دلالات إعفاء جنوب أفريقيا للفلسطينيين من تأشيرة الدخول
تحول مواقف جنوب أفريقيا ومبادراتها من القضية الفلسطينية ليست مظهراً عارضاً أو طارئاً، وحدود تبعاته لا تتوقف عند الجغرافيا الفلسطينية.
هناك مقولة مشهورة للزعيم الراحل نيلسون مانديلا يقول فيها: "نحن نعلم جيداً أن حريتنا ناقصة من دون حرية الفلسطينيين". بعد رحيل مانديلا بعامين، بعثت عائلته رسالة إلى الشعب الفلسطيني قالت فيها: "روح نيلسون مانديلا تقف مع نضالكم العادل، والتضامن مع فلسطين لن يكون عبر الكلمات والخطابات المكتوبة على الورق فقط، إنما سيكون من خلال ترجمة فعلية لقناعتنا بالتضامن مع الشعب الفلسطيني على الأرض، من خلال المشاركة الفاعلة في حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها".
آخر ملامح الترجمة الفعلية للتضامن مع فلسطين وشعبها كان في 18 أيلول/سبتمبر الجاري، عندما قررت حكومة جمهورية جنوب أفريقيا إعفاء المواطنين الفلسطينيين الذين يحملون جوازات سفر فلسطينية من تأشيرات الدخول إلى جنوب أفريقيا.
وبموجب هذا القرار، تم منح المواطنين الفلسطينيين تأشيرات دخول في كل المطارات والموانئ والمعابر الحدودية لجنوب أفريقيا لمدة 90 يوماً، من دون الحاجة إلى إصدار تأشيرات من سفارات جنوب أفريقيا.
تأتي خطوة إعفاء حملة جواز السفر الفلسطيني من تأشيرة دخول جنوب أفريقيا في بيئة عربية باتت استدارتها نحو القضية الفلسطينية رخوة. وقد أضحت القضية الفلسطينية في عرف الدول العربية كأي قضية سياسية ثانوية.
في مقابل ذلك، تتسابق بعض الدّول العربية للتطبيع مع كيان الاحتلال من دون أن يرفّ لها جفن على مصير القضية الفلسطينية التي كانت في أحد الأيام رافداً لشرعية الأنظمة العربية ورافعتها أمام شعوبها.
في زمن التطبيع والتردي العربي وتأكّل حضور القضية الفلسطينية في الخطاب السياسي العربي الرسمي، بدت خطوة جنوب أفريقيا في توقيتها ورمزيتها مهمة معنوياً وسياسياً، ولا يعرف قيمتها ومردودها إلا الفلسطيني الذي ترفض بعض الدول العربية حتى اللحظة الاعتراف بجواز سفره الفلسطيني، ولا تسمح له بالمرور أو الإقامة في أراضيها، فيضطر إلى الاحتفاظ بوثيقة اللاجئ أو يُجبر على الالتفاف على هويته الفلسطينية واستبدالها ليحظى بدخول عواصم "بلاد العرب أوطاني".
علاقة جنوب أفريقيا بفلسطين لا تُختصر ولا تتوقف فقط عند تشابه الظروف السياسية والتجربة العنصرية ونظام الأبارتهايد الذي تعرضت له كل من فلسطين وجنوب أفريقيا، فالعلاقات والزيارات واللقاءات ممتدة وموغلة، وخطوة الإعفاء من التأشيرة تأتي في سياق سياسي عام تتبناه جنوب أفريقيا تجاه القضية الفلسطينية، وتبدو فيه القضية الفلسطينية أكثر حضوراً.
في النظريات المفسرة للعلاقات الدولية، إن أي نقطة تقارب تسجلها فلسطين يقابلها صفر لكيان الاحتلال. وبالتالي، فإن خطوة جنوب أفريقيا في الحسابات السياسية تعد في ظل المتغيرات الحاصلة في النظام الدولي والمنطقة إنجازاً سياسياً، وإن بدا رمزياً، فكيان الاحتلال يولي أهمية بالغة لأي تقارب أو اختراق قد تحدثه فلسطين في مكونات النظام الدولي.
والناظر إلى تاريخ العلاقة بين كيان الاحتلال ونظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا وانقلابه واستدارته باتجاه فلسطين يدرك تبعات تلك الخطوة التي لا تعني حضوراً للقضية الفلسطينية فحسب بقدر ما تعني في المقابل تراجعاً لكيان الاحتلال. وقد بدا ذلك واضحاً في واحدة من أهم المناسبات الدولية والأممية التي شهدتها جنوب أفريقيا وتغيَّب عنها كيان الاحتلال.
في 9 كانون الأول/ديسمبر 2013، شارك 70 رئيس دولة وحكومة في جنازة الرئيس نيلسون مانديلا، فيما غاب عن الحضور والمشاركة كل من رئيس كيان الاحتلال شمعون بيريز ورئيس وزراء حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، الذي تذرع بأن تكاليف السفر المرتفعة منعته من المشاركة في جنازة مانديلا، في وقت تذرع بيريز بأنه أصيب بوعكة صحية.
والحقيقة أن الإحجام عن المشاركة كان نتيجة أمرين؛ الأول غضب الجنوب أفريقيين من كيان الاحتلال وارتباطه بنظام الأبارتهايد، والآخر هو استمرار كيان الاحتلال في ممارسة الأبارتهايد في فلسطين.
والنتيجة أن كيان الاحتلال أُبعد عن المشاركة في التشييع المهيب لنيلسون مانديلا وغاب عن الحدث العالمي، فيما كانت فلسطين حاضرة، الأمر الذي تسبب بخسارة سياسية كبيرة لكيان الاحتلال في دولة أفريقية كانت حتى الأمس القريب من أشد حلفائه.
