتحويل المنطقة الجنوبية لسوريا إلى شريط آمن يحيط بكيان الاحتلال، وذلك من خلال دعم المجموعات والفصائل المعادية للدولة السورية، وتأمين كلّ إسناد ممكن لها، لتحويلها إلى "جيش لحد" سوريّ جديد، يصدّ خطر الجيش السوري وقوى المقاومة التي تسعى إلى تجهيز تلك الجبهة للمعركة الفاصلة لتحرير فلسطين.
وفي هذا السّياق، ما تزال دمشق تحتضن 14 فصيلاً فلسطينيّاً مقاوِماً، تقدّم لهم جميعاً مراكز التدريب، وتؤمّن جميع الإمدادات اللازمة لتطوير قدرات الكوادر الفلسطينية على تصنيع الصواريخ والطائرات المسيّرة التي تقدمت شوطاً كبيراً بفضل الجهود السورية، كما تضع مخازن السلاح التابعة للجيش العربي السوري في تصرّف الجهد العسكري للمقاومين، وهو الأمر الذي استفاض الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في الحديث عنه غير مرّة في خطاباته، إذ بيّن دور القيادة السياسية والعسكرية السورية في تدريب الكوادر الفلسطينية، وتأمين كلّ سلاحٍ ممكن ووازن في المعركة مع العدو.
كذلك، تحدّث الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، السيد زياد نخالة، عن الدور السوري في الإنجازات التي تحققت في معركة "سيف القدس"، من خلال السلاح النوعي الذي عملت سوريا والحلفاء في محور المقاومة على تقديمه وإيصاله إلى ساحة المعركة. الأمر ذاته تطرّق إليه بوضوح قادة الفصائل الأخرى، وعلى رأسها حماس، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الشعبية - القيادة العامة.
وفي سوريا، حتى في ذروة زمان الحرب، لا يمكن أنْ تمرّ أيام فلسطين من دون مشاركات تفاعلية واسعة تؤكّد فيها القيادة والشعب في البلاد أنّ العمل على تحرير فلسطين هو العقيدة الراسخة لدى الدولة والجيش والمجتمع، وأنّ دعم الشعب الفلسطيني في نضاله التحرري واجب مقدّس لن تتخلّى عنه سوريا.
وجاء الاحتفال بـ"يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطينيّ" في 29 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ليؤكّد المسار السوريّ على هذا الصعيد، إذ شهد الحدث مشاركة رسمية وشعبية واسعة. وقد أكّد نائب وزير الخارجية السوري الدكتور بشار الجعفري، في كلمة له في المناسبة، أمام حشد ضمّ السفير الفلسطينيّ في دمشق سمير الرفاعي، وقيادات فصائل المقاومة الفلسطينية، وممثلين عن دول وقوى محور المقاومة، وعلى رأسهم السفيران الإيرانيّ واليمنيّ، أنّ سوريا "اعتبرت على الدوام أنّ القضية الفلسطينية هي قضيّتها بامتياز".
ولفت الجعفري إلى قدسية هذه القضية لدى الشعب السوري، وأكّد وقوف بلاده الثابت والمبدئيّ الداعم لحقّ الشعب الفلسطينيّ في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلّة على ترابها الوطني، وعاصمتها القدس، وعلى تمسّك سوريا بحقّ الشعب الفلسطيني في العودة إلى دياره، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي بكلّ السبل الواجبة.
واحتضنت دمشق في بداية السنة الجديدة لقاءً تضامنيّاً مع الأسير الفلسطينيّ المضرب عن الطعام، هشام أبو هواش، تمثّلت فيه سوريا وفلسطين واليمن، في دلالة بالغة الرمزية على حرص دمشق على متابعة كل تفاصيل الساحة النضالية الفلسطينية في الدّاخل، والتفاعل معها كما يجب.
وقد كان للحضور اليمنيّ دلالته الكبيرة أيضاً، إذ تحرص دمشق على لمّ شمل أهل المقاومة العربية حول القضية الفلسطينية في كلّ مناسبة، لتبيان أنَّها قضية العرب المركزية التي تجمع كل المقاومين العرب، وهو خطاب وعمل لم تتخلّ عنهما دمشق مطلقاً.
كذلك، كان الاحتفال الذي نظّمته السفارة الإيرانيّة في دمشق، في 6 كانون الثاني/يناير الجاري، لإحياء الذكرى الثانية لاستشهاد الفريق قاسم سليماني ورفاقه، مناسبة لإعادة التأكيد على ثوابت سوريا في التمسك بنهج المقاومة والتحرير، والعلاقة مع قوى محور المقاومة في المنطقة والعالم، من خلال الاحتفاء بالنموذج المقاوِم الفريد الذي مثّله الفريق سليماني، وما عناه ويعنيه لسوريا الرسميّة والشعبيّة.
وقد كلّف الرئيس بشار الأسد المستشارة الإعلامية بثينة شعبان لتنوب عنه وتلقي كلمته في الاحتفال، والتي شدّدت على وجوب "أنْ نبقى أوفياء لنهج سليماني المقاوم"، وأكّدت أنّ "سوريا التي عشق الشهيد سليماني ترابها ستشكّل منارة للمقاومة الصلبة التي لا تعرف المهادنة"، وأنّ استمرار المقاومة السياسية والاقتصادية والعسكريّة حتى تحرير الأرض والقرار العربيّ سيبقى النهج الذي تسير عليه سوريا وحلفاؤها حتى تحقيق الأهداف الوطنية الكبرى.
هناك قناعة راسخة في دمشق بأنّ أحد أهم أهداف الحرب الأخيرة على سوريا، كان إخراجها من معادلة الصراع مع العدو الإسرائيليّ، وتحويلها إلى دولة ضعيفة تابعة ومطبّعة ومتماهية مع الاحتلال ومشاريعه، على حساب آلام الشعب الفلسطينيّ وقضيته الكبرى وحقوقه المشروعة، لكنّ دمشق اليوم، وبعد 10 سنوات من الاستهداف القاتل، باتت أقرب إلى فلسطين من أيِّ وقت مضى، وعادت لتكون شريان القلب الذي يضخّ أسباب الحياة والاستمرارية في مشروع تحرير فلسطين.
وإذا كانت الأعوام الثمانون التي مرّت على مغادرة المجاهد عز الدين القسام مدينة جبلة الساحليّة السورية، ليقود معارك التحرير في الأرض الفلسطينية، تبدو بعيدة، فإنّ الهدف بات قريباً، كما يراه السوريون، والإصرار على تحقيقه بات أقوى.
ونستطيع أنْ نؤكّد من هنا، على بُعد كيلومترات قليلة من مسقط رأس القسّام، أنّ جبلة، كما دمشق، كما حمص وحلب، كما قصر الشعب وبيوت الشعب في هذه البلاد، ما تزال على عهد القسّام وإخوته الفلسطينيين، ثابتةً حتى بلوغ الهدف؛ حتى التحرير.