النقد.. رؤية جهادية
النقد رؤية جهادية ضرورية للحفاظ على ديمومة المسارات التي تُجدد فاعلية حركات المقاومة الثورية ذات الرسالة الإنسانية والهدف الوطني. ومن دونها، تتحجّر هذه الحركات فكرياً ومعنوياً، ثم تموت.
أصدر المفكر السوري خالص جلبي كتابه القيم "في النقد الذاتي.. ضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية" عام 1982، وهو من الكتب التي أوصاني المُفكر الشهيد فتحي الشقاقي بقراءتها، واعتمدها كأحد مكونات المنهاج الثقافي والبناء الفكري للطليعة التي نهلت من فكره في مطلع ثمانينيات القرن العشرين.
الكتاب يُجيب عن سؤال مركزي: لماذا عجزت الحركات الإسلامية عن بلوغ أهدافها؟ أجاب الكتاب عن السؤال بالبحث عن العوامل الداخلية كأساس للعجز والفشل بناءً على المنطق القرآني الذي يوجه المسلمين إلى المسؤولية الذاتية عن الهزيمة والإخفاق: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ}. ومعرفة العوامل الداخلية تتطلب ربط السبب بالنتيجة كأساس للنقد الذاتي الذي أراد خالص جلبي ترسيخه كنهج للحركة الإسلامية، وأدرك الشقاقي قيمته في بناء حركته الإسلامية الثورية؛ حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين.
حركة الجهاد الإسلامي أُنشئت انطلاقاً من رؤية نقدية للحركتين الإسلامية والوطنية في فلسطين، واجتهاداً فكرياً متجاوزاً إشكالية الحركتين في علاقتهما بالإسلام وفلسطين، فالحركة الإسلامية التقليدية آنذاك لم تكن تتبنى فلسطين كقضية مركزية لها، وتؤجل الجهاد في فلسطين انتظاراً لإقامة الخلافة أو مرحلة التمكين أو استكمال التربية أو تطهير المجتمع، والحركة الوطنية العلمانية كانت تستبعد الإسلام من محتواها الأيديولوجي وفكرها السياسي ومرجعيتها الفكرية ونظريتها الثورية.
تجاوز الشقاقي مرحلة النقد إلى العمل، فأنشأ حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين تجاوزاً لإشكالية الحركتين، فجمع بين الإسلام منطلقاً ومرجعية، وفلسطين هدفاً وقضية، والجهاد نهجاً ووسيلة، وامتدت رؤيته النقدية إلى كثير من مفاهيم وقضايا الفكر الوطني والديني، وتوزعت على التاريخ والتراث والفقه والسياسة والتربية والثورة وغيرها.
اعتمد النقد عند الشقاقي على فكرة التجديد تأثراً بتيار التنوير الإسلامي ومدرسة الجامعة الإسلامية الإصلاحية التي أسسها كل من الإمامين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وامتدت إلى الشيخ المُفكر محمد الغزالي، فوصف حركة الجهاد الإسلامي بأنها "إسهام فكري مُتجدد في الساحة الإسلامية عامة والفلسطينية خاصة"، وأنها "رؤية متجددة في العمل الإسلامي".
والتجديد مستحيل من دون أن يسبقه النقد كنهج دائم يتوسط مرحلتي الامتداد والتجاوز، في حركة فكرية تتميز بالديمومة والحيوية والإبداع تبدأ بالامتداد الذي يتم من خلاله استيعاب التراث الفكري السابق، وتمر بالنقد الذي تتم فيه غربلة التراث لفرز الأصيل والصواب والمفيد منه وتوظيفه في عملية التجاوز الذي يبدع التجديد الفكري والفقهي.
هذا التجديد الإبداعي سيُدخل الحركة، كما قال الشقاقي في دراسته "التاريخ لماذا؟" عام 1983، في معركة فكرية مزدوجة مع "الطواغيت والبقايا المهترئة للبدائل التي طرحها الاستعمار... والأجنحة المتخلفة في الحركة الإسلامية نفسها".
