حول قدرة ردع المحور وطريقة إدارة الحرب
ترشيد استخدام النار من قِبل المقاومة يشير إلى أنها تتعامل مع الحرب بصفتها معركة استنزافٍ طويلة، وبأن المقاومة تحافظ على ترسانتها العسكرية لأطول فترةٍ ممكنةٍ تحسباً لأي طارئ.
يزداد عدد المقتنعين بأن هذه الحرب ستكون حرباً قاسيةً، وأن فرص التوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار ضئيلةٌ للغاية، وأن العدو ماضٍ في هذه الحرب بهدف تغيير الوضع الإستراتيجي في منطقة المشرق العربي، أو بصيغةٍ أخرى إعادة إدخال المنطقة في العصر الإسرائيلي وهدم كل إنجازات قوى التحرر العربي والإسلامي التي تراكمت وتعاظمت منذ بزوغ فجر القرن الحادي والعشرين مع تحرير جنوبيّ لبنان، وهذا يُبنى عليه عدة أمور تتعلق بأهداف الحرب على لبنان وقدرة ردع المحور التي يتحدث عنها كثيرون وطريقة إدارة المقاومة لمعاركها.
أهداف الحرب على لبنان
يزعم كيان الاحتلال أن هدف الحرب على لبنان هو إعادة المستوطنين إلى مستوطنات شمال فلسطين المحتلة، وإبعاد ما يسميه خطر حزب الله عن الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة، لكن التدقيق في ما واظب نتنياهو على التصريح به منذ بداية طوفان الأقصى، والذي انتبه له البعض متأخراً، بأنه يسعى إلى "تغيير وجه الشرق الأوسط"، وتدعمه في هذا التوجّه حكومة العدو، على عكس بعض التقديرات، ما زالت قويةً وتحظى بدعم الشرائح الأوسع بين المستوطنين، أو "الشعب الإسرائيلي"، بحسب مصطلحات العدو، إذ إن هذه التوليفة الحكومية جاءت انعكاساً لتغير في التوازنات التي كانت تحكم سكان الكيان المؤقت، وصعود الجناح الديني الأكثر اندفاعاً، الذي يرى أن الفرصة قد باتت مواتيةً لاستكمال المشروع الصهيوني بالقوّة، على عكس الخيار الذي يتبناه ما يسمى بالجناح الليبرالي الذي يرى أن السبيل الأفضل لذلك يكون عبر ألاعيب السياسة والطرق الملتوية، من مشاريع سلام كاذبة واتفاقات أسرلة إبراهيمية وغيره. وقد كان هذا الانقسام في مجتمع المستوطنين شاخصاً للعيان قبيل عملية طوفان الأقصى؛ الانقسام الذي وُصِف بأنه انقسامٌ عموديٌ حتى من قِبل الصهاينة أنفسهم.
إن هدف "تغيير وجه الشرق الأوسط"، الذي يطمح له العدوان الصهيوأميركي، يعني بالضرورة إنهاء الوجود الفلسطيني المتبقي على أرضه في الضفَّة وغزة وحتى القدس والأراضي المحتلة 1948، وهدم المسجد الأقصى وإقامة هيكلهم المزعوم عليه، وهذا أيضاً يُصرِّح به قيادات العدو.
إن هذه الأهداف تمر عبر مسارٍ إلزاميٍ يتمثّل بالقضاء الكامل على المقاومتين الفلسطينية واللبنانية أو فرض استسلامٍ واضحٍ عليهما لا يقبل التأويل، لينتقل العدو الصهيوأميركي بعد ذلك لفرض شروطه على باقي دول وقوى محور المقاومة، التي ستكون بذلك قد خسرت أهم وأقوى ركيزتين لديها في مواجهة الاحتلال.
