حماس تحت مجهر "الإرهاب" في بريطانيا: مصلحة بريطانية أم رضوخ للصهيونية؟
قد يكون أحد دوافع القرار البريطاني إلى معاداة حركة المقاومة الفلسطينية هو عقد صفقة تجارية مع "إسرائيل" بعد "البريكست".
قد يكون توقيت قرار وزيرة الداخلية البريطانية، بريتي باتيل، بشأن تصنيف حركة "حماس" تنظيماً "إرهابياً" مفاجئاً للجميع، لكن التشدُّد البريطاني تجاه حركات المقاومة الفلسطينية ليس طارئاً، بل هو نتيجة التماهي البريطاني المتزايد مع "إسرائيل"، وخصوصاً في السنوات الأخيرة، بعد وصول حزب المحافظين إلى السلطة.
التحول في السياسة الخارجية قد يُعَدّ انقلاباً على تقليد أو ميزة لطالما امتازت بها بريطانيا، وهي استخدام البراغماتية في تعاطيها مع الملفات الساخنة، ولاسيما في مقاربة القضية الفلسطينية. فهي لم تُجارِ في السابق، على سبيل المثال، بعضَ الدول الأوروبية والولايات المتحدة في تصنيف شامل لحركة "حماس" في خانة "الإرهاب"، بل أبقت على شعرة معاوية، مستخدمةً تصنيفاً آخر تميّز فيه بين الجناحين العسكري والسياسي للتنظيم الفلسطيني. ما استجدّ، عبر معاقبة كل بريطاني يرفع راية "حماس"، أو يتواصل مع أعضاء ينتمون إليها، بالسَّجن مدةً قد تصل إلى أربعة عشر عاماً، يشي بتبني سياسة صريحة للحكومة البريطانية في الشرق الأوسط، جوهرها الاصطفاف إلى جانب محور يعادي المقاومة وينحاز بصورة كاملة إلى "إسرائيل".
قد يكون أحد دوافع القرار البريطاني إلى معاداة حركة المقاومة الفلسطينية هو عقد صفقة تجارية مع "إسرائيل" بعد "البريكست"، وربما تكون موجةُ التطبيع الخليجي ساهمت في منح لندن حريةً أكبر في إعلان انحيازها صراحةً إلى "إسرائيل"، لكن قرار وزيرة الداخلية الأخير يستبطن بُعداً آخر، هو هيمنة "إسرائيل" الكاملة على أجندة السياسة الخارجية البريطانية.
الأسباب والتوقيت في تصنيف "حماس" في قائمة "الإرهاب"
منذ أن تبنّت حكومة تيريزا ماي، عام 2016، التعريفَ الجديد الذي وضعه "التحالف الدولي لذكرى المحرقة " لمعاداة السامية، بدأ مسار جديد في مقاربة التنامي الشعبي المؤيد للرواية الفلسطينية. التعريف الجديد وضع الانتقادات الموجَّهة إلى "إسرائيل" ضمن سياق معاداة السامية، بحيث أشار إلى "أن من معاداة السامية اتهامَ اليهود بأنهم موالون لإسرائيل أكثر من دينهم أو دولهم، أو وصف إسرائيل بأنها دولة عنصرية في جوهرها". ويمثّل هذا التبني الواضح لحكومة المحافظين نقطةَ انطلاق في التضييق على المتضامنين مع فلسطين، وخصوصاً تجاه حركة "بي دي أس"، التي باتت تُوجع كثيراً "إسرائيل" بسبب تأثيرها الاقتصادي المهم.
وتحاول الحكومة، في هذا السياق، فرض التعريف الجديد لمعاداة السامية على المدارس والجامعات، سعياً منها لإسكات الصوت الفلسطيني، مستخدمةً لغة التهديد تجاه بعض المؤسسات الأكاديمية بوقف التمويل عنها في حال رفضها التعريف الجديد، الأمر الذي اضطر نحوَ ثلاث وتسعين جامعة إلى تبني التعريف الجديد لمعاداة السامية.
