الهدنة في اليمن على شفير الانهيار.. لماذا؟
التزمت صنعاء ضبط النفس، حرصاً على صمود الهدنة وتدفّق ما أمكن من سفن المشتقات النفطية من ناحية، وأملاً في استئناف الرحلات من وإلى مطار صنعاء من ناحية ثانية.
كلّ المؤشرات لا تبعث على التفاؤل بصمود الهدنة الإنسانية العسكرية المرعية أممياً في اليمن، بعد انقضاء ثلث المدة (20 يوماً من أصل 60 يوماً) من دون أي تقدم يُذكر عسكرياً وإنسانياً، وسط تأكّل ثقة صنعاء بإمكانية وفاء تحالف العدوان والأمم المتحدة بالتزاماتهم.
في أوّل أيام شهر رمضان، أي في الثاني من نيسان/أبريل 2020، أعلنت الأمم المتحدة سريان الهدنة الإنسانية العسكرية في اليمن، ورحّبت صنعاء وكلّ العالم بها، كما رحبت السعودية بها، وإن بطريقة ملتوية. وكان واضحاً منذ البداية أن تحالف العدوان ليست لديه نيات صادقة في إنفاذها، كخطوة أولى لبناء الثقة، وبما يمهد الطريق لما بعدها.
تنصّ الهدنة الإنسانية نظرياً على وقف جميع الأطراف عملياتهم العسكرية، وضمان تدفق آمن وسلس لـ18 سفينة نفطية خلال شهرين، والسماح بـ16 رحلة جوية للطائرات التجارية من وإلى مطار صنعاء الدولي، أي بمعدل رحلتين تجاريتين كل أسبوع.
عملياً، التزمت صنعاء بما تعهّدت به، وأوقفت عملياتها العسكرية باتجاه السعودية، وجمّدت جميع عملياتها الهجومية على امتداد الجبهات الداخلية وجبهات الحدود، لكنَّ الطرف الآخر (تحالف العدوان ومرتزقته) لم يلتزم منذ الساعات الأولى لسريان الهدنة وإلى اليوم بوقف عملياته العسكرية العدائية، إذ تفيد مصادر عسكرية ميدانية بأن "تحالف العدوان ارتكب خلال الأسبوع الأول من سريان الهدنة 1647 خرقاً، شملت غارات جوية بالطيران الاستطلاعي المقاتل، وتحليقاً مكثفاً للطيران الحربي والاستطلاعي، وقصفاً مدفعياً وصاروخياً، وبالأعيرة، فضلاً عن الزحف الميداني في جنوب محافظة مأرب والاستحداثات وإعادة التموضع.
ومع ذلك، التزمت صنعاء ضبط النفس، حرصاً على صمود الهدنة وتدفّق ما أمكن من سفن المشتقات النفطية من ناحية، وأملاً في استئناف الرحلات من وإلى مطار صنعاء من ناحية ثانية. في المقابل، لم يعدِل الطرف الآخر عن سلوكه العدواني، وظلَّ التلكؤ واللعب على الوقت السمة الطاغية على سلوكياته، بما يهدد الهدنة وينذر بانهيارها في أي لحظة.
وفيما كان من المفترض أن يبادر تحالف العدوان إلى السماح بدخول سفن المازوت وسفن النفط والغاز، فإنه لم ينتهِ عن ممارسة القرصنة البحرية واحتجاز السفن الخاضعة لتفتيش "اليونيفيم"، والمرخص لها والمصرح لها من قبل الأمم المتحدة، بل واصل عمداً احتجاز سفن "الديزل"، بهدف التضييق على القطاعات الصحية والخدمية، من دون أدنى احترام للتعهدات والالتزامات التي وقع عليها تحت سمع الأمم المتحدة وبصرها وبرعايتها.
وبينما كان المؤمّل أن يبادر العدوان السعودي الأميركي إلى السماح للطائرات التجارية بالهبوط والإقلاع من وإلى مطار صنعاء الدولي، لتخفيف حدة الأزمة الإنسانية، وكسر الحظر الجوي المفروض منذ 6 سنوات، وفتح الأفق الخارجي أمام عشرات الآلاف من الحالات الإنسانية، لم يحصل أي تقدم يُذكر في هذا الملف.
ولا يبدو أنَّ ذلك سيحصل قريباً في ظل العراقيل والاشتراطات والدعايات التي يختلقها الطرف الآخر، إذ علمنا من مصادر مطّلعة أنَّه يشترط أن تكون جوازات المسافرين وتأشيراتهم صادرة عن حكومة المنفى، "حكومة المرتزقة"، ولكن من الصعب، بل من المستحيل، أن تقبل صنعاء بذلك.
