بمَ يشعر هيرتزل وهو يرى مآل "دولته"؟!

هل خطر في بال هيرتزل أن "الدولة" المأمولة، في حال تأسيسها، ستصمد وتبقى، وأن فلسطين ستتحول إلى قضية للشعوب العربية، وأن شعب فلسطين العربي لن يذوب في المنافي، ولن يتلاشى، حضوراً ووعياً، تحت خيام اللجوء، وسيقاوم بلا كلل حتى النصر المؤزَّر؟

  • بمَ يشعر هيرتزل وهو يرى مآل
    اقتحم ضياء حمارشة شوارع تل أبيب وبينها شارع "هرتزل" المنظر للصهيونية

هذا السؤال خطر في بالي وأنا أتابع عملية "بني براك"، والشاب الفلسطيني البطل المُقتحم ضياء حمارشة، وهو على دراجته الصغيرة، يتنقل في ثلاثة شوارع في "تل أبيب"، وينجز عمليته الكبيرة في عدد القتلى، وباقتحام حيّ المتدينين – أو مدينتهم المغلقة عليهم، "بني براك" - ويعبر شارع هيرتزل مُنظّر الصهيونية و"نبيها"، والمبشر بـ"دولتها"، والمتنقل بين العواصم لاستدرار الشفقة على "اليهود المساكين المشرَّدين في المنافي والمعرَّضين للاضطهاد"، والمغري بالمال لمن يدعم مشروعه، والأهم: أن "دولة" الصهاينة ستكون السور الواقي من همجية الشرق، وممثلة للحضارة الغربية.

هناك من بجّلوا "عبقرية" هيرتزل، ورأوا في ظهور مشروع "دولة" الكيان الصهيوني برهاناً على عبقرية التخطيط، والانطلاق في سبب انبهارهم أن هيرتزل بشّر بأن "الدولة" ستتأسس في 5 أعوام.. أو خمسين عاماً!

المنبهرون في بلاد العرب، وهم ساسة وكتّاب ومنظّرون سياسيون وصحافيون، بل قادة سياسيون، قيّموا الصهيونية كأنها تمسك بحركة التاريخ، وتحدّد الحتمية التاريخية، وتقول لأي حدث تشاؤه: كُن فيكون!

لقد تم القفز عن الحرب العالمية الأولى، واحتلال بريطانيا لفلسطين، وانهيار الإمبراطورية العثمانية وتفككها، وتقسيم بلاد الشام بين بريطانيا وفرنسا، وما خاضه عرب بلاد الشام من ثورات، ولاسيما في فلسطين رفضاً للانتداب البريطاني الراعي للهجرة والتسلل الصهيوني.. والحرب العالمية الثانية، والصفقات بين هتلر وقادة الحركة الصهيونية، وتدفق اليهود من أوروبا إلى فلسطين، بتسهيل ورعاية من بريطانيا وأميركا، ودعم كثير من دول أوروبا للمشروع الصهيوني.

منذ البداية، حضرت قيادات أميركا بتأثيرها ودورها في دعم الحركة الصهيونية، سواء في مشاريع التقسيم، أو الدعم للحركة الصهيونية، سياسيا ومالياً، ودعم هجرة اليهود. هنا أُذكّر بأن رئيس أميركا، ترومان، فرض على سلطات الانتداب البريطاني الرضوخ لهجرة مئة ألف يهودي وتدفقهم إلى فلسطين عام 1947. وكان سبب تردد السلطات البريطانية في الخضوع لأوامر ترومان الخشية من استفزاز عرب فلسطين عبر قبول هذا العدد الكبير من اليهود، وخصوصاً أن بريطانيا المُحتلة لم تتمكن من قهر عرب فلسطين على الرغم من قمعها الفلسطينيين وتخريبها كل جوانب حياتهم.

