بعد 7 أشهر.. هل تتواصل انتفاضة "تيك توك"؟
يعدّ "تيك توك" مصدر إزعاج لواشنطن أكثر من أي شركة صينية أخرى، ويؤكّد أنّ قطاع التكنولوجيا لم يعد حكراً على هيمنة أميركا وحدها.
عبّرت الكثير من المواد المصوّرة الحيّة على وسائل التواصل الاجتماعي عن حجم المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون في حي الشيخ جرّاح، حيث شكّلت قضية الحي المقدسي مادة بصرية حيّة وملفتة، ولا سيّما أنها كانت، ولا تزال، تشكّل أحداثاً يومية يتفاعل معها الجمهور داخل فلسطين وخارجها.
الحي الواقع في شرق القدس المحتلة تعرّض خلال الأشهر الأخيرة لحملة إسرائيلية أمنية كانت تهدف إلى طرد أهله منه، وهو الحي التاريخي الذي مرت عليه أحداث كثيرة خلال العقود الماضية، كانت تتمحور كلها حول الاعتداءات الإسرائيلية والمحاولات المتكررة للاستيلاء عليه، من خلال ذرائع قانونية تهدف إلى إحداث نكبة جديدة بتهجير السكان الفلسطينيين وإعطاء منازلهم لمستوطنين.
المضايقات التي تعرض لها الفلسطينيون من قبل الاحتلال الإسرائيلي تجاوزت الحياة اليومية إلى الحياة الافتراضية أيضاً، إذ شنت قوات الاحتلال هجمات ممنهجة ضد المحتوى الفلسطيني في مختلف التطبيقات، انطلاقاً من العلاقة مع الشركات المشغّلة لها. وبناء عليه، كان يجب البحث عن تطبيق يمكن من خلاله الاستفادة من أي هوامش متاحة لمواجهة الدعاية الإسرائيلية.
انتفاضة "تيك توك" في أيار/مايو 2021
بعد أن تم فرض الرقابة على منصات التواصل الاجتماعي التي تملكها الأوليغارشية الأميركية، عاد الشباب الفلسطيني إلى "تيك توك" لتوثيق العنصرية الإسرائيلية التي تنكّل بحضوره بشكل مستمر ومشاركتها. قام هؤلاء الشباب بتصوير الجنود وهم يهاجمون الأطفال والمدنيين ويتفاخرون بذلك أمام عدسات الكاميرا. بثّوا لقطات حيّة للمستوطنين الإسرائيليين الذين حاولوا اقتحام حي الشيخ جراح وحي سلوان لسرقة الأراضي الفلسطينية، بحماية قوات الاحتلال.
ولأن الصورة لا تكذب، وعفوية المشهدية أبلغ من أي تعبير، سرعان ما أصبح "تيك توك" منصة للدعم والتضامن مع فلسطين من جميع أنحاء العالم. نجح الشباب الفلسطيني في الاستفادة من وسائل إعلام جديدة لإيصال أقوى الرسائل، وأظهروا مرة أخرى أن الصمود والتفاني في سبيل القضية يمهدان لأبعاد جديدة حتى على المستوى التقني. المستغرب هنا أن هذا الجيل، وطوال العشرية الماضية، تعامل مع أشنع حملات الشيطنة والتخوين لسلخه عن بيئته المقاومة.
لاقت حملة التضامن هذه دعماً تصاعدياً، وخصوصاً خلال معركة "سيف القدس" وما تعرض له قطاع غزة من اعتداءات وتدمير ممنهج. يمكن اعتبار هذا الاختبار نجاحاً عملياً لمدى قدرة التطبيقات الذكية على إحداث تأثيرٍ من خلال المحتوى.