ومع استحالة تفكيك هذه العقدة، أبلغت صنعاء الأمم المتحدة رسمياً وتحت الطاولة بأنها ستعلن فشل الهدنة، فتعهّد المبعوث الأممي بفكفكة هذه العقدة مع دول العدوان من ناحية، ومع السلطات المصرية والأردنية من ناحية أخرى، وأرسل مندوباً لهذه المهمة إلى القاهرة وعمّان، ولكن من دون أي تقدم يُذكر.
في الحقيقة، إن مصر والأردن دولتان شريكتان في التحالف منذ البداية، ومن غير المستبعد أن تكون اشتراطاتهما بالتنسيق مع الرياض. ولو أرادات الأخيرة تيسير الأمور أمام الرحلات الجوية، لفعلت ذلك من باب الالتزام، ولو بالحد الأدنى، بإجراءات بناء الثقة وتثبيت الهدنة، بما يمهد للسلام الشامل.
وبعد مرور ثلث أيام الهدنة، "لا جديد حتى اللحظة من جانب السلطات المصرية والأردنية"، بحسب المصادر. وتضيف هذه المصادر أن "الأمم المتحدة تؤكد أن الأمر محسوم، وسيتم تسيير رحلات تجارية من وإلى مطار صنعاء خلال الأسابيع القادمة". ومع هذا التسويف، تكاد الهدنة تنهي شهرها الأول من دون أي رحلة جوية.
كان المؤمل أن تحرك الأمم المتحدة المياه الراكدة لإنقاذ "الهدنة الهشة"، وأن تضغط على دول التحالف لمغادرة مربع المماطلة واللعب على الوقت، وخصوصاً بعد زيارة هي الأولى للمبعوث الأممي هانس غراند برغ إلى صنعاء، وبعد إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن، والتي بدت مخيبة للآمال، إذ وصف الهدنة بأنها لا تزال "هشّةً وموقتةً"، وشدد على "ضرورة العمل بشكل جماعي ومكثف للحيلولة دون انهيارها"، مذكّراً بأن "المبدأ الأساسي للهدنة يتمثل بضرورة استغلالها لإحراز تقدم نحو إنهاء الحرب، وليس لتصعيدها"، من دون الإشارة إلى التحالف كمعرقل للهدنة. وقد ذهب أيضاً ليلعب على عنصر الوقت، بالقول إن "الأسابيع القادمة ستختبر التزامات الأطراف"، ويضيع فرصة الشهرين لبناء الثقة وإثبات صدق النيات.
وبخلاف ما دعا إليه المبعوث الأممي من "دعم دولي للمحافظة على الزخم والتحرك نحو التوصل إلى نهاية جامعة سلمية مستدامة للنزاع"، طرأ على المشهد تهديد قديم جديد، إذ عمدت البحرية الأميركية إلى تسيير دوريات عسكرية في البحر الأحمر وخليج عدن، بذريعة "منع وصول السلاح إلى اليمن"، ولكن الهدف الحقيقي هو تكريس الحصار عليه.
كما أنّ تحرك الولايات المتحدة العسكري في هذا التوقيت الحساس، وفي ظل هدنة إنسانية عسكرية معلنة، يثبت أنها لا تريد السلام، ولا تريد وقف العدوان والحصار، بل تشجع أدواتها الإقليمية والمحلية على الاستمرار به، بعكس التصريحات الدبلوماسية الأميركية الكاذبة، كما أكد رئيس الوفد الوطني المفاوض محمد عبد السلام.
مثل هذا التحرك يثير المخاوف لدى صنعاء من وجود نيات عدوانية مبيّتة يحضّر لها الأميركيون، وأنَّ الهدنة لم تكن جدّية، بقدر ما يُراد منها ترتيب الأوراق العسكرية والسياسية المبعثرة بهدف التصعيد، وليس بهدف إنهائه.
أمام هذه الممارسات، تتمسَّك صنعاء بموقفها بأن "لا سلام من دون رفع الحصار"، كما أكد الرئيس مهدي المشاط. وقد أضاف نائب وزير الخارجية حسين العزي: "الهدنة في طريقها نحو الفشل، ما لم يوقفوا خروقاتهم ومماطلاتهم، وما لم تتوقف الأمم المتحدة عن تصريحاتها التخديرية الكاذبة"، وعزز ذلك عضو الوفد الوطني عبد الملك العجري بالقول إن "الهدنة تمثل فرصة لوضع عجلة السلام على السكة"، محذراً تحالف العدوان: "لا تسيئوا تقدير رغبتنا في السلام".