النظام الإقليمي الجديد: ما حدث وما يمكن أن يحدث!
النظام الإقليمي المرتقب أو المفترض هو نظام هجين غير متجانس. وهو نظام مركب ومعقد للغاية، وفيه الكثير من التداخلات والتشابكات والتقاطعات والتوازنات.
ثمة مؤشرات تفيد بأن النظام الإقليمي في المنطقة يجتاز مخاض تغييرات وتحوّلات وتبدلات راديكالية ودراماتيكية. بعضها يجري بطريقة سلسة ومقنعة، بمعنى أنها غير مرئية وغير معلنة؛ وبعضها الآخر يحصل بطريقة عنيفة، تترك آثاراً عميقة، بعد أن تحدث مفاعيل بعيدة المدى وطويلة الأمد. وقد اجتاز هذا النظام الإقليمي نفسه – منذ نشأته وحتى حينه – العديد من المحطات التاريخية والأحداث السياسية والأمنية والعسكرية والإستراتيجية؛ كما شهد معها الكثير من التصدعات البنيوية والتخبطات السلوكية والارتباكات أو الاضطرابات الوظيفية.
فما الذي يمكن الإدلاء به بخصوص مسألة النظام الإقليمي بين الماضي والحاضر والمستقبل؟ وما الذي يمكن تدوينه من الملاحظات ذات الصلة بالنظامين البائد والعتيد؟
من الوحدة القومية العربية إلى الإسلام السياسي
بعد أن بلغ المدّ القومي العربي ذروته خلال النصف الثاني من القرن المنصرم، أخذ يتراجع تدريجيّاً مع وفاة الرئيس المصري الراحل والقائد العربي التاريخي جمال عبد الناصر.
فانتهت معه الحقبة الذهبية من تجربة مشروع الوحدة القومية العربية، التي تخللتها انتكاسات، حققت إنجازات وانتصارات، وتضمّنت محاولات عديدة بقصد الوحدة أو الاتحاد من هنا وهناك. في تلك الحقبة أيضاً، اكتملت عملية بلورة مفهوم الأمن القومي العربي في الخطاب السياسي، في الممارسة السياسية، كما في الوعي السياسي، أي في النفوس والأذهان والعقول والقلوب لدى الشارع العربي أو الشعب العربي والرأي العام العربي، حتى وصل إلى القمة في اتجاه تاريخي تصاعدي، قبل أن ينتقل بعدها إلى سلوك اتجاه سياسي انحداري منذ تلك اللحظة، من دون الاستطالة أو الاستفاضة في المراجعة التاريخية لتلك الحقبة.
مع الأسف، لم يكتمل أبداً عقد مشروع الوحدة القومية العربية بميزان الحداثة السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ لكنه حفر عميقاً في تاريخ شعوب الأمة العربية ووجدانها، كما ترك أثراً عظيماً، بصرف النظر عن تعثر التيار القومي العربي، أو لنقل بالأحرى التيارات القومية العربية، وتعذر بل فشل الرهان على صعود فكرة الوحدة القومية العربية.
وظل هذا الوطن أو العالم العربي يتخبط حتى حينه، وبعد انقضاء السنوات والعقود، في ظل شيوع حالة من التيه والضياع بالنسبة إلى الثوابت، القناعات، الخيارات، الرهانات، الرؤى والمشاريع. وقد تلا انتهاء ظاهرة المد القومي العربي ومشهدية صعود الفكرة القومية العربية، كمفهوم سياسي مشترك ومشروع سياسي جامع – بروز تيار ومدرسة بل تيارات ومدارس الإسلام السياسي، من دون أن يتمكّن هذا المفهوم السياسي، الذي خلف مفهوم الوحدة القومية العربية ومفهوم الأمن القومي العربي، من حسم الموقف السياسي والتاريخي، لناحية مدى القدرة على الاستقطاب والاجتذاب للمزاج الشعبي، بما يؤهله لوراثة الحقبة الزمنية السابقة والفكرة السياسية السابقة.