وفي هذا المجال، تنوعت الخيارات، إما من خلال دمج عمليات المقاومة وإطلاق الصواريخ وتوليفها مع أناشيد حماسية، وإما من خلال استعراض المجازر الإسرائيلية ضد الفلسطينيين بطريقة تتناسب مع ما يقدمه التطبيق من تقنيات لإيصال الفكرة المطلوبة، كما كانت أيضاً وسيلة لرفع معنويات الشعب الفلسطيني وتثبيت إيمانهم بقدرات المقاومة في ظل تعتيم إعلامي كبير عن الأضرار التي لحقت بكيان الاحتلال أثناء الحرب.
وهكذا، كانت انتفاضة "تيك توك" التي حصلت لنقل معاناة الشعب الفلسطيني جاذبة للاهتمام، وفي الوقت ذاته شكّلت أداة لمواجهة السردية الإسرائيلية والقيود المفروضة على الفلسطينيين.
خصائص "تيك توك"
"تيك توك" هو تطبيق لمشاركة الفيديو، يسمح للمستخدمين بإنشاء مقاطع فيديو مدتها 15 ثانية حول أيّ موضوع ومشاركتها. أصبح التطبيق اليوم أشبه بمنتدى، إذ يستطيع جيل "Z" اليوم الرقص في غرفة المعيشة الخاصة به والغناء والمزاح ومشاركة اللحظات مع مراهقين آخرين يحملون أجهزتهم المحمولة طوال الوقت.
هذه المنصة فريدة من نوعها إلى حد ما، ويأتي نجاحها من كونها لم تكن نسخاً عن منصات أخرى، بل لأنها قدمت شيئاً مبتكراً أعجب به الجيل الرقمي. استحوذت شركة "Byte Dance"، الشركة الأم لـ"تيك توك"، على تطبيق "Musical.ly" الصيني لمزامنة الشفاه (مع قاعدة مستخدمين قوية في الولايات المتحدة) مقابل 1 مليار دولار. وقد جمعت لاحقاً كلاً من التطبيق وقاعدة مستخدميه مع "تيك توك". هذا هو السبب في أننا نجد في التطبيق مقاطع فيديو لأطفال يرقصون على الموسيقى، ولمراهقين يمازحون حيواناتهم الأليفة.
حساسية أميركا المفرطة.. لماذا؟
بينما ينظر العديد من الصحافيين والمتخصصين في وسائل التواصل الاجتماعي إلى المحتوى المتداول في "تيك توك" على أنه سخيف وتسطيحي، أعلنت صحيفة "The Washington Post" في أيلول/سبتمبر الماضي إنشاء وظائف جديدة في فريق "تيك توك". بالنسبة إلى كثيرين، كانت الخطوة ذكية، ولم يكن مفاجئاً أن يحتضن عملاق إخباري المنصة، ليستثمرها في الإعلام الرقمي، ويحولها إلى الاتجاه الصحيح، ويواكب موجة الطلب، ويخلق قنوات مع الأجيال القادمة.
ولكن بين السطور، هناك المزيد من الأهداف الاستراتيجية التي يمكن قراءتها:
• لم يكن العام 2021 هو عام الانتفاضة في "تيك توك" فقط، بل كان بمثابة اكتشاف لقوة الجيل "زد" على ساحة الإنترنت. على الرغم من كونها بسيطة وقصيرة، فإنَّ مقاطع الفيديو في "تيك توك" يمكنها سرد القصص. والأهم من ذلك، يمكن أن تؤدي التفاعلات مع المحتوى المتداول إلى زيادة الاهتمام الدولي والضغط على الحكومات والمجتمع الدولي. كما شكل "تيك توك" "خطة هروب" من السردية التي فرضها الغرب على المنصات الرقمية. وخلال الانتفاضة الأخيرة، فرض الرقابة على التوثيق الفلسطيني للهجمات والهيمنة الإسرائيلية، لئلا يخدم الآخرين في بوليفيا وفنزويلا ولبنان وسوريا والهند.
• "تيك توك" هو اختراق غير مسبوق في أعماق المجتمع الأميركي، وهو موجود ليبقى حتى بين الأميركيين. لذا، إنّ الطريقة الأسهل هي احتضانه. يفضّل المراهقون في الولايات المتحدة "تيك توك" على "إنستغرام" (Instagram) (النظام الأساسي المفضل للشباب كما يدعي).