إذاً، الهدفان المعلنان للحرب على لبنان؛ إعادة المستوطنين إلى شمال فلسطين المحتلة، و"إبعاد خطر حزب الله" عن الحدود، يتضمنان بالضرورة تفريغ الجنوب من سكانه، إذ كيف يمكن "إبعاد خطر حزب الله" من دون تفريغ الجنوب من أهله، وهم حاضنة وبيئة المقاومة الإسلامية في لبنان وخزّانها البشري؟
فالمقاومة اللبنانية من الشعب اللبناني، ولم تنزل من المريخ، والكلام ينطبق كذلك على قول العدو إنه يريد إزالة خطر المقاومة الفلسطينية، وكأن المقاومة الفلسطينية ليست ذاتها الشعب الفلسطيني، ناهيك بأنه كيف يمكن "إبعاد خطر حزب الله" دون قلب كل التوازنات اللبنانية الداخلية رأساً على عقب؟
قدرة ردع المحور
لقد تمكّن العدو الصهيوأميركي خلال هذه الحرب القاسية من النّيل غيلةً من قياداتٍ عدّة في المقاومتين الإسلاميتين الفلسطينية واللبنانية. وقد دفعت هذه الاغتيالات المتكرّرة الكثيرين إلى القول إنه لو كان هناك ردٌّ أقوى من قبل المحور بعد أول اغتيالٍ، لَمَا كان العدو قد تجرّأ على الاستمرار بسياسة استهداف القيادات.
وبناء عليه، إذا ما تبنّينا الرؤية آنفة الذكر حول أهداف العدو الصهيوأميركي الحقيقية من هذه الحرب بكل أبعادها، وبأن العدو ماضٍ بالفعل في حربٍ يراها حرب وجودٍ بحسب وصْفِه لها، يصبح السؤال: هل كانت بالفعل طبيعة الردود وقوتها على الاغتيالات ستُبدِّل من تكتيكات العدو الحربية؟ وهل كانت لتثنيه عن الاستمرار في حربه؟
لعل بعض التقديرات الخاطئة لأهداف هذه الحرب ومدياتها أدّت إلى استخدام مصطلحاتٍ لا تتناسب مع طبيعتها، ولا تتماشى مع حقيقة واقع المعارك الدائرة منذ 7 تشرين الأول 2023، إذ إن هذه الحرب تختلف عن سابقاتها بكونها حرب كسر عظمٍ، سيكون في نهايتها رابحٌ وخاسرٌ بصورةٍ جليةٍ لا تحتمل التأويل، فهي من الحروب التي لا تقبل القسمة على اثنين. لذلك، لا يصح فيها الحديث عن "قواعد اشتباكٍ" بالمعنى ذاته الذي كان سارياً قَبْل اندلاع المعارك، ولا مكان لمفهوم "استعادة قدرة الردع" في ما يجري حالياً، فالحرب الراهنة نشبت في الأساس بسبب اختلالٍ طرأ على "موازين القوى" التي سادت الإقليم والعالم خلال العقدين الأخيرين، وما يجري هو محاولةٌ لإعادة رسم توازنات الإقليم برمته لا محل فيه لمفهوم استعادة الردع، كما كان الحال وقت الهدوء على الجبهات، فهذه الحرب كسرت كل الخطوط الحمر بسبب الأهداف التي يرتجيها كل طرفٍ منها، وهي على الأرجح مستمرةٌ لحين فرض هزيمةٍ عسكريةٍ على أحد الأطراف المتقابلة أو استسلامه، ومن المشكوك فيه في حروبٍ كهذه أنّ مجردَ ردٍ معيّن من طبيعةٍ معيّنةٍ سيكون كفيلاً بردع العدو أو تغييره لتكتيكاته العسكرية، كما أن حجم الرد وقوته لا يرجح أن يؤدي إلى تراجع العدو عن سياسة الاغتيالات، ولا سيما حينما يكون واضحاً من مجريات المعارك أن العدو الصهيوأميركي لا يملك بنك أهدافٍ عسكرياً فعلياً.
إنه لَمِن المفارقة أن شح الأهداف العسكرية لدى العدو دفع جيشه النظامي، والأكثر تسليحاً في المشرق العربي، إلى التركيز على الأهداف التي تلجأُ عادةً المجموعات الصغيرة وضعيفة التسليح إلى استهدافها، فضرب المدنيين لا ينم عن نزعةٍ إجرامية لدى العدو فحسب، بل إنه يشير أيضاً إلى فقرٍ في بنك أهدافه العسكرية، إذ إن المنطق العسكري الذي أجمعت عليه جيوش العالم قاطبةً يقضي بتوجيه جيش الاحتلال ما يملكه من قدرات نارية وتدميرية هائلة نحو تحييد قدرات خصمه العسكرية الصاروخية والنارية، وتجريده منها بدايةً، ما يفتح الطريق أمامه للقيام باجتياحٍ بريٍ أو فرض شروط الاستسلام على خصومه.
