بعد دخول "طالبان" إلى كابول.. ما هي خيارات الصين تجاه أفغانستان؟
لن تسمح الصين لنفسها بالوقوع في فخ الدخول العسكري إلى أفغانستان التي كانت مقبرة لثلاث إمبراطوريات هي بريطانيا والاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية.
شكّل الانسحاب الأميركيّ المفاجئ من أفغانستان وسيطرة حركة "طالبان" السريعة على أكثر أراضيها قلقاً لدى الدول المجاورة لها. وقد شبّه المحلّل البريطاني ريتشارد كيمب، وهو القائد السابق في الجيش البريطاني، باكستان وإيران والصين وروسيا بسرب من النّسور، سوف يتداعى على الذبيحة الأفغانية بعد انسحاب الولايات المتحدة.
تأتي الصّين في مقدمة هذه الدول التي اعتبرت أنَّ الانسحاب الأميركي من أفغانستان ووصول "طالبان" إلى مقاطعة بدخشان الشمالية الشرقية التي تقع على الحدود الجبلية مع منطقة شينغيانغ الصينية؛ الحدود التي تقدر مساحتها بنحو 80 كيلومتراً مربعاً، قد يوفّر ملاذاً آمناً للمتمردين الانفصاليين من المسلمين الإيغور في إقليم شينجيانع.
إنَّ الاعتبارات الأمنية والاقتصادية للصين تفرض الاهتمام بأفغانستان ومواصلة المفاوضات مع "طالبان"، فأي فراغ في السلطة الأفغانية سيكون بالنسبة إلى بكين بمثابة سيف ذي حدين، فهناك خطر هروب عناصر حركة "تركستان الشرقية الإسلامية" الانفصالية من إقليم شينغيانغ، وضمان عدم تحول أي منطقة خاضعة لسيطرة "طالبان" إلى قاعدة لهذه لمجموعات التي كانت تشكّل دائماً أحد مخاوفها.
منذ تسعينيات القرن العشرين، كانت بكين تخشى أن تقوم حكومة "طالبان" في كابول بتوفير ملاذ للمقاتلين الإيغور الذين فروا من شينغيانغ، وأنشأوا معسكرات تدريب في أفغانستان، فالعلاقة بينهم وبين أفغانستان - وخصوصاً حركة "تركستان الشرقية الإسلامية" وخليفتها الحزب الإسلامي التركستاني - كانت قوية منذ "الجهاد" ضد الاحتلال السوفياتي، وبقيت قوية حتى بعد سيطرة "طالبان" في العام 1996 على 90% من أراضي أفغانستان.
وقد زاد من مخاوف الصين أكثر أنَّ الولايات المتحدة أزالت في العام 2020 حركة "تركستان الشرقية الإسلامية" من قائمتها الخاصَّة بالمنظمات الإرهابية الأجنبية، بعدما كان مجلس الأمن قد صنَّفها منظمة إرهابية بموجب القرارين 1267 و1390 في يوم 11 أيلول/سبتمبر 2002، لارتباطها بتنظيم "القاعدة"، وهي خطوة دانتها الصين بشدة.
وقد اعتبرت الصين عبر صحيفة "آسيا تايمز" أنَّ الحركة ربما تكون قد زادت من مواردها اللوجستية والمالية والقوى العاملة والأسلحة منذ أن أزالتها واشنطن من قائمة الجماعات الإرهابية في العام 2020. وكرّرت الحكومة الصينية أخيراً انتقاداتها بحق الولايات المتحدة بإزالة حركة "تركستان الشرقية الإسلامية" من قائمات الإرهاب لديها. وشدد مسؤول من بكين على أن الأمم المتحدة حددت حتى تموز/يوليو 2020 آلاف الإيغور في صفوف تنظيم "داعش" الإرهابي، وهم يقاتلون في سوريا وأفغانستان.
ونقلت صحيفة "آسيا تايمز" الصينية، الأربعاء (7 تموز/يوليو 2021)، عن تقرير صدر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أنَّ حركة "تركستان الشرقية الإسلامية" ليست موجودة وعاملة في أفغانستان فحسب، بل إنها تتبع أيضاً "أجندة عابرة للحدود".
وبحسب التقرير، إنّ الحركة هي من بين الجماعات الإرهابية الأجنبية "الأولى" العاملة في أفغانستان. ويقول التقرير إنَّها تتمركز بشكل رئيسي في أقاليم بدخشان وقندوز وتخار، وإنَّ عبد الحق (مميت أمين مميت) لا يزال زعيم الجماعة.
أمّا من الناحية الاقتصادية، فهناك فرص مغرية للغاية للصين، تتمثل بالفوز بثروة أفغانستان الهائلة التي يقال إنَّ قيمتها تزيد على 3 تريليونات دولار، وترغب في أن تكون استثماراتها هذه في مأمن من هجمات "طالبان"، فمنذ اجتماع السفير الصيني في قندهار مع زعيم حركة "طالبان" الملا عمر في أيلول/ديسمبر 2000، بدأت الاستثمارات الصينية في أفغانستان تزداد وتتضاعف بشكل كبير، فهناك أكثر من 100 شركة صينية، كلها تابعة للحزب الشيوعي الحاكم في مختلف المجالات في أفغانستان، منها التنقيب عن النفط والغاز وقطاعات المعادن والاتصالات والنقل والإمدادات العسكرية.
