العلاقة الاقتصادية مع تركيا لا تحجب القلق السياسي الروسي
وقفت الأزمة الاقتصادية عائقاً في وجه طموحات تركيا العسكرية، وشكلت حافزاً للعودة إلى تصفير المشكلات مع الدول الإقليمية. لكن، هل ستتمكّن أنقرة في ظل هذه الأوضاع من موازنة علاقتها بين الغرب وروسيا؟
عكس اللقاء بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان في سوتشي أجواء اهتزاز ثقة موسكو بأنقرة، بعد سعي الرئيس التركي إلى تغيير توجهات سياسته الخارجية عقب الانتخابات الأخيرة، وإهماله ملف علاقته بالرئيس الأسد، رغم جهود الوساطة الروسية والإيرانية، ودعوته "الناتو" إلى قبول عضوية أوكرانيا، وانتهاك التفاهمات التركية-الروسية في اتفاقية تبادل الأسرى المبرمة بين الدولتين من أجل إرضاء أوكرانيا والغرب.
لكن المصالح الاقتصادية بين الدولتين حتمت اللقاء؛ وسعى الرئيس الروسي للظهور في وضع المسيطر على الأحداث، مؤكداً حضور موسكو على الساحة السياسية بعد فشل الهجوم الأوكراني المضاد، فيما أتى الرئيس التركي ساعياً إلى الاستفادة من استعادة اتفاقية تصدير الحبوب مع روسيا، من أجل تأكيد نجاحه كوسيط، بعد أن مكّن أوكرانيا في الفترة الماضية من شحن حبوبها إلى الأسواق العالمية عبر البحر الأسود، وأثبت للغرب أنه قناة اتصال موثوقة بين "الناتو" وروسيا، وهو عملياً ما زال كذلك.
لا يعدّ بوتين تركيا مصدر المشكلة في عدم وفاء الغرب بوعوده بشأن تصدير الحبوب الروسية، بعد فشل الأمين العام للأمم المتحدة الذي تعهد بإقناع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بتخفيف العقوبات عن روسيا حتى تتمكن من تصدير الحبوب والأسمدة كما فعلت أوكرانيا.
عرض بوتين صفقة حبوب بديلة يرسل بموجبها مليون طن من الحبوب إلى تركيا بسعر مخفض، بدعم مالي من قطر، لتتم معالجتها في تركيا وإرسالها إلى البلدان الأكثر احتياجاً ومنها الدول الأفريقية، على أن تناقش التفاصيل الفنية لهذا المشروع لاحقاً، ما سيسمح ببدء عمليات التسليم في الفترة القريبة.
وفي حال الموافقة على تطبيق الخطة الروسية، ستحصل تركيا على المزيد من القمح الروسي، وتحافظ على دورها المهيمن في سلسلة توريد القمح إلى الخبز. ستحاول أنقرة التفاوض مع الدول الغربية في قمة مجموعة العشرين والجمعية العامة للأمم المتحدة من أجل تحقيق الشروط الروسية التي كانت موسكو طرحتها من أجل العودة إلى اتفاقية الحبوب.
العلاقة الاقتصادية لا تحجب القلق السياسي الروسي
لم تقتصر مواضيع اللقاء على صفقة الحبوب، وإن شكلت عنواناً لها. فالمواضيع الأساسية بالنسبة إلى الطرفين كانت استمرار العلاقة الاقتصادية التي عكسها حجم الوفد المرافق لإردوغان وضمّ وزير الخزانة والمالية محمد شيمشك، محافظ البنك المركزي حافظ جاي إركان ووزراء الدفاع، والخارجية، والطاقة، ما يؤشر إلى ضرورة إنجاح المفاوضات الاقتصادية لإقناع روسيا بدعم تركيا بشكل أكبر. اتفق إردوغان وبوتين على استخدام الليرة والروبل في التجارة بينهما. قيمة التبادلات التجارية بين أنقرة وموسكو مرتفعة، إذ يعتمد الاقتصاد التركي على الأسعار المخفضة التي يحصل عليها من الطاقة الروسية الرخيصة والحبوب الروسية والأوكرانية. لا يريد بوتين تقويض العلاقات مع تركيا فمصالحه التجارية معها أولوية، وهو يعي أهمية الاقتصاد في السياسة.
