باسيرو ديوماي فاي رئيساً للسنغال: لماذا تستحضر القطيعة مع فرنسا؟
نجد في برنامج الرئيس السنغالي الجديد دعوة صريحة لمراجعة العلاقات مع فرنسا والاتحاد الأوروبي وإعادة بنائها على قاعدة الندية وتبادل المنافع والمراعاة الحرفية لسيادة السنغال واستقلالية قراره.
ما كانت فرنسا وحماة مشروعها يخشون حلوله عبر انقلاب في السنغال أتاهم بالانتخاب وبتزكية من الشعب، وما استمات ماكي سال والنخب السنغالية الفرانكوفيلية في إجهاض مسعى بلوغه كرسي الرئاسة أتاهم عبر الصندوق، فكان مأزقهم بذلك مأزقين: لا بمقدورهم الطعن في شرعية حاكم داكار الجديد وشرعية قراراته وسياساته مستقبلاً مهما تناءت عما دأبوا عليه، ولا بإمكانهم أداء دور حماة الشعوب الأدرى بمصالحها، والذي لا يتوانون عن أدائه كلما سنحت لهم سانحة.
هذا ما يفسر تلك الحالة من الوجل الممزوجة بالتشاؤم من مستقبل العلاقة مع شركاء السنغال التقليديين، ولا سيما فرنسا، حين يجري استشراف مستقبل حكم باسيرو ديوماي فاي من قبل الذين أصيبوا بخيبة من فوز هذا المعارض ذي الأيديولوجيا البان-أفريقية (Panafricanism) بانتخابات رتبت كل الظروف كي يفوز بها الوزير الأول السابق أمادو با؛ مرشّح السلطة والحزب الحاكم السابق وأولئك الذين خططّوا لسيناريو الاستمرارية في السنغال.
في حده الأدنى، يتوقع هذا الاستشعار المتشائم مراجعة جدية للتصورات التي بنيت عليها سياسات السنغال وعلاقاتها طيلة الحقب الرئاسية السالفة ولغاية عهد سال الأخير. وفي سقفه المرتفع، يقترب هذا الاستشعار من سيناريوهات القطيعة مع الماضي وشتى الموروثات الكولونيالية التي يتأسس عليها التوجّه ما بعد الاستعماري واليساري الذي تُبني عليه المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها ياسيرو ديوماي فاي.
ثمة مبرّرات شارحة لهذا التشاؤم، أولها هو شخص باسيرو ديوماي فاي في حدّ ذاته، الأربعيني، أصغر المرشحين الـ19 لرئاسيات 24/03، المعارض الذي اعتقل بسبب انتقاده فساد السلطة القضائية ولبث في السجن 11 شهراً، ولم يخرج إلا قبل يوم الاقتراع بعشرة أيام بعفو رئاسي.
ولم يسبق لفاي أن تولّى أي منصب وطني رسمي، وكان موظفاً عادياً في إدارة الضرائب والعقارات، إذ تعرّف إلى رفيق دربه عثمان سونكو الذي شارك معه في تأسيس حزب "وطنيو السنغال من أجل العمل والأخلاق والأخوّة" (PASTEF) في كانون الثاني 2014، وهو الحزب الذي حلّ بموجب القرار رقم 1407-2023 الصادر عن وزارة الداخلية السنغالية بتاريخ 21 يوليو/تموز 2023 بتهمة التحريض على التمرد والتسبب في العنف.
عرف عن مناضلي حزب "باستاف"، وعلى رأسهم عثمان سونكو، مؤسس الحزب ورئيسه، شدّة انتقادهم للمنظومة السنغالية الحاكمة، وعلى رأسها الرئيس ماكي سال، فضلاً عن تبنيه خطاباً مناهضاً لليبرالية يرافع من أجل ديمقراطية اجتماعية.
كما عرف عن سونكو وديوماي فاي ومحازبيهم نضالهم الحثيث ضدّ تبعية بلادهم وأفريقيا عموماً لفرنسا، معتبرين فكّ الارتباط مع المستعمر القديم وقيوده شرطاً لخلاص السنغال وإعادة تشكيل أنظمة القيم والمصالح لتعكس آمال أبنائه.
إنها أحد أوجه الفلسفة البان-أفريقية المتمحورة حول فكرة تحرير الأفارقة وتوحيدهم في مواجهة قوى الإمبريالية والاستعمار التي يتخذها مناضلو "باستاف" مرجعية فكرية لمشروعهم، وهي ضمنياً انعكاس لأفكار المناضل السنغالي المرموق الشيخ آنتا ديوب مؤسّس نظرية "المركزية الأفريقية" (Afrocentricity) والمناضل الشرس ضدّ أشكال التمييز والأسس السياسية و"الأخلاقية" لاستعباد الأفارقة الذي لا يخفي ديوماي فاي وسونكو إعجابهما بأفكاره.
من هذا المنطلق، نجد في برنامج ديوماي فاي دعوة صريحة لمراجعة العلاقات مع فرنسا والاتحاد الأوروبي وإعادة بنائها على قاعدة الندية وتبادل المنافع والمراعاة الحرفية لسيادة السنغال واستقلالية قراره.
يندرج هذا التوجّه ضمن مطلب ديوماي فاي بإعادة التفاوض حول اتفاقيات التعاون الدفاعي المبرمة مع فرنسا، ناهيك بنيته المعلنة في مراجعة اتفاقيات الغاز والنفط والصيد مع شركاء السنغال على نحو يحقّق أكبر استفادة ممكنة منها لبلده.