وفي الدراسة نفسها، ربط الشقاقي بين المحنة والنقد عند الأمم والشعوب، قائلاً: "عندما تتعرض أمة لهزة عنيفة في حياتها، فإنها تنتبه بداية إلى تاريخها، فتتقدم وتدرس وتحلل وتنقد... وتُعيد الترتيب والصياغة لتتعرف إلى مواقعها الحالية، ثم تنطلق إلى آفاق المستقبل".
وفي دراسة أُخرى خاصة بالتجربة النضالية الفلسطينية بعنوان "من أجل مراجعة نقدية للتجربة الفلسطينية" عام 1994، جاء فيها: "نحن بحاجة إلى البحث والاستدراك للتعرف إلى عناصر القوة والضعف من أجل ترك تراث نقدي نهتدي به في مستقبل عملنا... نحن بحاجة إلى التهيئة لتشكيل تراكمات وخبرات نضالية لن يتهيأ لها التحقق إلا إذا أفردنا مساحة من عملنا للنقد والمراجعات، ليس كعمل طارئ، وإنما كعمل مؤسسي مستمر".
إدراك أهمية النقد كضرورة تؤسس للتجاوز والتجديد والإبداع قادته إلى دراسة الرؤى والتجارب النقدية عند التيار القومي العلماني، ومن أهم نماذجها كتابا المفكر القومي قسطنطين زريق "معنى النكبة" عام 1948، و"معنى النكبة مجدداً "عام 1967، الذي دعا فيهما إلى النقد الذاتي للبحث في الأسباب الداخلية للنكبتين في الأمة العربية لمعالجتها وتجاوزها.
ونذكر في هذا المجال أيضاً كتاب "النقد الذاتي بعد الهزيمة" عام 1968م للمفكر العلماني صادق جلال العظم، الذي ربط فيه بين الهزيمة والموروث الثقافي والديني المُسبب للعجز العربي الداخلي شعوباً وأنظمةً، ولكن الحلول التي طرحها التيار القومي العلماني تُعيد إنتاج الفكر الذي قاد الأمة العربية إلى الهزيمة بعد إعادة تجميله أو تشويهه، فبحث الشقاقي عن حل الأزمة خارج الصندوق القومي والعلماني.
التقط الشقاقي كتاب المُفكر السوري توفيق الطيب "الحل الإسلامي ما بعد النكبتين" المكتوب عام 1968، فوجد فيه حل الأزمة خارج صندوق القوميين والعلمانيين، فأعاد طباعته ونشره في فلسطين مطلع ثمانينيات القرن العشرين كأساس فكري لتجاوز فكر الهزيمة في النظرية الثورية لحركة الجهاد الإسلامي، فالهزيمة الأولى، كما قال توفيق الطيب، تمثل نهاية فكر ما قبل النكبتين (الفكر الليبرالي العلماني)، والهزيمة الثانية تمثل نهاية فكر ما بين النكبتين (الفكر الاشتراكي الثوري).
والمطلوب في فكر ما بعد النكبتين أن يحقّق الفكر الشرط الذاتي لحلّ أزمة الأمة ومواجهة التحدي الغربي الحديث، والإسلام كعقيدة ودين وثقافة وحضارة وثورة هو الوحيد الذي يحقق الشرط الذاتي لنهضة الأمة وتجاوز أزمة التحدي الغربي الحديث والمعاصر الذي تقع "إسرائيل" في مركزه، لتكون فلسطين في مركز المشروع الإسلامي المعاصر؛ مشروع التحرير والوحدة والنهضة.
النقد رؤية جهادية ما زالت ضرورية وحاجة دائمة حفاظاً على ديمومة مسارات الامتداد والتجاوز والتجديد، التي تُجدد فاعلية وحيوية حركات المقاومة الثورية ذات الرسالة الإنسانية والهدف الوطني. ومن دونها، تتحجّر الحركات فكرياً ومعنوياً، ثم تموت.
وبوجود الرؤية النقدية، تُحافظ على وهج النشأة المتجاوز لإشكالية العلاقة بين الإسلام وفلسطين، والمكتشف لكلمة السر الجامعة بين الإسلام وفلسطين والجهاد، تحدياً لاحتكار صوت فلسطين بين نهجي التعايش مع الاحتلال وتأجيل الاشتباك معه، ورفضاً لاحتكار صوت الإسلام بين تياري الإسلام الأمريكاني المهادن والإسلام الداعشي المتوحش.