يستخدم المزيد من الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و17 عاماً "تيك توك" أكثر من "إنستغرام" على أساس أسبوعي، وفقاً لنتائج الاستطلاع التي نشرتها شركة "Forrester". في الواقع، يعدّ التطبيق مصدر إزعاج لواشنطن أكثر من أي شركة صينية أخرى، حتى "هواوي" (Huawei). يمكن توفير المعدات التي تصنعها "هواوي" بسهولة من قبل شركات أخرى من دول صديقة، مثل شركة "Ericsson" السويدية، ويمكن ببساطة إزالة معداتها واستبدالها، كما تسعى بريطانيا للقيام بذلك.
• يتعارض ازدهار المنصة مع السردية الأميركية التي تصف أجندة الرئيس الصيني بكونها قمعية للشركات الصينية التي تتجه إلى العالمية، وخصوصاً أن تطبيق "تيك توك"، على سبيل المثال، شائع الاستخدام في كل مكان تقريباً، على الرغم من شعبيته التي انتشرت بداية في الأسواق الآسيوية، مثل اليابان والفلبين. وفي وقت لاحق، ازدادت نسبة تحميله في الولايات المتحدة وأوروبا. علاوة على ذلك، يعكس "تيك توك" صعوداً مرموقاً للصين، وتذكيراً بأن المشهد التكنولوجي لم يعد مقتصراً على الهيمنة الغربية على قطاع التكنولوجيا.
• مع اكتساب المعركة بين الصين والولايات المتحدة زخماً، تكتسب قوة الاحتفاظ بالبيانات الاجتماعية الخاصة بالأفراد حساسية أيضاً. قراءة سريعة عن "تيك توك" في وسائل الإعلام الأميركية الرئيسية، يستطيع المرء أن يلاحظ الاتهامات الشائعة للصين بسرقة أسرارها ومراقبة مواطنيها ومساعدة أهداف بكين "الشائنة".
يتم أيضاً نشر المقالات المتعلقة بأمن البيانات بشكل شائع، مع وجود تداعيات وافتراض بأن السلطات الصينية تقوم بجمع ملفات عن المواطنين الأميركيين من أجل سبب غير معروف، ولكن من المحتمل أن يكون هدفاً أو حتى التحضير لأداة دعائية للدولة الصينية.
بالمناسبة، هذا الأسلوب لا ينحصر فقط بتطبيق "تيك توك". وفقاً لـ"واشنطن بوست"، إن مخاطر الأمن القومي المتأتية من التطبيق حقيقية جداً. وفي الأسابيع الأخيرة، أصبحت المواقف تجاه الشركة أكثر تشدداً. يميل الكونغرس والبيت الأبيض إلى منع الشركات الصينية من الوصول إلى أسواق الأسهم الأميركية. حتى "Jack Ma" الذي كان محبوباً تم حظره في العام 2018، عندما رفض "CFIUS" السماح لشركته المالية "Ant Financial" بشراء خدمة الدفع "MoneyGram" التي تتخذ من دالاس مقراً لها.
· على المستوى الاجتماعي، وتحديداً في جزئية صناعة مفهوم التأثير والنجومية، ولأن المنصات الأميركية تستطيع التحكم في المحتوى الرائج، وتسيطر إلى حد كبير على عالم صناعة المحتوى، فإنها تستطيع أن تسمح لمن تشاء بالنشر، وتحجب هذه الخاصية عمن تشاء ومتى تشاء. تظهر آثار هذا الجانب في مستخدمي المنصات والشباب لمصلحة أصحاب الشركات، ولو بطريقة ناعمة وبعيدة الأجل. أما الأجيال الأصغر سناً، فتصبح منسجمة مع المحتوى المصدّر والمسموح على الأجندة الغربية، وتتصالح مع التصنيفات المتبعة من قبل هذه الشركات، والتي تصبغ المواد المحرجة للغرب بتوصيفات الإرهاب والهمجية.