ولم ينكر فاي عمق علاقات بلاده التاريخية مع فرنسا خلال حملته الانتخابية، مكرراً بذلك موقف رفيقه سونكو مرشح "باستاف" للرئاسيات عام 2019، بيد أنّه كرّر - بنيّة التوكيد - رفضه أن تكون هذه العلاقة على حساب السنغال أو أن تكون حائلاً أمام مشروع تنويع تعاون بلاده أمنياً وعسكرياً مع شركاء دوليين آخرين.
أكثر من كل ما سبق، تعتبر رؤية ديوماي فاي لفرنك المجموعة المالية الأفريقية (XOF) الموروث عن الحقبة الاستعمارية كسبب لتخلف الاقتصاد السنغالي وكأداة من أدوات الكولونيالية الجديدة التي توظفها فرنسا لتكبيل السنغال اقتصادياً مؤشّراً قويـّاً عن نيات القطيعة التي تنتظر الرئيس السنغالي الجديد.
وسبق أن وعد الأخير بأنه لن يتردّد في صك عملة خاصة بالسنغال تحقق طموحه في استكمال سيادته في حال فشلت الإيكواس أو توانت عن صك عملة خاصة بدول غرب أفريقيا لأي سبب من الأسباب.
من الواضح إذاً أنّ باسيرو ديوماي فاي كمناضل سياسي حامل لفلسفة ومشروع سياسيين يتخذان القطيعة منهجاً وهدفاً لهما لا يمكن أن يكون إلا مبعثاً للإحباط والتشاؤم للذين كانوا يتأملون الاستمرارية ويعملون في سبيلها.
ويغدو تشاؤم هؤلاء يسيراً على الاستيعاب إذا قرنت ميزات الرئيس الجديد وعناصر مشروعه السياسي بمشهد التصويت في 24 آذار/مارس، فأن يحظى فاي بمقعد الرئاسة من الدور الأول، وبأغلبية أصوات قدرت بـ54.28%، بالرغم من كل العراقيل التي عمد معارضوه إلى وضعها أمامه كبحاً لمسيره ومسير حزبه إلى منصب الرئاسة، فذلك مؤشر كبير آخر على أنّ مشروع القطيعة لا يطال الرئيس المنتخب فقط، بل يطال كلّ الناخبين الذين اختاروه.
في المقابل، بالرغم من كل الترتيبات التي هُيّئت كي يخلف سال، حل أمادو با ثانيا بفارق 20% من الأصوات عن فاي، ولم يفلح مرشّح مشروع الاستمرارية في افتكاك أكثر من 35.79% من الأصوات المعبّر عنها.
والحقّ أن تحقيق فاي وحزبه الذي حُلّ هذه النتيجة المبهرة هو أمر جدير بالتقدير، ذلك أنّ التضييق الذي مورس عليه، وقبله رفيقه سونكو، واتهامهما وحزبهما بالتسبّب في "الاضطرابات الخطيرة التي شهدتها النظام العام، والتي سجّلت خلال الأسبوع الأول من يونيو 2023 بعد تلك التي حدثت في مارس 2021" (بنصّ بيان وزارة الداخلية)، ثم اعتقالهما إلى ما قبل يوم الاقتراع بعشرة أيام، كلّها براهين -من بين براهين أخرى عديدة- على تجذّر أفكار "باستاف" في الأوساط الشعبية السنغالية، وخصوصاً الشبابية منها.
الطريق لن يكون معبّداً أمام حاكم داكار الجديد، إذ ينبئ الوضع المأزوم الذي أجريت خلاله الانتخابات السنغالية بحالة انقسام شديدة يشهدها البلد تصعّب تجسيد أيّ مشروع تغيير سياسي واقتصادي، كما أنّ حجم المؤامرات التي حيكت ضدّ فاي وسونكو طيلة السنوات الخمس الماضية وعمق الفساد الذي ينخر المنظومات السياسية والاقتصادية والقضائية السنغالية ينبئان بشدّة المقاومة والمعارضة التي ستواجهها سياسات الرئيس الجديد، ولا سيما أنّ كل الذين والوا سال ضدّه ما زالوا في مناصبهم.
ويبدو أنّ وضع فاي المصالحة بين السنغاليين على رأس أولويّاته، مثلما جاء في خطابه الذي ألقاه عقب أدائه اليمين الدستورية، هو تعبير عن وعيه بوجوب ترتيب البيت السنغالي الداخلي قبل الشروع في أيّ خطوة نحو التغيير.
من المؤكد أيضاً أنَّ النخب الموالية لفرنسا والعاملة كأذرع لمشروعها في السنغال وعموم غرب أفريقيا ستكون في طليعة تيار رفض ومقاومة كل تغيير قد يؤدي إلى قلب معادلة علاقة السنغال بفرنسا أو حتى مجرّد تعديلها، وهذا ما خبره الأفارقة عن فرنسا ولوبياتها في تجارب تغييرهم السابقة.
لذا، ومن دون تفكيك جدّي لهذه اللوبيات ونزع يدها عن مفاتيح القرار السنغالي، لن يفلح باسيرو ديوماي فاي في تجسيد مشروعه فحسب، بل سيفشل أيضاً في إحداث أدنى تغيير يرضي الذين صوتوا له. حتى خارجياً، فإنّ الحسابات الجيوسياسية المتعلقة بهذه الدولة المطلّة على المحيط الأطلسي ستجعل كل استدارة منها نحو روسيا –كما يجري توقعه– مشروعاً محفوفاً بمخاطر شديدة.