وكانت مؤسسة "مجموعة الحقوق كيج" تقدَّمت بدعوى قضائية أمام المحاكم البريطانية ضد وزير التربية السابق غافن ويليامسون بسبب محاولته فرضَ الحياد السياسي بشأن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، بعد وصفه ما يجري في المدارس بـ"الزيادة المقلقة في الحوادث المعادية للسامية".
الحركة الصهيونية في المملكة المتحدة نشطت بفعالية في هذا الإطار من أجل تضييق الخناق على التمدد الفلسطيني في المشهد البريطاني، مستخدمةً سلاح المساواة بين انتقاد الصهيونية ومعاداة السامية. وروَّجت جماعات الضغط الإسرائيلية في وسائل الإعلام البريطانية فكرةَ الشيطنة، ليس فقط للناشطين الفلسطينيين، بل أيضا لحركة "حماس"، وخصوصاً بعد خروج عشرات آلاف المتضامنين البريطانيين مع أبناء غزة. واعتبر الكاتب البريطاني المعروف، وذو الميول الصهيونية، جايك سايمون، في مقال له في صحيفة spectator في أيار/مايو من العام الحالي، "أن لندن تحوّلت إلى واحد من أكبر المراكز لحركة حماس في العالم"، مضيفا أن "حماس" باتت "تستخدم لندن منصةً لجمع أموال من أجل استخدامها في قتل الإسرائيليين".
وأشار سايمون إلى أن أعضاء من مجلس أمناء اليهود في بريطانيا عقدوا اجتماعاً طارئاً، في أيار/مايو من العام الحالي، برئيس الحكومة البريطانية من أجل مطالبته بحظر الجناح السياسي لحركة "حماس" في بريطانيا.
التهافت السياسي في بريطانيا على تجديد الولاء لـ"إسرائيل"
تشهد بلاد الضباب انغماساً حكومياً واسعاً في تجديد الولاء لـ"إسرائيل" وإرضاء الصهيونية. فحكومة المحافظين بدأت، على نحو مطّرد، منذ استلامها السلطة، مسارَ تعميق علاقاتها العسكرية بـ"إسرائيل" وعقد صفقات عسكرية معها، بعضها غير معلَن، كما يؤكد بعض التقارير. وتشهد العلاقات زيارات عسكرية متبادلة، فضلاً عن إجراء تدريبات عسكرية مشتركة في شماليّ إنكلترا.
قرار إدراج "حماس" منظمةً "إرهابية" جاء بعد عشرة أيام على موافقة وزارة الدفاع البريطانية على صفقتين عسكريتين لشركة "إلبيت" الإسرائيلية، تقدَّر قيمة الصفقة بنحو ستين مليون جنيه إسترليني، وجاء أيضاً بعد ثلاثة أسابيع من التمارين العسكرية مع القوات الجوية العسكرية التابعة للاحتلال الإسرائيلي.
لا يُخفي رئيس الحكومة البريطانية، بوريس جونسون، إعجابه بـ"إسرائيل" وتعاطفه مع الصهيونية، وتفاخر يوماً بوصفه "إسرائيل" بأنها "معجزة". كما أنه اختار السفير البريطاني السابق في "إسرائيل"، دايفيد كواري، مستشاراً خاصاً له فيما يتعلق بالشؤون الدولية. وكانت مجموعة أصدقاء "إسرائيل" نظّمت عام 2012 حملة لمناصرته في انتخابات عمدة لندن.
التعاطف مع "إسرائيل" موصول لبقية أعضاء الحكومة البريطانية، فوزير الإسكان الحالي روبرت جينريك، المؤيد لفكرة المساواة بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، قال يوماً في حفل لمجموعة أصدقاء "إسرائيل" "إن إسرائيل هي أحد أعظم إنجازات التاريخ الإنساني". وكانت وزيرة الداخلية بريتي باتيل نفسها تقاضت أموالاً بعد أن شاركت في مجموعة الضغط اليهودية الأميركية "أيباك" في واشنطن. كما أنها اُرغمت، عام 2017، على الاستقالة من حكومة تيريزا ماي، عندما تبيَّن عقدُها خلال زيارتها الخاصة لـ"تل أبيب" لقاءاتٍ مع كبار المسؤولين الإسرائيليين، وبينهم نتنياهو، من دون أن تكشف لحكومتها طبيعة هذه اللقاءات والمحادثات.
