"تركيب السّردية".. مهمّة بايدن الصّعبة في الرياض

لا تقتصر حماسة المحللين الغربييين في الكتابة عن الزيارة على هذا الجانب، بل يغوص في المآلات التي سيذهب بايدن من أجلها، كصفقة زيادة تصدير النفط مقابل العرش، في وقت ارتفعت أسعار مشتقات الطاقة بسبب عقوبات الغرب على روسيا.

  • "تركيب السّردية".. مهمّة بايدن الصّعبة في الرياض

لقيت الزيارة المرتقبة للرئيس الأميركي جو بايدن إلى الرياض الشهر المقبل الكثير من التعليقات والتحليلات، لكونها ستكسر التزاماً عمّده الرئيس الأميركي بشرف الديمقراطية إبان حملته الانتخابية، يتمثّل بتظهير قضية مقتل جمال خاشقجي ومعاقبة من يقف وراء الجريمة.

ولا تقتصر حماسة المحللين الغربييين في الكتابة عن الزيارة على هذا الجانب، بل يغوص في المآلات التي سيذهب بايدن من أجلها، كصفقة زيادة تصدير النفط مقابل العرش، في وقت ارتفعت أسعار مشتقات الطاقة بسبب عقوبات الغرب على روسيا، وهذا ما يذكّرنا بأيام نيكسون مطلع السبعينيات، حينما بعث وزير خارجيته آنذاك هنري كيسنجر للملك فيصل ليعقد صفقة بيع النفط بالدولار مقابل الالتزام الأمني الذي توفره الولايات المتحدة للمملكة العربية السعودية، حماية للدولار الذي أعلن نيكسون وقتها انفكاكه عن غطاء الذهب، وسبَّب صدمة عالمية في الأسواق آنذاك.

وهناك جانب ثالث لا يقل أهمية عن إعادة تأهيل ولي العهد محمد بن سلمان دبلوماسياً، ولا يقلّ أهمية أيضاً عن صفقة زيادة إنتاج النفط، هو تكوين حلف أمني علني واستراتيجي بقيادة "إسرائيل"، تدخل فيه السعودية كشريك رئيسي وفاعل ومهم لمواجهة ما تعتبره واشنطن الخطر الإيراني المتصاعد في المنطقة.

وتمهيداً لهذا الحلف، كان لقاء النقب بكلّ ما حواه من تعاون وصفقات بين "إسرائيل" ودول عربية، بينها البحرين والإمارات، الدولتان اللتان قبلتا تنصيب دفاعات جوية إسرائيلية في أراضيهما، كإنذار مبكر لأيّ ضربات إيرانية محتملة باتجاه الكيان الصهيوني في أي حرب مفترضة بين الجانبين.

تركيب السردية: عملية معقّدة

بعض المحللين يعتقدون أنَّ بايدن سيفشل في مهمته، أولاً لتداخل مصالح الطاقة بين دول الخليج وروسيا، وثانياً لعدم تمكّنه من حل أزمة التضخم بشكل جذري، ولو أتى بالنفط السعودي، وهو -أي التضخم- العامل الذي أثر في شعبية سيد البيت الأبيض بشكل ملموس، بحسب الاستطلاعات.

لكنني أعتقد أن مهمته صعبة لأسباب أخرى. وقد يفشل لسبب يتعلق بصعوبة إعادة تركيب سردية جديدة لعلاقة أميركا بالسعودية، وهذا التعقيد له جوانب عدة، سيحاول الرئيس العجوز جمعها وإعادة تركيبها وإنتاج صورتها الكلية بنسق مقبول، وهنا يكمن التعقيد. ولتوضيح ذلك، لنفصل في أجزاء السردية التي يُراد تركيبها من جديد:

1-  يحاول بايدن نقل السعودية من التطبيع السري إلى التطبيع العلني والانخراط في عمل أمني كبير.

2- سيمشي الرئيس الأميركي على حافة التناقض، فشعبيته بين نزاعين؛ بين تضخم محلي يهدد تفاقمه السلم الأهلي وينبغي حله، ولو بالنفط السعودي، واستهجان جمهوره مصالحة قاتل خاشقجي. هذا النوع من التناقض ينبغي معالجته بالسياسة والإعلام والاقتصاد معاً، وبشكل متسق ومتناسب، وهذا يتطلب بذل جهود من فريق إدارته بشكل مضاعف، وهو عمل ليس هيناً بالتأكيد، وأحد أوجه هذا النوع من التوفيق بين الأمرين، أنه أطلق رسمياً قبل الزيارة على الشارع الذي تقع فيه السفارة السعودية في واشنطن شارع جمال خاشقجي، إلا أن الأمر يحتاج إلى مداورة ومعالجة أعمق من هذا الإجراء الذي قد يعتبر إجراءً شكلياً.

3- زيارته للسعودية ينبغي أن تنجح في وضع اللبنة الأولى لقرار حاسم بشأن الاتفاق النووي، لأن أمن "إسرائيل"، كما يفهمه الغربيون، متوقف على ضمان عدم امتلاك طهران سلاح الردع النووي، وهذا لن يتأتى -بحسب خلاصات مركز واشنطن لدراسات الشرق الأوسط- إلا بالاتفاق النووي، أو في المقابل تشكيل سياج أمني وازن حول إيران يمنع من وقوع الكارثة.