أحداث "الربيع العربي"
إن الأحداث السياسية والأمنية الأخيرة في العديد من بلدان المنطقة العربية طيلة العقد الماضي، والتي بات يُصطلَح على تسميتها في الأدبيات السياسية والإعلامية، الغربية والعربية، بـ"ثورات الربيع العربي"، أو لنقل أحداث الربيع العربي – بصرف النظر عن مدى صحة هذه التسمية الاصطلاحية ودقتها – قد نسفت ما تبقى من مفهوم الأمن القومي العربي، بل هي أجهزت عليه إلى غير رجعة. وقد أظهرت أيضاً حالة الانكشاف التي تشهدها دول المنطقة العربية، أو بالأحرى مجموعة الدول العربية، بالنظر إلى ضعف بل غياب الوعي السياسي في المجتمعات العربية ولدى الشعوب العربية أولاً، وهشاشة المناعة أو الحصانة الذاتية في هذه المجتمعات ولدى هذه الشعوب ثانياً، وبالتالي عدم أو انعدام القدرة على مواجهة ومقاومة الضغوط المتأتية من التحديات والتهديدات والأخطار الخارجية والأجنبية، ولا سيما من قبل القوى الغربية، في طور الاستعمار الحديث راهناً، كما في طور الاستعمار التقليدي سابقاً.
العدوان الإسرائيلي على غزة
أما الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة، وربما المفتوحة على الضفة الغربية، فهي لا تدع مجالاً للشك في واقع وحقيقة ترهل بل تحلل مفهوم الأمن القومي العربي، الذي يُفترض أن يتمثل ويتجسد نظريّاً وعمليّاً في سلسلة أو مجموعة آليات العمل العربي المشترك، ولا سيما الدفاع العربي المشترك، وليس اندثار فكرة أو مشروع الوحدة القومية العربية فحسب. إن الصمت العربي المريب والمخزي إزاء كل ما يرتكبه ويقترفه العدو الإسرائيلي من الجرائم الموصوفة بحسب القانون الدولي وبلغة الشرعية الدولية، ولا سيما محكمة العدل الدولية الدائمة والمحكمة الجنائية الدولية، يعكس هذا الواقع وهذه الحقيقة بشأن حالة الأمة العربية ومصيرها ومستقبلها.
وهو لا يقتصر – مع الأسف – على الحكومات العربية وحدها، وإنما يتعداها ليطال حتى الشعوب العربية، في سابقة تاريخية، تفيد بالسقوط الأخلاقي للعرب والمسلمين أيضاً. إن العدوان الإسرائيلي على غزة يقودنا، عند هذا الموضع أو المقام بالتحديد، إلى تدوين ملاحظتين اثنتين في هذا المضمار حول حقيقة الواقع العربي لاستشراف المستقبل القريب غير البعيد بعد الفراغ من تحديد الوضعية وتقدير الموقف:
الملاحظة الأولى: مفادها فشل النظام الإقليمي العربي؛ وهو فشل ذريع وفظيع، لا لبس فيه، ولا فصال ولا نقاش حوله؛ فالجامعة العربية، أو بالأحرى جامعة الدول العربية، لا جامعة الشعوب العربية، هي ليست حاضرة، بل هي غائبة، وتكاد تكون غير موجودة في الأصل ومن الأساس، في صورة مشهدية، سياسية وتاريخية، باتت خطيرة للغاية، وتؤكد من دون أدنى شك انتهاء صلاحيتها وانتفاء وجودها!
الملاحظة الثانية: مفادها شلل النظام الرسمي العربي؛ وهو شلل تام، كامل وشامل، لا رجوع عنه، لا أمل فيه، ولا جدوى منه؛ فالحكومات العربية، سواء كانت مجتمعة أو منفردة، لا تحرك ساكناً، ولا تعير أي انتباه أو اهتمام للحدث الجلل في فلسطين المحتلة، في هذه اللحظة السياسية والتاريخية، المفصلية والمصيرية، في حياة القضية الفلسطينية؛ وهي تؤكد بذلك أنها عاجزة، ولا سبيل لإنقاذها، ولا إنعاشها، ولا انتشالها!
الفراغ الإقليمي والغياب العربي
أفضى تشتت وتبعثر مرتكزات ومركّبات هذه المنظومة الإقليمية، التي كانت في نواتها الصلبة تقوم على أساس الفكرة القومية العربية، المتمثلة والمتجسدة في شخصية جامعة الدول العربية، منذ حقبة نزع الاستعمار ونيل الاستقلال بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، إلى بروز حالة سلبية سيئة من الفراغ الإقليمي، مع انحسار وانكسار المد القومي العربي سابقاً، ومن ثم تداعي وتشظي منظومة الأمن الإقليمي على وجه العموم ومنظومة الأمن القومي العربي على وجه الخصوص لاحقاً.
وهو الأمر الذي يعني بالتبعية أن حالة الفراغ على امتداد الإقليم مردها سيرورة التراجع العربي في المرحلة الأولى، بمعنى مسار الانحدار والانحطاط العربيين، إلى أن بلغ الدرك حد الغياب العربي بالكامل من المشهد الإقليمي في المرحلة الثانية. وهو المعطى الإقليمي -الدولي المستجد، الذي كنا نرصد الإرهاصات والمؤشرات له حتى الأمس القريب، قبل أن يدخل حيز التنفيذ الفعلي والعملي، وتتسارع وتيرته مؤخراً.
