جنين بين النفق والكتيبة
تصدّرت جنين مشهد البطولة عبر تاريخها. وقد ثبت اشتعال ميدانها واتساعه مع تطور متدرج في طبيعة المواجهات، بما أرسى سؤالاً لا يتوقف عن خصوصية هذا الميدان المتّقد دوماً.
"ابتسم للصورة، وارتدِ أكثر ملابسك أناقةً، فقد تكون أنت الملصق التالي على الجدران. رصاصهم لا يستثني أحداً. هنا جنين جراد". هذا ما نشره المسعف محمد ملش في السادس من أيلول/سبتمبر، بالتزامن مع الذكرى السنوية الأولى لعملية "نفق الحريّة".
خرج ملش بعد منشوره ليسعف المصابين في شوارع جنين، ليصبح خبراً صحافياً بعد أن أصابه هذا الرصاص الإسرائيلي، وقد فتح ثأراً تلمودياً خاصاً مع جنين وكلّ أهلها.
تصدّرت جنين مشهد البطولة عبر تاريخها الممتد، منذ أن احتضنت أحراجها فارس اللاذقية الشيخ السوري عز الدين القسام، ليرسم بدمه وخطه الفكري الأصيل معالم الطريق لأمة يراد لها القعود أبد الدهر، ويتقدم فرسان الجيش العراقي عبر هدي هذه المعالم، وقد ضحوا بدمائهم على أبواب جنين في نكبة فلسطين الأولى، ويطلقون مع ريح جنائنها أنفاس التحدي، وقبورهم تتزين حولها كزنار مفخخ بالشظايا والبارود.
هذه الشظايا نثرها راغب جرادات في أوج الملحمة هناك في حيفا، حيث قبر القسام، في عقاب جنينيّ عاجل لجيش وحشي اجتاحها ليمسح عش دبابيرها، فإذا بهذه الدبابير تتوالد بعد عقدين في جيل عشق ابتسامة جميل العموري وبارودة عبد الله الحصري وعناد داوود الزبيدي، فكانت الكتيبة فخر السرايا وقدر هذا الجيل في حمل عبء أمة توحدت قطرات دمها جدولاً يسقي بساتينها خصوبة التحدي المستحيل.
بين النفق والكتيبة معادلة تكاملت أطرافها، منذ أن كان مهندس النفق المعجز، محمود العارضة، يجدد فكر الشقاقي في فتية المخيم على صفيح جلبوع الساخن. عشرات تتلمذوا على مائدته، وانطلقوا إلى الأزقة والحواري، ليصوّبوا بوصلة البارود الذي لم يكن يزغرد إلا في الأعراس والصراعات العائلية، فإذا به يندفع نحو جنود الاحتلال، فترتد غاراتهم على جنين من نزهة خاطفة إلى مواجهة يرتقي فيها الشهداء، ويتخبّط في وهجها "الجيش الذي لا يقهر"، وتقع في صفوفه خسائر، يتكتم على غالبها، ويضطر أحياناً إلى الاعتراف ببعضها.
خرج نفق جلبوع المعجز من زنزانة مكبّلة بكل تقنيات القهر الإسرائيلي، وهي تحمل المستحيل لكلّ طامح إلى الحرية، ولكن ثمة صدر حاضن استمدّ محاربة المستحيل منذ أن نادى بالإجابة عن سؤال المرحلة. وقد منع السجّان العبري أسرى الجهاد من أخذ حصتهم في زنازين القسم، إلا أن تكون في الوسط، بعيدة عن أطرافه الخارجية، استباقاً لأي محاولة للتحرر. وقد اشتهر أسرى الجهاد أكثر من بقية إخوانهم بمحاولات سابقة متكررة، نجح بعضها في سجون كفار يونا وعوفر، وكان أشهرها الهروب الكبير من سجن غزة الإسرائيلي، وهو الهروب الذي أطلق شرارة الانتفاضة الأولى.