وليس بعيداً عن حكومة المحافظين، فمجموعة أصدقاء "إسرائيل" داخل الحزب الحاكم لا يقلّ دورها عن سائر جماعات الضغط في بريطانيا في شيطنة حركات المقاومة لـ"إسرائيل". فهذه المجموعة البرلمانية، التي تضم نحو ثمانين في المئة من أعضاء الحزب، نظّمت رحلات على حسابها لثلث الوزراء في حكومة جونسون.
وأمضى بوريس جونسون نفسه خمسة أيام في تشرين الثاني/نوفمبر 2004 في "إسرائيل" على حساب كل من حكومة الاحتلال الإسرائيلي ومجموعة أصدقاء "إسرائيل" في حزب المحافظين. ولا تقتصر موجة الولاء والارتماء في حِضن "إسرائيل" على حزب المحافظين الحاكم، بل تمتدّ أيضاً إلى حزب العمال. فزعيم الحزب كير ستارمر شنّ هجوماً على ما وصفه بـ"معاداة السامية المعادية للصهيونية"، معتبراً أن معاداة الصهيونية ستحرم اليهود من حق تقرر مصيرهم. وانبرى ستارمر للدفاع عن السفيرة الإسرائيلية تسيبي هوتوفلي، عندما طردها طلاب من كلية العلوم الاقتصادية في لندن، معتبراً أن الحادثة غير مقبولة،
بينما طالب أحد نواب حزبه باعتقال الطلاب. وتماشى وزير الداخلية في حكومة الظلّ، نيك سيماوند، مع سياسة زعيمه، معتبراً أن الاعتداء على السفيرة هو معاداة السامية، بينما أمرت وزيرة الداخلية، باتيل، الشرطةَ بإجراء تحقيق في الحادثة، في حين وصفت صحف موالية لـ"إسرائيل" طلابَ الجامعة بأنهم أدوات إيرانية في بريطانيا.
وكشف الوزير البريطاني السابق في حكومة المحافظين، ألن دانكن، في كتابه "In the thick of it"، مدى تأثير "إسرائيل" وجماعات الضغط في بريطانيا. وأشار السياسي المحافظ إلى أن مجموعة أصدقاء "إسرائيل" في حزب المحافظين منعوا جونسون من تعينيه وزيراً لشؤون الشرق الأوسط، مضيفاً "أن إسرائيل تعتقد أنها تسيطر على وزارة الخارجية البريطانية وهي بالفعل كذلك".
ربما تكون "إسرائيل" كسبت إلى صفّها أركان الدولة البريطانية في معركتها ضد الأحرار، لكنها لا تزال عاجزة عن وقف المدّ الشعبي المتزايد في تأييده لعدالة القضية الفلسطينية. فالحركة الصهيونية، التي عملت جاهدة من أجل منع ارتداء الكوفية الفلسطينية في حرم البرلمان، ستقف عاجزة عن صدّ حملات مقاطعة "إسرائيل" في مختلف الميادين. إن تصنيف حركة "حماس" تنظيماً "إرهابياً" قد يضيف فصلاً جديداً إلى الحكاية البريطانية بشأن مأساة الشعب الفلسطيني. افتعلت حكومة جونسون معركة مع "حماس" في الداخل البريطاني، على الرغم من علمها بعدم وجود الحركة في الأراضي البريطانية، على الأقل منذ تصنيفها الجناح العسكري للحركة عام 2001 منظمة "إرهابية". لكنّ القرار البريطاني يرسم ملامح لعلاقة جديدة بالشعب الفلسطيني، جوهرها معاداة السامية حفاظاً على المشاعر اليهودية في المملكة المتحدة.