ومن هنا، ما تزال المنطقة تشهد مخاض ولادة النظام الإقليمي الجديد؛ كما أنها ما تزال تقع ضمن نطاق المرحلة الانتقالية المؤقتة وفي خضم الاضطرابات ذات الصلة. وقد يطول أو يقصر المدى الزمني للفترة الممتدة ما بين طور النظام الإقليمي القديم، الذي انتهى بالتأكيد، وطور النظام الإقليمي العتيد، الذي لم يبدأ بعد، أو بالأحرى لم تكتمل شروطه وأركانه وسماته وآليات عمله حتى تاريخه.
القضايا والحقوق والمصالح العربية المشتركة والمتبادلة
إن هذا ما يفسر الإساءة المتكررة أو المتواصلة للقضايا والحقوق والمصالح العربية، المشتركة والمتبادلة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية – لكونها وبوصفها القضية المركزية – سواء كان من قبل العرب أنفسهم، أو كان من قبل سواهم، وخاصة من جانب الغرب.
إن تراجع الحضور والدور العربيين في الإقليم وفي العالم بأسره إنما أدى إلى تقهقر المجموعة العربية. وهو الأمر الذي قد يفسر بدوره – إلى حد ما – حالة الوهن السياسي، من منظار السيكولوجيا السياسية، التي يعيشها العرب، والتي بلغت حد توهين المعنويات عندهم، كما الشعور بالمرارة والخيبة والحسرة والإحباط، وبالتالي التسليم غير المعقول، غير المقبول وغير المبرر بالوضع الراهن - الستاتوكو، والتعميم للروح السلبية المفرطة، لا الإيجابية، وكذلك النفس الانهزامي والاستسلامي بين صفوف الأجيال الشابة، الناشئة والصاعدة، والفئات العمرية الفتية. ما يعني أن مفاعيل هذه الحالة العامة والشاملة ومترتباتها المباشرة وغير المباشرة ربما لا تقتصر فقط على هذه المرحلة من التاريخ وهذا الجيل من الأمة، بل قد تتعداهما إلى المراحل التي سوف تلي والأجيال التي سوف تتبع في المستقبل، ما لم يطرأ شيء جديد أو أمر ما.
الفاعلون الجدد على الساحة الإقليمية
على أي حال، ثمة من هم معنيون بطريقة أو بأخرى بملء هذا الفراغ الإقليمي، لأسباب ذاتية وموضوعية، وكذلك بالتعويض عن الغياب العربي، أو ربما الإحجام العربي عن تحمّل المسؤولية الإقليمية أو المشاركة والمساهمة في الاضطلاع بالمسؤولية الإقليمية بالحد الأدنى. والمقصود هنا بطبيعة الحال مجموعة من اللاعبين الدوليين والإقليميين القدامى والجدد، في إشارة إلى كل من اللاعبين السياسيين القدامى والمتجددين من جهة واللاعبين السياسيين الجدد من جهة أخرى. إن الإحاطة بمجموعة الفاعلين السياسيين المعنيين بشؤون المنطقة وقضاياها وملفاتها تفترض الأخذ بعين الاعتبار أن هذه القوى الدولية والإقليمية تنقسم إلى مجموعتين اثنتين وتتوزع على مستويين اثنين، وذلك على النحو الذي يتبع أدناه مباشرة:
المستوى الأول والمجموعة الأولى: المقصود هنا القوى الدولية لا الإقليمية، في إشارة إلى القوى الكبرى والعظمى الثلاث – أميركا، روسيا والصين – أو العواصم العالمية الثلاث – واشنطن، موسكو وبكين – بعد أن خرج الاتحاد الأوروبي مؤخراً من السباق الإستراتيجي، وأمست المجموعة الأوروبية راهناً خارج إطار التنافس الإستراتيجي، بحيث تبقى واشنطن في المقام الأول موجودة وحاضرة بقوة في هذه المنطقة الجيوسياسية والجيواستراتيجية، بعد أن أعادت التموضع الإستراتيجي مرتين متتاليتين في اتجاهين متناقضين أو متقابلين ومتعاكسين – قبل الطوفان وبعده ثم العدوان الذي أعقبه – وتليها موسكو في المقام الثاني، بعد أن عادت بالقوة العسكرية إلى الشرق الأوسط أو غربي آسيا من بوابة سوريا، وتأتي بكين في المقام الثالث، بعد أن اقتحمت بالقوة الاقتصادية – كما القوة الناعمة والقوة الذكية – العديد من الساحات والميادين والأقطار.
