المقاومة الفلسطينية في الضفة.. إلى أين؟
مَن يقرأْ المشهد جيداً يدركْ أنّ حالة الغليان التي وصلت إليها الضفة الغربية لا يمكن السيطرة عليها. وليس تطوّر العمليات، من جنين، إلى نابلس، إلى طولكرم، وأخيراً منطقة الأغوار، إلّا دليلاً على تطوّر هذه المقاومة.
على الرّغم من الجهود الكبيرة التي بذلها الاحتلال في مواجهة المقاومة في الضفة المحتلة وحصرها في مناطق محدَّدة، وصناعة نماذج لمناطق هادئة بعيدة عن المواجهة والضغط، فإنّ العملية الأخيرة في منطقة الأغوار شرقي الضفة المحتلة أثبتت أن هذه النماذج فاشلة، وأن "خطر" تنامي مقاومة الضفة الغربية وصل إلى مرحلة يصعب السيطرة عليها، على الرغم من الجهد والقوة الأمنيَّين المبذولين فيها على مدار الساعة.
الناظر إلى طبيعة العمل الذي يبذله "جيش" الاحتلال في الضفة الغربية يخشى على المقاومة هناك من استنزاف كبير يصيبها، فكثيرون ممّن سلكوا طريق المقاومة خلال العامين الأخيرين باتوا إمّا شهداء وإمّا أسرى خلف القضبان، لكن حقيقة الواقع تشير إلى عكس ذلك، فأعداد مَن باتوا يؤمنون بالمقاومة أكبر كثيراً من السابق. وفي كل يوم، تندفع أعداد جديدة من الشبّان إلى طريق مقاومة العدو ومستوطنيه، والسلاح لم يعد المعضلة الكبرى أمام مَن يريد المقاومة.
وعلى عكس التوقعات الأمنية للاحتلال، التي تُفيد بالسيطرة على الوضع في الضفة المحتلة مع تشديد القبضة الأمنية، وما يُطلق عليه "عمليات جزّ العشب"، تنطلق فئات جديدة من الفلسطينيين نحو مواجهة الاحتلال ورفض سياسات التدجين.
هذا الأمر لم يعد يقتصر على مناطق شمالي الضفة، بل بات ينتقل يوماً بعد يوم إلى كل مناطق الضفة، والعمليات في الأغوار ورام الله ونابلس وجنين دليل على ذلك. وعبّرت صحيفة "يديعوت أحرونوت"، بعد عملية الأغوار، عن وجود خشية كبيرة لدى المؤسسة الأمنية من انتقال عمليات إطلاق النار "غير المخطَّط لها" إلى مناطق أخرى في الضفة الغربية المحتلة.
العوامل التي تؤدي إلى تفجُّر الضفة في وجه الاحتلال ما زالت حاضرة بصورة كبيرة، وتزداد يوماً بعد يوم. فإلى جانب البعدين الوطني والديني، اللَّذَين نَمَوا بصورة كبيرة في السنوات الأخيرة، تبرز الانتهاكات التي يمارسها الاحتلال في الضفة الغربية المحتلة، وخصوصاً استمرار سياسة الاستيطان وتوسعها على نحو دائم وقضمها أراضي الفلسطينيين، إضافة إلى استمرار شلال الدم الفلسطيني في الضفة عبر عمليات الاغتيال الممنهج للشبّان.
في البُعد الوطني، يشعر الفلسطينيون في الضفة الغربية المحتلة بأنّ قضيتهم الوطنية تمرّ في أسوأ حالاتها، نتيجة الخذلان السياسي من السلطة الفلسطينية والعرب والعالم على حدّ سواء، وسط محاولات الاحتلال تدنيسَ كل ما هو مقدَّس لدى الفلسطينيين وابتلاعه، إضافة إلى الانتهاكات في الجانب الديني، والتي تتواصل في المسجد الأقصى، وتصل إلى درجة الاستفزاز الشديد، وشعور الفلسطينيين بأن المتطرفين، بحماية حكومة الاحتلال، يعملون بصورة فعلية وعلى نحو سريع على تهويد المسجد الأقصى وهدمه.
الفلسطيني في الضفة الغربية المحتلة يشعر بأنّ الاحتلال يبتلع كل يوم مساحة جديدة من أرضه، وسيصل في وقت قريب إلى طرده من منزله، وهو يدرك أنّ سياسة الاحتلال تقوم حالياً على السيطرة المتدرجة والهادئة على أكبر قدر من مساحة الضفة، الأمر الذي يحتّم على الفلسطينيين مواجهة هذه السياسة التي يريد الاحتلال من خلالها إحلال المستوطنين مكانهم.
من ناحية أخرى، بات الفلسطيني في الضفة الغربية المحتلة يشعر بالخزي من الوضع السياسي الذي تمثّله السلطة الفلسطينية والقيادات السياسية والأمنية فيها، والتي لم يعد لها أي قيمة في مواجهة الاحتلال، بل بات العدو يعتمد عليها جزئياً في مواجهة المقاومة واعتقال المقاومين.
التحرك المتواصل لرجال الضفة الغربية ومقاومتهم الاحتلال أثارا حالة من القلق والفزع لدى المنظومتين الأمنية والعسكرية في "دولة" الاحتلال، نظراً إلى تأثير العمليات الفدائية في سمعتهما، ومساسها بجمهور الاحتلال الذي يَشكو بصورة دائمة حالةَ الشعور بعدم الأمن، بل إنّ تطور العمليات وظهورها على نحو شبه منظّم عزّزا قلق الاحتلال، وهو ما عبّر عنه رئيس "الشاباك" السابق آفي ديختر بعد عملية الأغوار، بالقول: "نحن في موجة تصاعد للعمليات. وعملية إطلاق النار في غور الأردن، نجح منفّذوها في تخطيطها وتنفيذها، ووجدنا أنفسنا في عملية مغايرة عن العمليات الأخرى، وتحمل عواقب وخيمة".
الثمن الذي تدفعه "دولة" الاحتلال في الضفة الغربية المحتلة كبير جداً بالنسبة إليها؛ فانتشار الجيش وعملُ المنظومة الأمنية حَدَثا بصورة كبيرة جداً خلال الفترتين الماضية والحالية، وهي تخشى انتقال العمل المقاوم والعمليات الفدائية من مناطق الضفة المحتلة إلى مدن الداخل الفلسطيني المحتل، كما حدث في بداية العام الجاري.
المقاومة تتطور في الضفة، ويُستدلّ على ذلك بتقرير صحيفة "يديعوت أحرونوت" بشأن عمليات اقتحام مقام النبي يوسف في نابلس، والذي أشار إلى أنّ "تأمين اقتحام المستوطنين لقبر يوسف في نابلس كان يتم، في السابق، عبر إرسال كتيبتين، تُعَدّان كافيتين على الأقل لتأمين الاقتحام. اليوم، أصبحت كل عملية اقتحام تحتاج إلى أربع كتائب للتأمين، وتُرافق ذلك عملياتُ إطلاق نار واشتباكات من مسافات قريبة".
مَن يقرأْ المشهد جيداً خلال العامين الأخيرين يدركْ أنّ حالة الغليان التي وصلت إليها الضفة الغربية المحتلة لا يمكن السيطرة عليها. وليس تطوّر العمليات، من جنين، إلى نابلس، إلى طولكرم، وأخيراً منطقة الأغوار، إلّا دليلاً على تطوّر هذه المقاومة وتخطيها عمليات "جزّ العشب"، وهو ما ينبئ باستمرار جذوتها وتنامي قوتها لتكوين جبهة فلسطينية في غاية الخطورة على الاحتلال.