روسيا الأوراسية تستحضر دوستويفسكي
عُرف دوستويفسكي، المولود في موسكو من عائلة متوسطة اجتماعياً، بمحطتين بارزتين في سيرته.
لم تتورّع قوى وبلدان متعدّدة في أوروبا "الديمقراطية" عن مصادرة روايات دوستويفسكي (1821 –1881)، أحد أعظم الروائيين في العالم، لأنها وجدت في رواياته وكتاباته الأخرى ما يؤشر على نزعة روسية سلافية أرثوذكسية إمبراطورية، وربطت هذه النزعة بالمشروع السياسي الأوراسي الاستراتيجي للرئيس بوتين والفيلسوف الروسي، ألكسندر دوغين، اللذين لا يُخفيان تأثرهما بهذا الروائي، ولاسيما تحذيراته مما بات يوصف اليوم بالثورات الملونة. فماذا عنه؟
وُلد دوستويفسكي في موسكو من عائلة متوسطة اجتماعياً (والده كان جراحاً في الجيش القيصري، وهو نفسه عمل مهندساً في هذا الجيش). كما عُرف هذا الروائي بمحطتين بارزتين في سيرته: الأولى انخراطه في حلقة ثورية لقلب نظام الحكم القيصري، واعتقاله والحكم عليه بالإعدام، قبل تخفيض الحكم الى السجن في سيبيريا. والثانية إدمانه على القمار.
كانت روسيا تعيش مخاضات تفسخ النظام الإقطاعي وولادة الرأسمالية المترافقة مع الحروب الإقليمية والدولية في المجال الأوراسي، ومنه القرم.
على صعيد البيئة الثقافية، عاش تأثيرات غوغول وظلاله، كما عاصر تورغينيف وتولستوي وتشيخوف، وأدباء أوروبيين عاشوا مرحلة الانحطاط الأخلاقي للثورة الصناعية، مثل هوغو، ديكنز، بلزاك، وكذلك أعمال الأديب الأميركي إدغار ألان بو، الذي قارب الأعمال البشرية بلغة الأدب البوليسي، ومثله الكاتب آرثر كونان ديل، المعاصر له أيضاً، وصاحب شخصية شيرلوك هولمز (عوالم المافيا والجريمة والماسونية والحروب)، وخصوصاً في لعبة الظلال.
كما تأثّر أو تَقاطَعَ مع أعمال معاصريه في الفلسفة، وخصوصاً نيتشه وهيغل. الأول في كتابه "الخير والشر"، وفكرته عن سيكولوجيا الأعماق، الغرائز، أو الديونيزية، في مقابل العقل البارد. والثاني في مجمل تصوراته بشأن الروح وتجلياتها وموقع الفن والفلسفة والدين فيها، وكذلك فكرة الدولة (في ظروف روسيا التي تشبه ظروف ألمانيا الهيغلية).
في المقابل، ترك دوستويفسكي تأثيراً في الأدب والفكر العالميَّين، مثل رواية إيكو ("مقبرة براغ") و"العالم المفقود" لآرثر كونان ديل، بحيث تعالج الروايتان الحروب والعلوم والعقلانية المختطَفة والجنون والماسونية، وكذلك روايات: "العقب الحديدية" لـ جاك لندن (تداعيات الرأسمالية المتوحشة) وأورويل ("1984") وأعمال كافكا.
كما يمكن القول إن ثمة شيئاً من دوستويفسكي عند مفكرين وتيارات فكرية وأدبية، مثل:
- فوكو في تاريخ الجنون وتاريخ السجن.
- ألبير كامو في الغريب وغيرها من رواياته.
- البنيوية من حيث اهتمامه المبكّر بالعلاقة بين الشخص وأعماقه ومحيطه.
- الوجودية، وخصوصاً القلق الوجودي.
- وكذلك، ما حذر منه في العدمية التي تجلت في التفكيكية وأعمال دريدا: اللامركز في النص والإنسان والعالم.
من أهم الأعمال الروائية لـ دوستويفسكي، التي صُنِّفت روايات ذات طابع فلسفي:
- مذلون مهانون 1861، بيت الموتى أو ذكريات من بيت الموتى 1861، الجريمة والعقاب 1866، المقامر 1867، الأبله 1869، الشياطين 1872، والأخوة كارامازوف آخر أعماله الروائية، وترجم أغلبيتها الدكتور سامي الدروبي.