كانت جنين تتصدّر الانتفاضة الأولى والثانية في ظلّ زخم فلسطيني عارم على امتداد الوطن، ولكنها في زمن النفق الذي أطلق وهج الكتيبة، تجد نفسها تعزف لحن المواجهة، وشهداؤها يصرخون: يا وحدنا! فالعمليات النوعية في قلب الكيان، يخرج غالبها من جنين، وآخرها عملية الغور، ومشاغلة الرصاص والعبوات تنفرد بها جنين، في مواجهة أدنى اقتحام لأيّ طرف من أطرافها ومعظم بلداتها من قباطية حتى طوباس، ليعترف قائد أركان الجيش العبري بأن أكبر تحديات كيانه الأمنية يمتد من رصاص جنين حتى نووي أصفهان.
وأمام تصاعد المواجهات في نابلس، ورمزية بطولة إبراهيم النابلسي وإخوانه، واشتباكات متفرقة هنا وهناك من رأس كركر وبيتين وسلواد حتى حوسان، ظلّت جنين نبض المجابهة وفيصل العنفوان، وقد ثبت اشتعال ميدانها واتساعه مع تطور متدرج في طبيعة المواجهات، بما أرسى سؤالاً لا يتوقف عن خصوصية هذا الميدان المتّقد دوماً في جنين.
هل تنبع هذه الخصوصية من موقع جنين الجغرافي، وقد تبين أن جغرافيتها رخوة، ليس فيها إلا استعصاء أزقة المخيم، وهي موجودة في كل مخيمات الوطن وبلدات مدنه القديمة! ليبقى السؤال الملحّ يفرض نفسه، وتبقى كلمة السرّ في الفكر والتاريخ وذلك الصدر الذي اخترقت أنفاسه فولاذ النفق، والذي سبق أن اتسعت له جنين منذ أربعة عقود، وظلّ يمثل رافعة خاصة لما هو جذرية الرؤية في مجابهة الباطل الإسرائيلي؛ رؤية خطّ معالمها القسام في أحراج يعبد التي أخرجت ضياء حمارشة، وصاغ حروفها الشقاقي في جولاته الاستثنائية لجنين، ووجدت حمرة لونها عبر كاريزما محمود طوالبة الذي صرخ في أوج المعركة بعدما ألقى هاتفه النقال أنه قتال لا رجعة فيه، ومضى ليثخن القتل في الجيش الغازي، فإذا به يصبح أنشودة عشق تربى على ألحانها هذا الجيل الذي يندفع اليوم نحو الشهادة بلا أيّ حساب.
امتازت جنين عن بقية مناطق الضفة الغربية بوجود لافت للجهاد الإسلامي، وهو وجود اتسعت له كل مدن وقرى ومخيمات الضفة، ولكنه في جنين كان الأقدم من جهة، والأوسع من جهة أخرى. وقد حافظ هذا الوجود على ثبات وتطوّر، مع توفر حاضنة فكريّة وشعبيّة لا تؤمن إلا بزوال المستوطنة المسماة "إسرائيل"، وقد لامست خصوصية المخيم، واستقرت في عقله الجمعي الّذي ظل محفزاً للاندماج السريع مع أدنى شرارة تتقد هنا أو هناك، فكيف وقد انطلقت الشرارة عبر نفق جلبوع المجاور؟!
كان لتحدّر أبطال النفق من جنين، بما يتمتعون به، رمزية استثنائية، في وقت سارعت قيادة الجهاد للدخول على وهج الشرارة، واحتضنت تفاعلات الحدث، ليعلن الأمين العام الحاج زياد نخالة إطلاق "كتيبة جنين"، ويرفدها بمتابعات شاملة. وقد ظهرت إلى العلن وهو يرسم لجنود الكتيبة مسارات التحرك بلا توقف، إلا عبر كمين أو استدراج، حتى أطلق "وحدة الساحات" عبر معركة بدأت في جنين، واتسعت على عصف سرايا غزة، وهي تغرق الكيان بألف صاروخ، بما عزّز ميدان جنين كعنوان للمشاغلة المتصاعدة بلا توقف.