وأنا أتابع اقتحام ضياء حمارشة، وهو على دراجة نارية صغيرة، وهو يخترق حيّ "بني براك"، وشوارع أُخرى، قيل إن أحدها هو شارع هيرتزل المبشّر بـ"دولة" اليهود، تساءلتُ: هل خطر في بال هيرتزل أن "الدولة" المأمولة، في حال تأسيسها، ستصمد وتبقى، وأن فلسطين ستتحول إلى قضية للشعوب العربية، وأن شعب فلسطين العربي لن يذوب في المنافي، ولن يتلاشى، حضوراً ووعياً، تحت خيام اللجوء، وسيقاوم بلا كلل حتى النصر المؤزَّر؟

مساء يوم الخميس، وأنا أتابع عملية "قلب" "تل أبيب"، والتي واجه فيها الشاب الفلسطيني رعد فتحي خازم الكيان الصهيوني وحده، وفي التجمع الصهيوني وبيئته المعادية، وفي "تل أبيب"، وفي شارع ديزنكوف التجاري المكتظ بالمتسوقين والمتسكعين، وبطبيعة الحال بالشرطة وعناصر الأمن.. خطر في بالي هيرتزل، وبن غوريون، وجابوتنسكي، وعتاة منظّري الصهيونية، المراهنين على اندثار الشعب العربي الفلسطيني وتلاشيه، وتساءلت، ولا حاجة لي إلى التساؤل: رهان مَن الذي كسر مخططات الصهاينة ورعاتهم؟

لقد وضعوا مخططات استشراقية سطحية تقوم على رؤية السطح، ولا تفهم العمق؛ تحكم على بساطة الحياة في راهنها، ولا تتوقف عند حِقَب التاريخ في هذه المنطقة من العالم، ولا تأخذ بعين الاعتبار تراكم ثقافة الانتماء، وتطور الوعي، واستلهام دروس التاريخ، والثبات بعد كل النكبات، والتصدي للغزاة القادمين من وراء البحار، وفهم الغزوة الصهيونية كواحدة منها، وتتمة للحروب "الصليبية". وللتذكير، فالغزاة هم الذين رسموا الصليب على راياتهم.

ضياء حمارشة ورعد فتحي خازم، أكمل واحدهما الآخر، وثبّت جوهر العمليتين الأولى والثانية ومعناهما، بل إنهما اسم واحد يتكامل في دمج الاسمين معاً، ومع كل ما سبقهما، وما يلحق بهما في آتي العمليات المذهلة للعدو، والمنعشة لروح الانتصار وحتميته لدى عرب فلسطين، وعرب أمتهم، وهم نقيض لحكام التطبيع التابعين والممتهنين.

هؤلاء الأبطال لا يطمحون إلى أن تُروى بطولاتهم في أفلام هوليوودية مُزوَّرة، فهم أبطال شعب وأمة، وهم أبطال حقيقيون، وبطولاتهم تتجلى أمام شعبهم وأمتهم وشرفاء العالم المنحازين إلى الحق الفلسطيني. لكنّ حقهم علينا، نحن الكتّاب، والصحافيين، والمنظّرين السياسيين، أن نضع بطولاتهم، في كل أبعادها ومعانيها وعظمتها، في الموقع الرفيع الذي تستحقه من إجلال يضاف إلى شعب فلسطين الذي بدأ منازلته للصهيونية منذ عام 1897، وما زال يواصل معركة وجوده وحقه في وطنه، جيلاً بعد جيل.

ضياء ورعد يلطمان في أيام قليلة مخططات الصهيونية، ويعرّيان ضعفها، في مشاهد شوارع "تل أبيب" التي يحتشد فيها ألوف العسكريين المدجَّجين بالسلاح، والذين حُشدوا لمواجهة بطل فلسطي واحد تقدَّم واخترق حصونهم، فأربكهم وأذلّهم وعرّى هشاشة كيانهم الذي بُني بدعم كل الإمبرياليات ودول التبعية والعمالة، بما فيها دويلات في بلاد العرب.. نفطية وغازية.

لروحيكما المجد وأنتما تُعْليان راية عظمة شعب وقضية وأمة، وتضربان بعنف وبسالة "دولة" الأوهام وتزعزعانها.. وهي بلا جذور، وهذا يؤكد أن مآلها الاندثار.

وهكذا، فـ"نبوءة" هيرتزل لم تصمد على الرغم من كل الدعم، أميركياً وبريطانياً وفرنسياً، ومن كل التعويضات الألمانية، وتآمر نظم حكم عربية عميلة.. لن تصمد لأن عرب فلسطين في الميدان، ومعهم كل العرب الشرفاء العارفين بخطورة المشروع الصهيوني على حاضر الأمة ومستقبلها.

العرب الفلسطينيون لم يذوبوا ولن يندثروا. وهم، جيلاً بعد جيل، يتقدَّمون في موجات متتابعة حتى ينبلج فجر فلسطين؛ فجر جماهير الأمة؛ فجر كَنْس التابعين وإنهاء زمن التبعية والاحتلال.