المعمار الفني والفكري لروايات دوستويفسكي
أولاً، على الصعيد الفني: التجديد في التقنيات الروائية، وخصوصاً تعدد الأصوات وتعدد الأساليب في التعبير عنها، وكذلك تعدد الشخصيات وأعماقها السيكولوجية، توظيف الحلم، الاهتمام المبكر ببنية العلاقات أكثر من الشخصيات والوقائع، في حد ذاتها. وبحسب باختين، فنحن نسمع شخصيات دوستويفسكي أكثر مما نراها.
ثانياً على الصعيد الفكري:
1- سيكولوجيا الأعماق البشرية، في كل تناقضاتها وتوترها وتعددها ومقارباتها، كما سنرى عند تناول قراءة فرويد لها.
2- ما يمكن تسميته الكوميديا السوداء، كما قاربها باختين.
3- الشخصيات القلقة المضطربة، كانعكاس لشخصيته وبحثه عن صليبه، تارة عبر الإيمان وتارة بصورة اشتراكية.
4- حضوره من خلال أبطال رواياته، مثل: ميشكين، راسكولينكوف، ومزيج من أبطال كارامازوف.
5- الروح والأخلاق المسيحية الأرثوذكسية في مقابل الوضعية والرأسمالية المتوحشة.
6- النزعة الروسية السلافية في مقابل الأوربة والتغريب.
7- مشتركات دوستويفسكي مع فرويد (قتل الأب)، كما سنرى في رواية الأخوة كارمازوف، ومع ماركس الذي اختلف معه في أفكاره الشيوعية، لكنه تقاطع معه بشأن العدالة بصورة عامة، وبشأن الطابع الربوي للمجتمع اليهودي.
أعماله الروائية:
سنتناول، بإيجاز، أهم هذه الأعمال، مع التركيز على آخر عملين، وهما الشياطين والأخوة كارامازوف.
1- بيت الموتى، أو ذكريات من بيت الأموات، وتتناول تجربة السجن وظروفه وسيكولوجيا الأعماق عند السجناء، والتي تُظهر أبعاداً أخرى عندهم غير الأبعاد التي تتصل بجريمة، وهو ما يذكّرنا بكتابات كولن ويلسون.
2- مذلون مهانون، وتتناول الخلفيات السيكولوجية لعلاقات وقوى اجتماعية متناقضة.
3- الأبله، وبطلها الأمير ميشكين، كصورة للمسيحي البسيط، مقارنة بمجتمع يتفكك في قلب العلاقات الرأسمالية الجديدة.
4- المقامر، بالإضافة إلى تمثيلها شخصية دوستويفسكي نفسه، تحاول أن تكتشف البعد المركّب الفردي – الجمعي والسوسيولوجي والسيكولوجي للمقامر من خلال تجربة مدرّس خاص لعائلة أرستقراطية ومحيطها الاجتماعي.
5- الجريمة والعقاب، وتطرح أسئلة إشكالية بشأن الخير والشر من خلال جريمة قتل ضد عجوز مرابية قام بها طالب الحقوق، راسكو لينكوف، الذي يكتشف أن جريمته ليست سوى ظلال لمحيطه وبيئته.
6- الشياطين أو الممسوسون، وتأتي أهمية القراءة الجديدة لهذه الرواية، التي كُتبت عام 1872، من راهنيتها. فكما واجهت روسيا تداعيات التحولات الرأسمالية في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، عبر "جسور" وأدوات للرأسمالية الأوروبية، ثمة ما يسمح بالقول إن روسيا اليوم والشرق العربي يواجهان طبعة أخرى من هذه التداعيات باسم الثورات الملونة.
إلى ذلك، تتحدّث الرواية عن مدينة مفترضة تحولت في قلب العصر الصناعي إلى مرتع للفوضى من جانب الليبراليين وتيارات يسارية مناهضة للقومية الروسية، كما تذكّر في بعض مقارباتها بالأعمال اللاحقة لـ جورج أورويل وجاك لندن وإيكو في رواية "مقبرة براغ".