وقد حصلت شركتان صينيتان في العام 2008 على امتياز التعدين في منجم "مس عينك" الّذي قيل إنه يحتوي ثاني أكبر مكامن النحاس في العالم. وتخطّط الصين لإقامة مشاريع بنى تحتية من الطرق والسكك الحديدية ما بين بيشاور عاصمة إقليم الحدود الشمالية الغربية في باكستان والعاصمة الأفغانية كابول.
باختصار شديد، تعتبر الصين أفغانستان أداة مهمة في سبيل إكمال مشروعها العالمي "حزام واحد طريق واحد"، الذي يربط آسيا بأفريقيا وأوروبا، من خلال شبكات برية وبحرية تمتد عبر 60 دولة.
في المقابل، هناك آراء مختلفة تقول إنَّ "طالبان" تعلّمت من أخطائها السابقة، وستعمد إلى إقامة علاقات طبيعية مع دول الجوار، فقد بدأت منذ حوالى سنتين بإرسال رسائل اطمئنان إلى الجارات الإقليميات المتخوفة منها، مثل إيران وروسيا والصين، والتي كانت تقليدياً أعداء لها، وهو ما يؤكّده المتحدث باسم "طالبان"، سهيل شاهين، بأن حركة "طالبان" تعهّدت في اتفاق الدوحة في شباط/فبراير 2020 مع واشنطن بعدم السماح باستخدام أراضي البلاد ضد دول أخرى، وعدم قبول أي لاجئين أو منفيين خارج إطار قانون الهجرة الدولي.
وقد أعلن محمد نعيم، المتحدث باسم "طالبان"، في "تويتر" بعد زيارتها للصين، تأكيد أعضاء الوفد في زيارتهم الأخيرة لها بأنّهم "لن يسمحوا لأحد باستخدام الأراضي الأفغانية (لمهاجمة) الصين". وأضاف: "أكدت الصّين أيضاً التزامها بمواصلة مساعدة الأفغان، وقالت إنها لن تتدخل في شؤون أفغانستان، لكنها ستساعد في حل المشكلات واستعادة السلم في البلاد".
وفي الزيارة الأخيرة، قدم أعضاء وفد "طالبان" لبكين في زيارتهم للصين ولقائهم مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي كل الطّمأنات التي قدموها لهم في الماضي. ويقول أندريس كور، وهو يعمل في "مجلة المخاطر السياسية"، إن "حقيقة استعدادهم للتحدث إلى الدولة الصينية تعني أنَّهم يتبنون نهجاً مصلحياً، وليس مبدئياً، حيال هذه القضية"، فـ"طالبان" تنظر إلى الصين كمصدر مهم للاستثمار والدعم الاقتصادي، إما بشكل مباشر وإما عبر باكستان، التي تعتبر أحد الرعاة الإقليميين الرئيسين للمتمردين وحليفاً مقرباً من بكين؛ ففي مشروع "الحزام والطريق"، ستحصل "طالبان" على عائدات مالية من رسوم عبور خطوط الأنابيب التي طوّرتها الصين، والمارة في أراضيهم، والقادمة من حقول الغاز الواقعة في تركمانستان. والسؤال الَّذي يفرض نفسه: إذا كانت استثمارات الصين في أفغانستان تقدّر بعدة تريليونات، فكم ستجني "طالبان" منها ومن البضائع التي تدخل من معابر دول الجوار؟
ويقول الباحث الأميركي ريد ستانديش: "ترى طالبان في الصين طريقاً يوصلها إلى الشرعية الدولية، ويؤمن تدفقاً موثوقاً للاستثمار في أفغانستان التي مزّقتها الحرب"، وهو ما يؤكده بريان ماكغلينون بقوله: "ستصبح طالبان بفضل علاقتها مع بكين التي تضفي عليها قدراً من الصدقية جهة موثوقة في المسرح العالمي". وقد تلتحق أيضاً بـ"منظمة شانغهاي للتعاون" كدولة عضو في هذا التحالف الأمني والاقتصادي والسياسي الصيني.
ولكن بريان ماكغلينون ينقل عن باحثين قولهم إنَّ هذا التحالف سيعمل بشكل نظري فقط، وإنَّ على بكين أن تتذكر أن الولايات المتحدة اتخذت هذه الخطوة البراغماتية من خلال دعم "طالبان" ضد الاتحاد السوفياتي في ثمانينيات القرن الماضي، لكنَّها لم تلبث أن أصبحت عدواً لها بعد عقدين من الزمن. ويسأل: "كم من الوقت يجب أن ينقضي قبل أن تتراجع طالبان، وتجعل أفغانستان ملاذاً لتنظيم القاعدة وداعش وانفصاليي شينغيانغ، وجميعهم من أعداء بكين؟".