في مؤتمره الصحفي، أوضح بوتين أهمية مركز الطاقة الذي أقامته شركة "روساتوم" الروسية، التي توظف أكثر من 20 ألف تركي وروسي، ودخوله حيز التنفيذ العام المقبل. وتسعى كل من روسيا وتركيا لتوسيع التعاون مع انتهاء عقد شركة "غازبروم" الروسية لنقل الغاز عبر أوكرانيا نهاية عام 2024، ستتولى تركيا تصدير الغاز الروسي عن طريق الأنابيب من الجزء الأوروبي من روسيا، كذلك يمكن لمحطة الطاقة النووية التي تبنيها روسيا في تركيا أن تقلل من احتياج تركيا لواردات الطاقة، ما يمكنها من تحسين الميزان التجاري.
أثناء وجوده والوفد المرافق في سوتشي، أوعز إردوغان إلى معهد الإحصاء التركي نشر معدلات التضخم لشهر آب/أغسطس التي أظهرت معدل التضخم السنوي المرتفع بمقدار 11 نقطة خلال شهر واحد، للتأثير في المحادثات الاقتصادية مع روسيا. وجد المعلقون الاقتصاديون أن الأرقام واقعية، وتظهر الصورة المتشائمة للواقع الاقتصادي التركي، وتبرر محاولاتها التقرب من الغرب للاقتراض.
على الرغم من محاولات إنجاح التعاون الاقتصادي، لم تخف موسكو قلقها السياسي من تقلبات مصالح السياسة التركية واحتمالات الصراع مع روسيا، فالخلافات السياسية كثيرة، بدءاً من القوقاز بعد قيام نيكول باشينيان، رئيس وزراء أرمينيا، بالتحالف مع الغرب، ضارباً عرض الحائط التحالف الدفاعي مع روسيا، كذلك الخشية من محاولة أذربيجان إنشاء ممر إلى جيب ناخيتشيفان بالوسائل العسكرية، لتعزل في الوقت نفسه أرمينيا عن إيران بدعم من تركيا التي تمسك بأوراق مهمة في هذه المنطقة، مروراً بأوكرانيا ومحاولات الغرب إشراك تركيا بشكل أكبر في الحرب ضد روسيا، إذ عيّن زيلينسكي رستم عمروف من تتار القرم المعروف بعلاقاته مع تركيا وزيراً للدفاع، من أجل التأثير في توجهاتها القومية.
في حين لا تخفي أنقرة اهتمامها بدعم أوكرانيا، وهي التي لطالما عارضت جميع العمليات الكبرى التي قامت بها روسيا في جورجيا عام 2008، وفي أوكرانيا 2014، وسوريا 2015، وليبيا 2017 وتحالفت مع أذربيجان في حربها مع أرمينيا.
الفرصة اليوم متاحة مع العجز المالي والتدهور الاقتصادي الذي تعيشه تركيا، لكسب ودّ الغرب فهي تحتاج إلى الضخ المالي من الخارج، وتعتمد بشكل كبير على السوق الأوروبية ورأس المال الغربي.
كما أن سياسة البنك المركزي التركي في الإصلاح المالي ورفع سعر الفائدة، تندرج في تطبيق سياسات البنك الدولي، إذ حصلت تركيا في العام 2022 على قرض من البنك الدولي، كما حصلت على مليار دولار في إطار سعيها لإعادة تأهيل المناطق التي ضربها زلزال فبراير/شباط 2023.
التغيرات الجذرية التي تشهدها السياستان النقدية والمالية تمثل تغييراً في التوجهات الاقتصادية التركية، وهي بمنزلة تهيئة لمزيد من العلاقات بين تركيا والمؤسسات المالية الدولية. وسيكون لجوء تركيا للحصول على قرض من البنك الدولي مقدمة لعودتها إلى التعامل الوثيق مع الغرب، حيث يقوم الرئيس الأميركي جو بايدن بدعم طلب أنقرة لدى البنك الدولي.
وقد أكدت وكالة "بلومبرغ" أن محادثات متقدمة تجري لمضاعفة القروض لتركيا إلى 35 مليار دولار، للمساعدة على استقرار أكبر اقتصاد غير نفطي في الشرق الأوسط.
وقفت الأزمة الاقتصادية عائقاً في وجه طموحات تركيا العسكرية، وشكلت حافزاً للعودة إلى تصفير المشكلات مع الدول الإقليمية. لكن، هل ستتمكّن أنقرة في ظل هذه الأوضاع من موازنة علاقتها بين الغرب وروسيا؟