المستوى الثاني والمجموعة الثانية: المقصود هنا القوى الإقليمية، في إشارة إلى ثلاث قوى أساسية في الإقليم، وهي ناشئة وصاعدة، مع التمييز والتفريق بينها بطبيعة الحال، في إشارة إلى كل من: تركيا، وهي قوة إقليمية بارزة، من حيث المساحة الجغرافية كما الكتلة الديمغرافية، وواعدة أيضاً، من حيث القوة الاقتصادية والعسكرية، لديها مكانتها الخاصة ولديها مشروعها الخاص وحساباتها الخاصة؛ إيران، وهي قوة إقليمية وازنة، من حيث حجمها الجغرافي ووزنها الديمغرافي، وفاعلة أيضاً من حيث القوة العسكرية أكثر منها القوة الاقتصادية، لديها حضورها الخاص، وكذلك لديها امتداداتها الخاصة؛ و"إسرائيل"، أو بالأحرى الكيان الإسرائيلي، الذي يبقى دخيلاً على المنطقة من الناحيتين السوسيولوجية والديمغرافية، لكنه يحظى بتأييد ودعم القوى الغربية كافة، والعديد من القوى العربية لمسارات التطبيع الإستراتيجية وخطوط الإمداد الإستراتيجية.
تبقى هذه القوى الدولية والإقليمية معنية على اختلافها – بدرجات أو نسب متفاوتة ومن مواقع أو زوايا متباينة – بتحديد مصير المنطقة ومستقبل النظام الإقليمي؛ بينما أصبحت القوى العربية الإقليمية، أو العواصم العربية الإقليمية، التي كانت في طليعتها القاهرة في الماضي، وأمست في صدارتها الرياض في الحاضر، وربما المستقبل – إذ حلت الثانية محل الأولى – خارج إطار الحسابات والتقديرات والتوقعات المتصلة بخريطة التموضعات والاصطفافات الإقليمية، في ضوء القدرات، الاتجاهات والمسارات ذات الصلة بعملية الاستقطاب الإقليمي المتفرعة والمتشعبة في المرحلة الحالية، ثم في المرحلة المقبلة بعدها.
حلف المقاومة في المنطقة
مع ذلك، تشهد المنطقة ظاهرة صعود وبروز حلف سياسي -عسكري جديد من نوعه على امتداد الإقليم وفي أكثر من ساحة أو ميدان. وهو صار يُعرَف بمحور المقاومة، كما بات يُصطلَح على تسميته في الأدبيات السياسية والإعلامية، ولا سيما الأدبيات السياسية والإعلامية الخاصة به. هو ظاهرة جديدة من نوعها بطبيعة الحال في العلوم السياسية بصورة عامة وفي العلاقات الدولية بصورة خاصة، ومن ضمنهما الدراسات الدبلوماسية والإستراتيجية. وقد لا يتسع المجال هنا، عند هذا الموضع أو المقام من المقال، للخوض والغوص فيها؛ ولكنها تستأهل حتماً البحث العلمي فيها والنقاش السياسي حولها.
هي ظاهرة مركبة ومعقدة. وهي ظاهرة هجينة وغير متجانسة؛ ولكنها تبدو متماسكة. هي تضم العديد من الفاعلين السياسيين، الدوليين والإقليميين، الحكوميين وغير الحكوميين، من مثل الدول والأنظمة والحكومات والجيوش ومن قبيل حركات المقاومة الشعبية والمنظمات غير الحكومية، العسكرية والمسلحة. وهي تمتد من إيران إلى لبنان وفلسطين المحتلة، مروراً بسوريا والعراق، وليس انتهاء باليمن. وتبقى مثل هذه الظاهرة حتى تاريخه موضع وموضوع الكثير من السجال أو الجدال السياسي، وليس الحوار السياسي فقط.
على أي حال، هي تفرض نفسها بكل قوة، وهي تتقدم بخطى ثابتة. كما أنها تمكنت إبان هذا العدوان الإسرائيلي على غزة – بل قبله، وربما بعده حتى – من تسجيل العديد من النقاط السياسية وغير السياسية في مرمى الأعداء والأخصام، وتحصيل الكثير من المكاسب السياسية وغير السياسية لإثبات نفسها، وبالتالي تأكيد وتثبيت حضور هذا الحلف أو هذا المحور ودوره الجديد، المستجد والمتجدد، في تقرير مصائر شعوب ومجتمعات وبلدان ودول المنطقة، وفي تحديد الترتيبات الإقليمية ورسم المعادلات والتوازنات، الجديدة والمستجدة.