تحول مواقف جنوب أفريقيا ومبادراتها من القضية الفلسطينية ليست مظهراً عارضاً أو طارئاً، وحدود تبعاته لا تتوقف عند الجغرافيا الفلسطينية، إذ تحولت تلك المواقف وتمددت حتى باتت ظواهر عالمية، فجنوب أفريقيا هي الدولة التي استضافت في مدينة دربن مؤتمر الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عام 2001، وهو المؤتمر الذي تحول إلى مهرجان كراهية لكيان الاحتلال.
وجنوب أفريقيا من أوائل الدول التي أعلنت المقاطعة الأكاديمية لكيان الاحتلال، وكان السبق لجامعة جوهانسبرغ التي قطعت علاقاتها بجامعة بن غوريون، لتصبح المقاطعة الأكاديمية لكيان الاحتلال بعد ذلك ظاهرة عالمية.
في 18 تشرين الأول/أكتوبر 2015، ذهبت جنوب أفريقيا إلى خطوة غير مسبوقة في مكونات النظام الدولي عموماً، والقارة الأفريقية على وجه الخصوص، عندما استضافت وفداً من حركة حماس، استمرت زيارته 3 أيام، والتقى خلالها في اليوم الأول رئيس جنوب أفريقيا جاكوب زومبا. وقد شهد اللقاء توقيع مذكرة تفاهم لدعم القضية الفلسطينية، وهو ما أغضب كيان الاحتلال. وفي إثره، استدعت وزارة خارجية الاحتلال مساعد سفير جنوب أفريقيا في "تل أبيب"، وأبلغته احتجاجاً رسمياً شديد اللهجة.
لم يقتصر حضور فلسطين في أجندة جنوب أفريقيا على الجانب الرسمي، فقد بات الحضور على المستوى الشعبي أيضاً. في 15 أيار/مايو 2018، في ذكرى إحياء نكبة فلسطين 1948 التي تتزامن مع ولادة نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا، شهدت كيب تاون انتفاضة شعبية شارك فيها الآلاف من الناشطين والسياسيين أمام البرلمان، بعد يوم واحد من استدعاء سفير جنوب أفريقيا في كيان الاحتلال احتجاجاً على قتل قوات الاحتلال عشرات الفلسطينيين في غزة تزامناً مع إحياء ذكرى النكبة.
وشارك في المسيرة ممثلون عن حزب المؤتمر الوطني الحاكم وحزب كوساتو والحزب الاشتراكي، ومؤسسات شعبية من بينها مجلس القضاء الإسلامي، وممثل عن الكنائس وحركة "مقاطعة إسرائيل". وطالب المتظاهرون بطرد سفير كيان الاحتلال من بلادهم. وقال القيادي في حزب المؤتمر الوطني الحاكم جيسي دورات: "لن نشعر بحريتنا في جنوب أفريقيا حتى تتحرر فلسطين وتصبح دولة مستقلة".
وفي 22 أيار/مايو 2021، وبالتزامن مع معركة "سيف القدس" التي خاضتها المقاومة الفلسطينية رداً على مسيرة الأعلام الصهيونية في مدينة القدس المحتلة، رفضت نقابة عمال جنوب أفريقيا "ساتو" تفريغ حمولة السفينة الإسرائيلية "زيم شنغاي" التي كانت ترسو في ميناء ديربان، تعاطفاً مع ضحايا كيان الاحتلال في فلسطين، ورفضاً للاعتداءات الإسرائيلية ضد المسجد الأقصى.
لم يتوقف الحراك الشعبي في جنوب أفريقيا عند حدود مناصرة القضية الفلسطينية وشعبها، بل ذهب أيضاً إلى محاصرة النفوذ الإسرائيلي في القارة الأفريقية في مقابل تعزيز الرواية الفلسطينية.
وفي 8 أيار/مايو 2022، كتب زويليفليل مانديلا، حفيد نيلسون مانديلا، مقالاً أوضح فيه أن "إسرائيل" غرزت مخالبها في أفريقيا، وأنها تستخدم الأسلحة وبرامج التجسس وتكنولوجيا الزراعة لخلق علاقات مع الأنظمة السياسية القمعية في أفريقيا للحصول على نفوذ لها في القارة.
وأضاف أنه شارك في أول مؤتمر أفريقي للتضامن مع الشعب الفلسطيني في آذار/مارس 2022 في دكار عاصمة السنغال، وشارك معه مناضلون شجعان من 21 دولة أفريقية، لبناء حركة على مستوى القارة لدعم نضال الشعب الفلسطيني ضد الفصل العنصري الإسرائيلي.
وفي 13 أيار/مايو الماضي، كانت مدينة جوهانسبورغ، وتحديداً مقر الحزب الحاكم في جنوب أفريقيا، تستضيف مؤتمر "لأجل فلسطين" من أجل التنسيق لإحياء ذكرى النكبة ودعم خطاب الرئيس محمود عباس في الجمعية الأمم المتحدة في الدورة الـ77.
وفي 8 آذار/مارس 2023، وبينما تمضي "تل أبيب" في افتتاح سفاراتها في العواصم العربية المتردية في مستنقع التطبيع، قررت جنوب أفريقيا خفض مستوى سفارتها لدى كيان الاحتلال إلى مكتب اتصال، عقب تصويت برلمان جنوب أفريقيا على قرار خفض مستوى العلاقات الدبلوماسية مع "تل أبيب"، بسبب الاعتداءات والانتهاكات التي يمارسها الاحتلال بحق الفلسطينيين. وكانت جنوب أفريقيا قد خفضت تمثيلها الدبلوماسي في "تل أبيب" عام 2019 وسحبت سفيرها، بسبب الفظائع التي يرتكبها الاحتلال بحق الفلسطينيين.