اللاجئون السّوريون في تقلّبات الحسابات التركيّة
وصل الترحيب التركي باستقبال اللاجئين إلى درجة قيام معظم المسؤولين الأتراك بزيارة هذه المخيمات واستقدام وجوه بارزة عالمية من فنانين ورؤساء منظمات دوليين، في محاولة لإظهار البعد الإنساني للقضية وتوظيفها سياسياً.
قبل بدء الأزمة السورية، شهد ملف اللاجئين اهتماماً واسعاً، سواء من حيث التحضير لحيثيات توظيفه على المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية أو من حيث التشهير والتلويح به إعلامياً، بينما احتلَّ المستوى الإنساني المرتبة الأخيرة. ورغم ذلك، بات يشكّل حصان طروادة ووسيلةً فاعلةً للضغط على الحكومة السورية أولاً، ومن ثم على حلفائها في ما بعد، من حيث تحميلهم المسؤولية المباشرة للتهجير.
ومن أبرز الأدلَّة على هذا التوظيف الّذي بات المهجر السوري يتصدّر واجهته، هو إقدام تركيا على إنشاء 3 مخيمات على حدودها الجغرافية مع سوريا منذ شهر شباط/فبراير 2011 في منطقة أطمة التي سرعان ما أصبحت تشكل قاعدة خلفية للفصائل المسلّحة، ومخيم "كيلس"، ومخيم "أورفه".
وسرعان ما تزايدت هذه المخيمات خلال السنوات الأولى للحرب على سوريا إلى 22 مخيماً توزعت على 11 محافظة تركية. وكان لافتاً حينها أنَّ تركيا كانت من أول الدول التي أثارت مشكلة ملف اللاجئين قبل أن تطأ قدم نازح سوري واحد الأراضي التركية أو غيرها من الدول، وسارع النظام التركي، بأوامر من رئيس الحكومة حينها رجب طيب إردوغان، إلى إقامة بيوت مسبقة الصنع في منطقة الإسكندرون.
وأكثر من ذلك، وصل الترحيب التركي باستقبال اللاجئين إلى درجة قيام معظم المسؤولين الأتراك بزيارة هذه المخيمات واستقدام وجوه بارزة عالمية من فنانين ورؤساء منظمات دوليين، من بينهم أنجلينا جولي، في محاولة لإظهار البعد الإنساني للقضية وتوظيفها سياسياً، في حين أن الحقيقة كانت مغايرة لذلك بالكامل، إذ حرص النظام التركي على بلورة ملف اللاجئين وإظهاره لتحقيق هدفين رئيسيين: الأوَّل هو شيطنة صورة الدولة السورية وتحميل مسؤولية القتل والتشريد والتهجير بشكل مباشر لشخص الرئيس بشار الأسد، بغرض سحب الشرعية عن سوريا حكومةً ومؤسساتٍ وقيادةً، والآخر هو إيجاد المبررات للنظام التركي، لدعم المجموعات المسلحة وتغيير الواقع الجغرافي الشمالي، بما يضمن تحقيق مصالحه وتوسيع نفوذه قبل انتهاء اتفاقية لوزان 2023.
ولترجمة ذلك، تحوَّلت مخيَّمات اللاجئين إلى:
1. استغلال الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للسوريين في تلك المخيمات، ووضع الذكور الذين تتجاوز 18 عاماً أمام خيارين؛ إما انتظار المساعدات، وربما الموت جوعاً والبقاء في سجن هذه المخيمات، وإما الانضمام إلى التنظيمات المسلَّحة مقابل الحصول على ريع مادي يمكّن عوائلهم من تأمين مقومات حياتهم. وبذلك، أضحت هذه المخيّمات خزاناً بشرياً لرفد التّنظيمات المسلّحة بالعناصر المقاتلة.
2. تحويل هذه المخيّمات إلى ملاذ آمن للضباط والجنود الفارين ومركز تدريب للتنظيمات المسلحة، وهو ما يفسّر وضع الحماية المشددة على بعض المخيمات ومنع أحد من الدخول إليها، كما حصل مع النواب عن حزب "الشعب الجمهوري" المعارض، الذين حاولوا الدخول إلى مخيّم "أبايدن" في بداية العام 2013، عندما اصطدموا مع محافظ أنطاكيا ورجال الأمن. وقد ضمّ المخيّم، وفق ما كشف أحمد داوود أوغلو في العام 2020، مركز تدريب للفصائل ومقرّات للضبّاط الفارين، وهو ما كشفته فورن بوريس في أحد تقاريرها في العام 2016.
3. تغير الواقع الديمغرافي في الجنوب التركي واستخدام السوريين ورقة إزعاج للكرد في تلك المنطقة، فضلاً عن استخدام اللاجئين ورقة ضغط في يد النظام التركي لابتزاز الغرب في مفاوضاته حول الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أولاً، وفي ما يتعلَّق بالقضايا الخلافية حول ترسيم الحدود في المتوسط وقضية الصراع على الغاز. وقد استطاع النظام التركي كسب بعض الجولات في هذا الإطار، عندما حصل على مساعدات من قبل الاتحاد الأوروبي على 3 مراحل، وصلت إلى قرابة 6 مليار يورو مقابل إغلاق الحدود أمام انتقال اللاجئين إلى أوروبا.
4. تحوّل المخيمات إلى أسواق نخاسة لبيع الأطفال والأعضاء بشكل منظّم من قبل سماسرة تابعين لبرات آلبيرق، صهر الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الذي نشّط هذه التجارة رغم حظرها في القانون التركي بنسبة 12%.