النظام الإقليمي الجديد ومشروع الشرق الأوسط الكبير
يعيد كل ذلك إحياء النقاش من جديد حول المشروع القديم-الجديد، أو المشروع المتجدد، المعروف بمشروع الشرق الأوسط الكبير، والذي عمل عليه الأميركيون والإسرائيليون ولا يزالون. فمع إطاحة النظام الإقليمي الذي كان قائماً، ومن ضمنه ما تمثله ومن تمثله الجامعة العربية، في إشارة إلى المجموعة العربية، وما تختزنه من التاريخ والحضارة والأمن القومي للعرب، قد تكون الفرصة سانحة، أو بالحد الأدنى قد تكون ثمة فرصة للإجهاز على الحضور والدور العربيين في المنطقة، أو ما تبقى منهما، وكذلك تقويض كل أشكال وأنماط واحتمالات وفرص التضامن العربي، التكامل العربي والاتحاد العربي – الاتحاد بدلاً من الوحدة – إن لم تعد نظرية أو فرضية الوحدة القومية العربية ممكنة أو أقله واردة.
في المقابل، يقف محور المقاومة في مواجهة المشروع الأميركي -الإسرائيلي، إذ إنه يقارع وينازل كلًّا من الأميركي والإسرائيلي. ويستمر هذا التحالف في مراكمة القوة والقدرة والتجربة والخبرة. كما أن لديه مشروعاً في مقابل المشروع الأميركي -الإسرائيلي في هذه المنطقة. ما يعني أن محور المقاومة يحاول أن يتصدى للمشروع الأميركي -الإسرائيلي، وأن يمنع تنفيذه وتطبيقه وتحقيقه؛ كما أنه يواجه السياسات الغربية في المنطقة عموماً، والسياسات الأميركية -الإسرائيلية فيها خصوصاً، ويعمل لأجل تقويض الهيمنة الغربية بصورة عامة، والهيمنة الأميركية -الإسرائيلية بصورة خاصة. فالجديد هنا إذاً هو وجود مثل هذا المشروع المناوئ والمناهض لأميركا و"إسرائيل"، ومن خلفه وجود الرؤية والمنهجية والخطة، وما إلى ذلك من العناصر والعوامل والمقومات والشروط.
وعليه، النظام الإقليمي المرتقب أو المفترض هو نظام هجين غير متجانس. وهو نظام مركب ومعقد للغاية، وفيه الكثير من التداخلات والتشابكات والتقاطعات والتوازنات.
هو ليس حكراً على العرب وحدهم بطبيعة الحال؛ ولكنه قد لا يكون أيضاً أسير ورهين الهيمنة الأحادية، الغربية على وجه التعميم، أو الأميركية على وجه التخصيص.
وهنا بالذات وبالتحديد، قد تكمن الفرصة التاريخية في إسقاط مشروع الشرق الأوسط الكبير، ومن ثم استئناف واستكمال هذه الصيرورة التاريخية لإعادة تكوين أو تشكيل النظام الإقليمي بكامله، بطريقة مختلفة وبصورة مغايرة، على أسس تمنع الاحتكار للنفوذ الدولي -الإقليمي، ممارسة الهيمنة الأحادية، استمرار الاستعمار الحديث بعد انقراض الاستعمار القديم، الاستكبار والغطرسة.
هي فرصة بالتأكيد، وهي مجرد فرضية علمية، قد ترقى أو لا إلى مرتبة النظرية العلمية، المثبتة والمتحققة. هكذا تبدو هذه اللحظة من حياة المنطقة – في هذا السياق وهذا التوقيت – غير مسبوقة.
يستمر المخاض الطويل والعسير لولادة النظام الإقليمي الجديد، كما الانتقال من حيز النظام الإقليمي القديم إلى حيز النظام الإقليمي الحديث. في الواقع والحقيقة، إن هذا المخاض الطويل والعسير عبارة عن سيرورة مستمرة ومتواصلة من الأحداث والمحطات والتطورات والمستجدات المتداخلة والمتشابكة.
وهو رهن بما سوف يؤول إليه العدوان الإسرائيلي على غزة أخيراً، بعد أن كان "الربيع العربي" أحدث فعله وترك أثره على صعيد ماهية النظام الإقليمي وطبيعته مع بداية القرن الحالي، وكان قد سبقه انحسار المد القومي العربي وانكساره وانفراط عقد الوحدة القومية العربية إثر منتصف القرن المنصرم، بحيث أنه لم يعد حاضراً ولن يكون مستقبلاً نظاماً إقليميّاً قوميّاً عربيّاً خالصاً!