"داعش" بين 2014 و2022.. وهزات إدلب والحسكة!
ومن الطّبيعيّ جداً أن تتجدّد الهواجس والمخاوف من تكرار الصّور والمشاهد السّابقة المؤلمة بعد عملية سجن "غويران"، وخصوصاً أنَّ الوجهة الأسهل والأقرب إلى الدواعش الهاربين من السجن هي العراق.
لأوَّل وهلة، قد لا يبدو الهجوم الواسع والمنظَّم لتنظيم "داعش" الإرهابي على سجن "غويران" في مدينة الحسكة السورية، والذي أدى إلى تهريب مئات الإرهابيين الدواعش وفرارهم، وبينهم قادة كبار، حدثاً مهماً بالنسبة إلى العراقيين، في خضمّ انشغال القوى والشخصيات والنخب السياسية وعموم الرأي العام بحزمة موضوعات سياسية وغير سياسية شائكة ومعقّدة، لعل أبرزها تداعيات الانتخابات البرلمانية الأخيرة (10 تشرين الأول/أكتوبر 2021) واستحقاقات تشكيل الحكومة الجديدة.
ولكنّ التوقّف والتمعّن قليلاً في تفاصيل ما حصل في الحسكة وأبعاده ودلالاته، من شأنه أن يطلق لدى كبار الساسة وقادة الأجهزة الأمنية والعسكرية والمعنيين بملفّ الأمن الوطني جرس إنذار عالي الصوت بأنَّ هناك مؤشرات على قدر من الوضوح على مخاطر عودة تنظيم "داعش" إلى ما كان عليه قبل 8 أعوام، ليستعيد القدرة على التحرك فوق الأرض وليس تحتها، ولا سيما أن عملية سجن "غويران" أعادت إلى الأذهان عملية مشابهة استهدفت سجني "أبو غريب" و"التاجي" غرب العاصمة بغداد وشمالها في صيف العام 2013، أفضت إلى فرار أعداد كبيرة من السجناء، كان أغلبهم من عناصر "داعش" وقياداتها، ومن بينهم
زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، الَّذي أعلن بعد عام ما يُسمى "دولة الخلافة الإسلامية" على منبر مسجد النوري التاريخي في الجانب الأيمن من مدينة الموصل، بعدما نجح التنظيم الإرهابي باجتياحها والسيطرة عليها بالكامل مطلع شهر حزيران/يونيو 2014.
ربما لم تكن عمليّة سجني "أبو غريب" و"التاجي" هي العامل الأساس لما حصل من تطورات أمنية كبيرة وخطرة في العراق صيف العام 2014، بيد أنَّها، من دون شك، كانت أحد هذه العوامل، لأن عناصر تنظيم "داعش" وقياداته الذين فرّوا من السجن لم يذهبوا إلى بيوتهم وعائلاتهم أو يتّجهوا إلى بلدان أخرى بحثاً عن الأمن والراحة والهدوء، إنَّما راحوا يعيدون تنظيم صفوفهم وترتيبها ووضع الخطط المستقبلية لتحركهم، مستفيدين من عموم الظروف الأمنية والسياسية في العراق والمنطقة.
ومن الطّبيعيّ جداً أن تتجدّد الهواجس والمخاوف من تكرار الصّور والمشاهد السّابقة المؤلمة بعد عملية سجن "غويران"، وخصوصاً أنَّ الوجهة الأسهل والأقرب إلى الدواعش الهاربين من السجن هي العراق، وهو ما يبدو أنَّ أصحاب القرار في بغداد تنبّهوا إليه مبكراً. ولعلَّ زيارة رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلَّحة المنتهية ولايته مصطفى الكاظمي لمنطقة الشريط الحدود العراقي - السوري، على رأس وفد أمني رفيع المستوى، عكس جانباً من الاهتمام الاستثنائي بالتطوّرات الأمنية الحاصلة.
وقد خاطب الكاظمي جمعاً من قادة الوحدات العسكرية والأمنية المرابطة على الحدود وآمريها والمنتسبين إليها، قائلاً: "البلاد تُحفظ وتُصان عندما تكون الحدود مصونةً وممسوكة، وهي اليوم كذلك بفضل جهود الأبطال. لن ندّخر جهداً في تأمين احتياجاتكم من أجل تأدية المهام الموكلة إليكم على أكمل وجه. توجيهاتنا إلى القادة والضباط ومسؤولي القطعات المختلفة هي أنَّ انضباط القوات وضمان سير تنفيذ الخطط المرسومة مسؤوليتكم".