كيف يمكن أن يكون "تيك توك" مساراً بديلاً؟
بدايةً، نحتاج إلى أن ندرك أنَّ ما يحصل من نشرٍ للمعلومات عن "تيك توك" هو دعاية غربية، لكونها تنطلق في الدرجة الأولى من أهداف سياسية لا تقنيّة، باعتبار أنَّ الإنتاج الصيني محارب من قبل الولايات المتحدة، لما يشكله من تهديد حقيقي للهيمنة الأميركية على التكنولوجيا.
أما حول مواضع الاستفادة منه، فالهوامش التي يسمح بها تطبيق "تيك توك" أمر ممكن ومتاح، ولا سيّما أنَّ تلك الهوامش غير متوفرة في تطبيقات أخرى لاعتبارات سياسية أيضاً. لذا، المطلوب هو تحويل منصة "تيك توك" إلى عنصر إفادة على الصعد الثقافية والسياسية والاجتماعية، وخصوصاً في مواجهة الهجمة الغربية الإمبريالية على بلادنا. تبعاً لذلك، يجوز السؤال: ما الذي يجب إنجازه؟
يمكن الحديث هنا عن جملة أهداف:
• تعزيز سرديتنا الرقمية وتحصينها بالأرقام والشواهد والصور: كل القضايا المحقة، على غرار القضية الفلسطينية، بحاجة إلى المحتوى العلمي الهادف، وإلى نشره ومواكبة التفاصيل المتعلقة به في الوقت المناسب.
• الاستثمار في الشباب: هم أكثر معرفة بالمنصة، وأكثر عفوية وتلقائية عندما نحاكي هذه المنصات، وبالتالي لديهم أعلى قدرة على التأثير. هذا التأثير إذا ما امتزج مع التثقيف والتدريب وتوظيف المنهجية العلمية في مقاربة الملفات والقضايا، فسيكون أجدى نفعاً للفئات العمرية الشابة على وجه الخصوص.
• العودة إلى خط الأساس: من الدروس التي يمكن استخلاصها من معركة "سيف القدس" والحالة الافتراضية المرافقة لها، نتعلم أن الوحدة هي المفتاح. الاختلاف مشروع وموجود، ولكل مناصر أفكاره وتوجهاته، ولكن التركيز على المشتركات واحترام الاختلافات ومناقشة سبل التكامل يبقى المفتاح للالتفاف حول القدس بطريقة فعالة تنعكس فعالية أيضاً في منصات التواصل، ولا سيما "تيك توك".
خلاصة
لم تعد منصات التواصل الاجتماعي بمنأى عن التدخلات السياسية، كما أنها لم تعد بعيدة عن الأهداف السياسية والبروباغندا. وبناءً عليه، إن المطلوب هو استغلال كل ما هو ممكن ومتاح لنشر الأفكار السياسية التي تدعم القضايا الحقة في عالمنا العربي، ولا سيما الفلسطينية. مع التشديد على أن المعركة مركبة في في فضاءات التواصل، من محاولة كسر خوارزميات الانحياز في فيسبوك وانستغرام إلى تكثيف الحضور في المنصات غير المنحازة مثل "تيك توك".
الخوف من أيّ منصة وعدم استغلال وجودها سيتركان فراغاً، ولا شك في أن أطرافاً أخرى ستملأه. وفي حالة "تيك توك"، فإن هذا التطبيق أثبت أنه قادر على إحداث فرق وتغيير في العقلية السائدة والمتبعة ضد المحتوى الفلسطيني. وبما أن الحرب في جزء أساسي منها هي حرب سرديات، فيجب، كضرورة وواجب، أن تكون السردية المواجهة للاحتلال والهيمنة الغربية موجودة في "تيك توك" أيضاً، وعدم الاستسلام لما تمليه علينا الدعاية الغربية من شيطنة لهذا التطبيق، لأن هذه الدعاية هي المسؤولة عن تركه لمحتوى غير ملائم.