ومن الالتقاطات ذات الصلة في الرواية، الحديث عن المنفيين "الليبراليين" والدور المدني لبعض شخصيات الرواية، والمتثاقفين (وهو ما يذكّرنا بكتاب نظام التفاهة)، والذين، على الرغم من الطابع المزيف لهم، يتعاملون مع المحيط بتعالٍ على غرار جوليفر العائد من بلاد الأقزام، والذي يتصرف، بحسب الرواية، كعملاق مزيف مع محيطه.
كما تتحدث الرواية عن دعوات تشبه عالمنا اليوم، مثل دعوات الليبراليين وجماعات اليسار الاجتماعي، سواء في روسيا الحالية أو في الشرق العربي، ومنها شيطنة الدولة باسم الشمولية والدعوة الى تقسيمها في إطار فيدرالي.
ومن المفارقات الأخرى التقاطات دوستويفسكي المبكّرة لخطورة التيارات الليبرالية في كل أسمائها، التجريبية، البراغماتية والنفعية، المادية الوضعية.
ويمكن الإضافة هنا ربطاً بالرواية التالية، أن جانباً من الثورات الملونة يمثّل حالة تمرد داخل البنية نفسها (الأبناء على الأب – السلطة).
أيضاً، في تقاطع مبكّر جداً بين دوستويفسكي في "دفاتر السجن - بيت الموتى" (1877) وماركس في كراسه ("المسألة اليهودية") (1843)، حذّرا من السمة الربوية لليهودية التي تشكل الرأسمالية، كما من لوبيات البرجوازية اليهودية وسيطرتها على مفاتيح الإعلام والاقتصاد.
7- الأخوة كارامازوف، وشكلت هذه الرواية مع رواية المقامر وحياة دوستويفسكي نفسه مصدراً كبيراً للاهتمام بمؤسس علم النفس، فرويد.
قبل التعليق على ذلك، لنعرض الشخصيات الأساسية للرواية:
- الأب، كرامازوف، فاسد، فاجر، يتبادل الكراهية مع أولاده.
- ديميتري، ابنه الأكبر، الذي يشبهه ويتبادل معه عشق بائعة الهوى، غروشينكا.
- إيفان، ابنه الثاني من زوجة أخرى، وهو أديب قلق مضطرب يجاهر بإلحاده.
- إليوشا (أليكسي)، وهو الابن الأصغر، متدين.
- وابن آخر غير شرعي، من الخادمة.
وبين رغبة ديمتري وقراره، وشروعه في قتل والده، ثم تراجعه، وبين شروع الابن غير الشرعي في قتل الأب، يصبح الجميع، ماعدا إليوشا، في دائرة الاتهام للجريمة.
يتَّضح من التشخيص السابق أن عوالم الرواية حاضرة بقوة في تصورات فرويد، ولاسيما في كتابيه، الطوطم والتابو والتحليل النفسي والفن، بحيث تتجلى ثنائية الخطيئة والندم، كما تجلت في قراءة أخرى لفرويد بشأن عقدة أوديب في مسرحية سوفكليس المعروفة.
بحسب هذه التصورات، ثمة صراع بين الأب والأبناء على السلطة والميراث والنساء، ينتهي بقتل الأب، ثم الندم على قتله بأشكال شتى، من "الإخصاء" المادي، كما عند أوديب (فقء العين)، والختان (بحسب فرويد أيضاً)، أو الإخصاء الروحي الذي يساوي فكرة التطهر عبر الفن عند أرسطو.
وفيما يخص دوستويفسكي، يرى فرويد أن ظاهرة الصرع عنده والقمار شكل من الندم، بل إنه يرى أن صرع دوستويفسكي حالة وجدانية أكثر من كونها حالة عضوية، ولاسيما أنه ارتبط بظروف اجتماعية صعبة، سواء تلك التي عاشها قبل السجن في سيبيريا، أو بعده. ولا ينحصر الصراع في "الأخوة كرامازوف" في شخصيات روائية فقط عند دوستويفسكي أو عند سوفكليس، بل يمتد إلى كل التاريخ السياسي والتاريخ الاجتماعي في روسيا، بل إن هناك مَن ربط شخصيةَ ديمتري في الرواية بالشخصية الحقيقية لديمتري الذي حاول اغتيال القيصر.