ولم تمر 10 أيام حتى تمت تصفية زعيم تنظيم "داعش" والعقل المخطط لعملية الحسكة، عبد الله القرشي، في مدينة إدلب السورية، بعملية محكمة كان لجهاز المخابرات العراقي دور مهم ومحوري فيها. ولا شك في أن هذه العملية النوعية لها أثر مادي ومعنوي كبير، ارتباطاً بتوقيتها وبمكانة الشخص المستهدف، الذي ظل لعدة أعوام أحد أبرز وأهم مساعدي زعيم التنظيم السابق أبو بكر البغدادي، الذي لقي حتفه أيضاً في مدينة إدلب في 27 تشرين الأول/أكتوبر 2019.
ومما لا يختلف عليه اثنان هو أن مقتل القرشي لا يعني طي صفحة التنظيم، مثلما لم يحصل ذلك بمقتل البغدادي، وقبله مقتل كبار قيادات تنظيم "القاعدة"، لأن "داعش" يمتاز بقدرته على امتصاص الصدمات والضربات واستيعابها، ويملك البدائل لسد الفراغات في مختلف المواقع، ولا سيما العليا منها، لكن في الوقت نفسه، فإن مثل تلك الاستهدافات النوعية من شأنها إرباكه وإضعافه وتبديد جزء من المكاسب التي يحققها، فمقتل القرشي يمكن أن يكون قد أفرغ عملية سجن "غويران" من بعض بريقها وبعدها وأثرها الإيجابي لدى قيادات التنظيم وكوادره.
ومع ذلك، إن زيارة الكاظمي لمنطقة الحدود العراقية - السورية وتصريحاته هناك استبطنت رسائل عديدة لا تنفصل ولا تبتعد عن أبعاد عملية الحسكة وتداعياتها، كما لا تنفصل ولا تبتعد عن خروقات أمنية خطرة ومقلقة شهدتها الشهور القلائل الماضية في العراق، إذ استهدفت مجاميع "داعش" الإرهابية مواقع ومقرات تابعة للجيش والحشد الشعبي وقوات البشمركة الكردية في مناطق مختلفة من محافظات ديالى وكركوك وصلاح الدين ونينوى والأنبار وأربيل، كان آخرها الهجوم الداعشي على سرية عسكرية في منطقة العظيم، والّذي أدى إلى استشهاد 10 جنود وضابط برتبة ملازم.
وفي الوقت ذاته، إن تصفية زعيم التنظيم بعد وقت قصير جداً ربما مثّل واحداً من مخرجات تكثيف الجهود الأمنية والاستخباراتية والعسكرية للرد على "داعش".
وبالعودة إلى جريمة العظيم، فإذا كان البعض يعتبر أنَّ الظروف المناخية القاسية ساعدت إلى حدّ كبير على ارتكابها، فإنَّ الشهور القلائل الماضية شهدت عمليات إرهابية عديدة نفَّذتها مجاميع من تنظيم "داعش" في ظل ظروف مناخية عادية، ما يعكس وجود خلل خطر في البنية الأمنية والأداء الأمني، ناهيك بمساعٍ وجهود تقودها أطراف خارجية، دولية وإقليمية، لإعادة تمكين "داعش"، كجزء من متطلّبات الصراع المحتدم، والأخذ في التوسع والتمدّد إلى مساحات بعيدة عن ميادين منطقة الشرق الأوسط.
وهنا، لا بدَّ من التنبيه إلى جملة أمور - أو حقائق - مهمَّة للغاية، من أجل الإحاطة بما يجري من وقائع وأحداث وفهم جوهرها؛ الأمر الأوَّل هو أنَّ تنظيم "داعش" الإرهابي، وإن كان قد هُزم عسكرياً في العراق في العام 2017، ولكنه لم ينتهِ وجودياً، ارتباطاً بفلسفته المتمثّلة بإقامة "دولة الخلافة الإسلامية"على الصعيد العالمي، من دون حصرها وتحديدها ببلد أو إقليم معين.
وما يدلّ على ذلك هو أنّ "داعش" الَّذي هُزم وانكسر في العراق، وكذلك في سوريا، بقي محتفظاً ببناه وهياكله وأدواته ووسائله، فضلاً عن أنّه عوّض انحسار نفوذه وهيمنته في هذين البلدين بالتوسع والتمدد في مواقع وأماكن أخرى.
وعن ذلك، تقول مجموعة الأزمات الدولية (Crisis group) في تقرير أصدرته مطلع العام الجاري: "منذ العام 2017، عندما خسر داعش ما سماه دولة الخلافة في الشرق الأوسط، عانت أفريقيا بعض أشرس المعارك في العالم بين الدول والجهاديين. نشاطات الجماعات الإسلامية المسلّحة في القارة ليست جديدة، ولكنَّ الثورات المرتبطة بداعش والقاعدة ازدادت في السنوات الأخيرة".