لكن كما يبدو أن شح بنك الأهداف العسكرية لدى العدو حتّم عليه اللجوء إلى استهداف قادة المقاومة السياسيين والعسكريين، في محاولةٍ لضرب منظومات القيادة والسيطرة لدى المقاومة، وتحقيق "هزيمة إدراكية" للخصم من خلال ضرب الروح المعنوية للمقاتلين والحواضن الشعبية. ويأتي استهداف المدنيين الممنهج في بعض نواحيه ضمن هذا السياق.
لذلك، لم يكن متوقعاً أن يرتدع العدو عن مواصلة استهداف قيادات المقاومة بسبب الردود التي يتلقاها، وذلك بمعزلٍ عن طبيعة تلك الردود، فإحجامه عن سياسة الاغتيالات يُفقده أحد ركائز إستراتيجيته القتالية التي لا يبدو أن لديه بديلاً منها. أضف إلى ذلك تفوق العدو الصهيوأميركي البارز في مجال تتبع قيادات المقاومة التي تعد بقدرٍ ما أهدافاً رخوةً، وتتيح للعدو تحقيق إنجازاتٍ معنويةٍ كبيرةٍ، إضافة إلى الآثار التكتيكية في سير المعارك.
طريقة إدارة المقاومة لمعاركها
يترك الحديث التفصيلي في هذا الشأن للخبراء العسكريين، لكن يمكن الإشارة إلى بعض النقاط التي يمكن ملاحظتها من سير المعارك حتى حينه، فإضافة إلى مَا ورد سابقاً عن اتباع جيش الاحتلال أساليب لا تليق بالجيوش النظامية، حتى إن كثراً من المختصين العسكريين قالوا إن "جيش" الاحتلال لا يقاتل فعلياً، بل يتصرف كثورٍ هائج يضرب يميناً وشمالاً، مستغلاً ما تمنحه إياه الولايات المتحدة الأميركية من أسلحة ذات طاقةٍ تدميريةٍ هائلةٍ، فيما نجد أن المقاومة الإسلامية في لبنان تتصرف بعقيدةٍ عسكريةٍ تحاكي عقيدة الجيوش النظامية، وذلك رغم تصنيفها على أنها فصيلٌ مسلحٌ بالمعنى العسكري، إذ إنها تستهدف أهدافاً عسكريةً للعدو منذ بداية المعارك، وتحاول تجنّب استهداف المستوطنين والمرافق غير العسكرية.
ويدل ذلك على امتلاك المقاومة بنكاً واسعاً من الأهداف العسكرية، وأنها تسير ضمن خطةٍ عسكريةٍ مرسومةٍ سلفاً.
كما أن المقاومة على الأرجح، وبحسب ما صرّحت به غير مرّةٍ، لم تستخدم حتى اللحظة إلا الجزء اليسير من قدراتها الحربية، ولم تُدخِل بعد سلاحها الاستراتيجي أرض المعركة.
ترشيد استخدام النار من قِبل المقاومة يشير إلى أنها تتعامل مع الحرب الراهنة بصفتها معركة استنزافٍ طويلة، وبأن المقاومة تحافظ على ترسانتها العسكرية لأطول فترةٍ ممكنةٍ تحسباً لأي طارئ، وبناءً على خططٍ مدروسةٍ لا يحكمها الانفعال ولا ردود الأفعال.
خاتمة
لا جدال في كون الحرب الراهنة حرباً ضروساً، والأرجح أنها ستطول ربما لسنين، لكن لا بد من أن المقاومة أعدّت العدّة ليومٍ كهذا، ولا ينبغي التقليل من الضربات التكتيكية القوية التي تمكّن العدو من توجيهها إليها، سواء أكانت مجزرة "البيجر" أم الاغتيالات التي طالت قيادات من الصف الأول، وعلى رأسهم الشهيد الحسيني، حجة الإسلام وقائد المقاومة، سماحة السيد حسن عبد الكريم نصر الله.
لكن في الوقت ذاته، لا ينبغي التضخيم من إنجازات العدو التكتيكية تلك، فالواضح أن قدرة المقاومة العسكرية وترسانتها لا تزال متماسكةً وحاضرةً، ولم تُصَب بأذى يذكر، وهذا ما يحسم المعارك، لا التدمير الكبير من الجو. ومع ورود الأخبار عن بداية العدوان الصهيوني البري على جنوبيّ لبنان، يمكن القول إن المعركة الفعلية بدأت الآن فقط، فلننتظر ونرَ ما أعدّ رجال الله في الميدان كي يجعلوا حال جيش الاحتلال أسوأ من حاله في حرب تموز 2006 بقوة الله وحوله.