5. تحويل ملف مشكلة اللاجئين مع مرور الزمن إلى شماعة لتطبيق المخطط التركي، لتوسيع نفوذه في شمال الجغرافيا السورية، وهو ما كان يدفع وزير الخارجية آنذاك أحمد داوود أوغلو إلى القول في العام 2012: "إذا وصل عدد اللاجئين إلى 50 ألفاً، فإن تركيا ستضطر إلى طلب المساعدة من الأمم المتحدة"، ومن ثم أضاف بعد فترة تصريحاً مفاده: "حين يبلغ العدد 100 ألف، سنضطر إلى إقامة المنطقة العازلة".
في الواقع، منذ وصول اللاجئين السوريين إلى تركيا، شعر هؤلاء بسياسات يمكن وصفها بالمتقلبة والمتفاوتة من قبل الحكومة التركية وبعض خصومها في بعض الأحيان، فسياسات الترحيب بهم في بداية الأزمة لا يمكن فصلها عن تصاعد خطاب الكراهية والعنصرية التي وجهت إليهم بعد العام 2018، وهو ما يمكن ربطه بتوجهات الحكومة التركية في تطبيق خططها الاستثمارية الاستعمارية في الشمال السوري.
بعد أن أقدمت تركيا على تجنيس قرابة 109 آلاف شخص، معظمهم يملكون مقدرات مادية أو كفاءات علمية، دفعت نحو تهيئة الأجواء للتخلّص مما تبقى منهم لتطبيق سياستها الخارجية في الشمال السوري، بعدما تمكَّنت من خلال أذرعها العسكرية هناك من بسط نفوذها وسيطرتها بعد عملياتها العدوانية "درع الفرات وعصن الزيتون ونبع السلام".
وتبلورت هذه السياسات الاحتلالية أكثر بعد التغير الديمغرافي الذي شهدته الكثير من المناطق الشمالية، وربط أجزاء كبيرة من هذه الجغرافيا بولايات تركيا، واستقدام التمويل القطري وغيره لتعزيز التوجه التتريكي وفرضه، ابتداء من العملة والخدمات التحتيّة، وصولاً إلى المدارس والجامعات التعليمية، في ترجمة لما كشفه رئيس النظام التركي في العام 2019 أمام الأمم المتحدة عن مخطّطات لبناء عشرات المدن والقرى تحت ذريعة إعادة توطين السوريين في الداخل السوري، وهو ما يوحي بأنَّ النظام التركي انتقل منذ ذلك التاريخ إلى مرحلة جديدة في توظيف ملفّ اللاجئين، إذ يشمل هذا التوظيف نقل السوريين المتواجدين في المخيمات، وكذلك في المناطق السكنية، باتجاه الشمال السوري الَّذي تسيطر عليه الفصائل التابعة لتركية، وذلك لتحقيق عدة أهداف:
أولاً: تخفيف العبء عن النظام التركي، وبصورة خاصّة "حزب العدالة والتنمية"، الَّذي مورست عليه ضغوط شعبية وسياسية من قبل المعارضة، نتيجة ما ترتّب عليه من تداعيات ملفّ اللاجئين، رغم أنَّ هؤلاء اللاجئين تمكّنوا في فترة ممتدة من 2012 إلى 2019 من إنعاش الاقتصاد التركي 5%، وفق إحصائيات رسمية تركية.
ثانياً: يريد النظام التركي تلميع صورته أمام النظام الدولي، وذلك عبر نقل السوريين إلى أراضيهم والادعاء بأنه قام بحمايتهم خلال السنوات الماضية، فضلاً عن كسب ودّ الجانب الروسي في هذه المرحلة، بعد فترة المراوغة التي مارسها النظام التركي في تطبيق اتفاق سوتشي، وبعد تلمّسه الاستعدادات لتحرير إدلب من قبل الجيش السوري وحلفائه، والخشية التركية من التوصّل إلى تفاهمات بين "قسد" والحكومة السورية برعاية روسية بعد الانسحاب الأميركي المحتمل من سوريا والعراق قبل انتهاء العام 2021.
ثالثاً: الحصول على مليارات الدولارات جراء سياساته الاستغلالية، سواء من خلال تمويل عمليات النقل وتخفيف المخاوف الأوروبية من انتقال اللاجئين إلى أراضيهم، أو بناء المدن والبنى التحتية التي يتطلّبها إقامة هؤلاء، أو من حيث مصادرة ممتلكات اللاجئين في تركيا.
رابعاً: تسعى تركيا لتكريس نفوذها من خلال ملفّ اللاجئين عبر إطالة أمد وجودها، عن طريق تقديم نفسها على أنه الحامي لهؤلاء، والتوسع من خلال التغير الديمغرافي الذي تسعى له من خلال نشرهم، واستهداف المكون الكردي في الشمال الشرقي، ودمج عوائل المسلحين من أوزبك وأفغان وصينيين مع السوريين في هذه المناطق.
خامساً: السعي لاقتطاع أجزاء واسعة من الجغرافيا الشمالية، من خلال دفع هؤلاء إلى المطالبة بإجراء استفتاء والانضمام إلى تركيا، كما حصل في شمال قبرص في العام 1974. وفي الإطار ذاته، وخدمةً لذلك، يسعى النظام التركي لنقل نحو 800 ألف لاجئ إلى الداخل السوري خلال العامين 2021 و2022، وفق تصريحات مديرية الهجرة التركية.