وفي الحالتين، سيكون أمام بايدن مهمة إقناع الإسرائيلي والسعودي بخيار واشنطن في هذا الصدد، مع افتقاد الأخيرة أي حل واقعي بشأن القوة الصاروخية للجمهورية الإسلامية. هذه القوة الصاروخية بمعية قوى المقاومة هي الرادع الحقيقي والمباشر للكيان، وهي الأداة المدمرة في أيّ حرب شاملة قد تقع بين محور المقاومة والكيان المؤقت. لذلك، يتشدد المفاوض الأميركي على تضمين الاتفاق الجديد التفاهم على القوة الصاروخية لدى إيران.

4- من ضمن صعوبات "تركيب السردية" الجديدة وإنتاج خطاب يوائمها، أنَّ على الدول المطبعة عموماً، والسعودية خصوصاً، أن تزيد جرعة تسويق "إسرائيل" لدى الجمهور العربي، وهذا يتطلَّب تضخيم خطر البعبع الإيراني. هذا الأمر قد يعكر المحادثات المستمرة بين طهران والرياض في بغداد، والتي ترنو إلى تصفية الجو بين البلدين وتجسير التفاهم، عبر حل أكبر قدر من المشاكل العالقة، وهذا قد يثقل المهمة أكثر، ويدخلها في زواريب متناقضة أكثر ضيقاً.

5-    وما يؤكّد أنَّ حجم المهمة ضخمة هو تصريح منسق مجلس الأمن القومي للاتصالات الاستراتيجية في البيت الأبيض جون كيري، الذي أكد في مؤتمر صحافي يوم الخميس 16 حزيران/يونيو أنَّ البنود التي سيحملها الرئيس الأميركي لقادة الخليج والأردن والعراق كبيرة ومهمة، وأن بايدن سيقابل ولي العهد السعودي، لكونه وزيراً للدفاع أيضاً، وأن من أهم نقاط الأجندة هي تلك المتعلقة بأمن المنطقة.

محور المقاومة وسلاح الدبلوماسية

صحيح أنَّ محور المقاومة أعد نفسه عسكرياً وأمنياً بشكل جيد، وتطوره في هذا المضمار متصاعد ولافت، لكن ذلك لا يكفي قطعاً في السجالات المتعددة الساحات التي يشهدها الصراع بين محور المقاومة والمحور الأميركي. مثلاً، القوة الإعلامية لدى الأخير كبيرة إذا ما قورنت بإمكانات قوى المقاومة الإعلامية، لا لفقر في الكوادر، إنما لشحّ في غذاء الإعلام، وهو المال الوفير.

كذلك، إن طهران وحزب الله وباقي قوى المقاومة تنسج مقاومة اقتصادية وسياسية فاعلة للتصدي للعداء الدبلوماسي الذي تشنه واشنطن وحلفاؤها ضدهم، فمع وجود نقاط ضعف واضحة في المحور الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، إنّ تجاهل أسباب قوته ليس من الواقعية في شيء.

وقد أشار الراحل أنيس النقاش غير مرة إلى الحاجة الملحة لمحور المقاومة إلى الفاعلية السياسية التي تكمّل الجانب العسكري، فتكون طاولة المفاوضات في أي حوار مع أي طرف من المحور الأميركي مسندة بالذراع العسكرية والحذق الأمني اللذين يعتبران من الأوراق القوية التي تتمتع بها قوى المقاومة في مضامير الدبلوماسية.

وكما تحتاج الدبلوماسية إلى العسكر والأمن، فإنَّ الأخيرين يحتاجان إلى البراعة السياسية والمرونة أيضاً، وهذا ما تسعى إلى توطيده إيران كدولة معترف بها في الأمم المتحدة، وقد برعت فيه، لكن لا يتمكّن حلفاء طهران من توطيد البراعة السياسية بشكل موازِ للقوة العسكرية والأمنية، لأنها تكتلات وأحزاب واقعة تحت طائلة العقوبات ومحاصرة، بل أكثر من ذلك، إن الأميركي، ومن خلال ما يعرف بمؤسسات المجتمع المدني والأحزاب المحلية في البلدان العربية، صنع عقبات في وجه هذه القوى للحد من تأثيرها الخارجي. ورغم فشل NGOs الحالي في الحصول على نتائج وازنة في هذا المسعى، فإنَّ تأثير تلك القوى المحلية في قوى المقاومة مزعج ومؤثر بنسب تتفاوت بحسب البلد.

انطلاقاً من كلّ ذلك، فإن زيارة بايدن للمنطقة، وللسعودية خصوصاً، تحمل في طياتها هذا النوع من تدشين الصراع، الذي يحتاج للاستعداد والتصدي بالنسق نفسه، إلى جانب الاستعداد والتصدي العسكري والأمني.

وأخيراً، أعتقد أنَّ جو بايدن، سواء نجح في مسعاه القادم أو لم ينجح، فإنَّ المؤكد أنَّ هذا المسعى سيزيد تلغيم الأجواء في المنطقة، وسيزيد حدة الصراع، استكمالاً لتشبيك العلاقات التي نسجهما كيان الاحتلال مع بلدان مطبعة، وتتميماً لتشبيك الصهاينة ساحات المواجهة مع أعداء الكيان المؤقت.