ويعتبر الخبير في الشؤون السياسية لجنوب آسيا، مايكل كوغلمان، أنَّ ترسيخ تواجد الصين في أفغانستان سيعتمد على نجاح بكين في التوصل إلى تفاهم مع حركة "طالبان". إذاً، هناك قلق صيني كبير من قدرة "طالبان" واستعدادها للوفاء بوعودها، ولا سيَّما بخصوص مسألة المقاتلين الإيغور المتواجدين في أفغانستان، فجغرافيا أفغانستان الوعرة وتركيبتها السكّانية المعقدة التي منعت القوى العظمى الثلاث التي مرت على البلاد من هزيمة المقاومة المحلية، هي نفسها التي قد تمنع "طالبان" من القضاء على أي جماعات خارجية لها أجندات في دول الجوار أو تحجيمها، إذ قد تبقى أفغانستان عصية على الترويض، حتى من أبنائها.
بكل تأكيد، لن تسمح الصين لنفسها بالوقوع في فخ الدخول العسكري إلى أفغانستان التي كانت مقبرة لثلاث إمبراطوريات هي بريطانيا والاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية. وتعوّض الصين عن ذلك بالدفع نحو تسوية سياسية في سبيل مصالحها الاقتصادية والأمنية في المنطقة.
وتطالب الصين بضمانات من عدم إمكانية أن تقرّر "طالبان" يوماً ما اعتبار المواطنين الصينيين أو حتى الأراضي الصينية نفسها هدفاً شرعياً لهجماتها، وخصوصاً أنه سبق لمقاتلين أن لاموا الصين وحمَّلوها مسؤولية قرار الحكومة الباكستانية في العام 2007 شن هجوم على المسجد الأحمر، الذي كان يعتبر معقلاً لأنصار "طالبان" في إسلام أباد، وقاموا بالرد على ذلك بسلسلة من الهجمات على عمال صينيين في باكستان.
وتحسباً لأي طارئ، اندفعت الصين إلى بناء قاعدة عسكرية في العام 2015 في شرق طاجيكستان قرب الحدود الصينية - الأفغانية، التي تصفها صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية بأنها في الغالب تضاريس عالية الارتفاع وغير ممهدة وسهلة الاختراق. وعن طريق طاجيكستان، هناك طرق مرور إلى شينغيانغ، ما يعني أن حدود المقاطعة سهلة الاختراق.
وقد صدق حدس بعض المحلّلين، إذ ذكرت صحيفة "الإندبندنت" البريطانية في 2 آب/أغسطس الجاري أن "طالبان" عندما استولت على المناطق الحدودية مع طاجيكستان قبل أكثر من أسبوعين، نقلت سيطرة 5 مناطق في ولاية بدخشان إلى أيدي "طالبان طاجيكستان" (جماعة "أنصار الله")، وهي منظمة محظورة في طاجيكستان بتهمة كونها منظمة إرهابية. واتهمت السلطات الأفغانية قبل سقوطها، وكذلك السلطات الطاجيكية، جماعة "أنصار الله" بالعمل مع تنظيم "داعش" - ولاية خراسان.
إنَّ الطريقة التي اتّبعتها "طالبان" مع طاجيكستان تجعل كل تعهدات الحركة باطلة. إنَّ سيطرة "طالبان" على معظم أفغانستان تترتّب عليه نتائج عديدة، منها أنها قد تشكّل تهديداً لمبادرة "الحزام والطريق" الصينية، فالصين قلقة بصورة أساسية حيال استثماراتها الضخمة في أفغانستان، فتربة البلاد تختزن كثيراً من المكامن المعدنية للنحاس والحديد والكبريت والبوكسيت والليثيوم والعناصر الأرضية النادرة الضرورية لصناعة التكنولوجيا.
وقد تعطي الأمل لكلِّ الحركات المعارضة في جنوب ووسط آسيا من كشمير حتى إقليم شينجيانع، وتوفر إلهاماً لمنظمة "تحرير الإيغور" وحركة "تركستان الشرقية الإسلامية"، وهو ما أكده قائد القوات الهندية في كشمير سابقاً ديفيرا هودا لصحيفة "واشنطن بوست" الأميركية بقوله إنَّ عودة طالبان تعزز الروح المعنوية للجماعات المسلحة التي تتخذ من باكستان مقراً لها، مثل "عسكر طيبة" و"جيش محمد" و"طالبان الباكستانية"، ويجعل الجماعات الإسلامية المقاتلة أكثر قوة وعنفاً من كشمير إلى شينغيانغ.
إنَّ رفع واشنطن حركة "تركستان الشرقية الإسلامية" والانسحاب الأميركي من أفغانستان ووصول سيطرة "طالبان" إلى حدود الصين يثير تساؤلات حول إذا ما كان أحد أهداف أميركا من الانسحاب أن يؤدّي الفراغ إلى نشاط للحركات الإسلاميّة المعادية للصين أو روسيا. وبالتالي، هل تترك أميركا خصومها الثلاثة الصين وروسيا وإيران يتصارعون مع الإسلام الراديكالي في أفغانستان، تماماً مثلما دعمت موسكو في بعض الأوقات "طالبان" ضد أميركا، رغم عداوة موسكو التاريخية لهذه الحركة الأفغانية؟