ولم يتنامَ تنظيم "داعش" في أفريقيا فحسب، إنما في آسيا أيضاً، وتحديداً في بعض بلدان آسيا الوسطى والقوقاز وتركيا وأفغانستان وباكستان، وكما يقول النائب الأول لمندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، دميتري بوليانسكي، "إن الفرع الأفغاني لتنظيم داعش هو أحد العوامل الرئيسة في زعزعة استقرار أفغانستان، وهو يهدد دول آسيا الوسطى، ويتمثل خطره بتوسع أنشطته الأيديولوجية والدعاية والتجنيد، مع الاستخدام الماهر لتقنيات المعلومات والاتصالات".
الأمر الآخر هو أن هناك أطرافاً دولية ساهمت بشكل أو بآخر بإيجاد التنظيمات والجماعات الإرهابية ذات الطابع العالمي وتمكينها، مثل "القاعدة" و"داعش"، وهو ما كشف عنه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قبل حوالى عامين، حين أكد أنَّ سلفه باراك أوباما ونائبه هيلاري كلينتون هما من أسَّسا تنظيم "داعش". فضلاً عن ذلك، هناك رؤية تتبناها بعض النخب السياسية والفكرية والعسكرية الغربية، ومنها الأميركية، وهي أن الولايات المتحدة، في واقع الأمر، لم تحارب التنظيمات الإرهابية، إنما كانت تدير الحرب معها وفق ما تقتضيه مصالحها وحساباتها، بحيث إنها ما زالت - ومعها حلفاؤها وأصدقاؤها - ترى أهمية الاحتفاظ بتنظيم "داعش" وتوظيفه واستغلاله في الزمان والمكان اللذين تراهما مناسبين لها، بدليل أنَّها كانت قادرة على القضاء عليه خلال فترة قياسية في العراق وسوريا، إلا أنَّها لم تفعل ذلك، بل ربما تكون قد فعلت العكس في أوقات كثيرة ومناسبات عديدة.
وفي هذه المرحلة، قد لا يكون من مصلحة الولايات المتحدة وبعض حلفائها، مثل "إسرائيل" والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، القضاء على تنظيم "داعش" أو إضعافه وتحجيمه، ارتباطاً بطبيعة ظروف المنطقة وأوضاعها التي تقتضي محاصرة الخصوم والأعداء وإشغالهم على كل الجبهات، وفي مقدمتهم الخصوم والأعداء، إيران وروسيا والصين، والحركات والقوى المنضوية تحت مظلّة محور المقاومة.
صحيح أنَّ هناك انفراجات وبوادر تهدئة واحتواء للأزمات بين إيران من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى، من خلال المباحثات الجارية حالياً في العاصمة النمساوية فيينا حول الملف النووي الإيراني، وحتى بين إيران وبعض دول المنطقة، ولا سيَّما السعودية والإمارات، في ظلِّ توجه الحكومة الإيرانية الجديدة برئاسة إبراهيم رئيسي إلى تعزيز الانفتاح على المحيطين العربي والإقليمي، إلا أن هذه الانفراجات تقابلها ارتدادات واهتزازات خطرة جداً قد تفضي إلى خلط الأوراق بشكل كبير، كما هو الحال بالنسبة إلى الأزمة الأوكرانية، واحتمالات الصدام بين روسيا من جانب ومنظومة حلف شمال الأطلسي (الناتو) من جانب آخر، ناهيك بأنَّ أوضاع اليمن وأفغانستان وبعض بلدان المغرب العربي وأفريقيا مرتبكة ومضطربة وغامضة إلى حد كبير.
بالنسبة إلى العراق، الذي كان على مدى 19 عاماً بيئة خصبة لنشاط مختلف الجماعات الإرهابية وتحركها، بحكم ظروفه السياسية وتقاطع المصالح الدولية والإقليمية حوله وفيه، فهو لم يغادر بعد مرحلة الخطر الداعشي والعناصر المحركة له، لأنَّ الأسباب والعوامل التي أوجدت الأرضيات الملائمة لـ"القاعدة" و"داعش"، ومختلف العناوين والمسمّيات الأخرى المرتبطة بهما، ما زالت فاعلة، وإن بدا بعضها كامناً، بيد أنَّه قابل للتوظيف في أيِّ وقت، والمشهد العام بتفاعلاته وتداعياته السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية يؤشر إلى ذلك، ووقائع وأحداث الشهور القلائل المنصرمة تؤكّده.