العلاقات السورية – السعودية المستجدّة: هل دخلت المنطقة عصرها الجديد؟
الرياض كانت قد اتّخذت قرارها بالمضيّ قدماً في العلاقة مع دمشق، وتفعيل هذا التواصل وفرضه على المستوى الرسميّ العربيّ.
في شهر أيّار/مايو من العام 2022، وفي مقابلة معه على إحدى القنوات الخليجية، أسهب رئيس الوزراء، وزير الخارجية القطري السابق، حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، في شرح الخطّة التي وضعتها الإدارة الأميركية قيد التنفيذ في العام 2011، والتي هدفت إلى إسقاط الدولة السورية ونظامها السياسيّ الحاكم، مركّزاً على القسط العربيّ من هذا التكليف الاستعماريّ والدور الذي أنيطَ ببعض الأنظمة العربية لهذا الغرض.
وقد سردَ ابن جاسم ببرودٍ شديد بعض جوانب السعيّ القطريّ – السعوديّ المحموم على هذ المسار، والذي أنتج تمويلاً وتسليحاً للعديد من الجماعات المناهضة للدولة السورية، التي راحت تفرّخ وتظهر كلّ يوم على امتداد الخريطة السورية حينذاك، كما أنتج نشاطاً إعلاميّاً مسعوراً كان له أبلغ الأثر في تشويه الواقع السياسيّ والاجتماعيّ السّوريّ أوّلاً، وتالياً في كلّ هذا الدمار والنزوح والتهجير والحصار الذي تختبره وتعانيه سوريا الدولة والشعب حتى اللحظة.
وبالنسبة للرياض على وجه الخصوص، فقد كان "جيش الإسلام" الذي نشط في مناطق حزام وريف العاصمة السوريّة وبساتين غوطة دمشق الشاسعة، هو الفصيل الأكثر قرباً ورعايةً وتسليحاً، والذي تمكّن خلال فترة وجيزة، نظراً لحجم التمويل والتسليح من تشكيل خطرٍ عسكريّ داهمٍ على العاصمة، إلى أنْ تمكّنت القوات المسلّحة السورية وحلفاؤها من قتل قائده "زهران علّوش" في كانون الأول/ديسمبر من العام 2015، ثم تفكيك وطرد من تبقّى من عناصر ومقاتليّ هذا "الجيش".
"جيش الإسلام" هذا أقام السجون التي ضمّت آلاف المُختطفين من المدنيين والعسكريين السوريين، وتسبّب في تدمير قرىً وبلدات في ريف العاصمة وتحويل الأرض التي تقوم فوقها غوطة دمشق (التي وُصفت على مدى أكثر من ألف سنة بأنها "جنّة الله على الأرض") إلى غابة من الأنفاق التي تُهدّد تلك الأرض بالخسف في أيّ لحظة. ناهيك عن قطع أعداد لا تُحصى من الأشجار المثمرة التي يبلغ عمر بعضها مئات السنين، وكلّ ما خلّفته تلك الأسلحة والقذائف من سموم قضت على خصوبة مساحات كبيرة من تلك الأرض التي بقيت خضراء لآلاف السنين.
وفي آذار/مارس الماضي، وفي مقابلة معه على إحدى القنوات الروسية لدى زيارته موسكو، قال الرئيس السوريّ بشار الأسد إنّ المملكة العربية السعودية لا تتدخّل في الشأن الدّاخليّ السوري منذ سنوات، ولا تُسهم في دعم أيّ من الجماعات الإرهابية الناشطة في البلاد.
وقد جاء هذا التصريح كفاتحة لبدء مرحلةٍ جديدة في العلاقة بين الجمهوريّة العربية السورية والمملكة العربية السعودية، وذلك بعد حراكٍ دبلوماسيّ وسياسيّ بدأ منذ العام 2018 بقيادة روسيّة، أفضى إلى تقدّم إماراتيّ باتّجاه دمشق، اتّخذ منحىً تصاعديّاً وعلنيّاً بعد الزلزال المدمّر الذي أصاب بعض مناطق سوريا في شباط/فبراير الماضي.
لتكرّ السبحة بعد ذلك، وتبدأ بعض الدول العربية بالتواصل العلنيّ مع دمشق، أو بإصدار مسؤوليها تصريحاتٍ تدعو إلى ضرورة بدء هذا التواصل. ولم تكن الرياض سبّاقة (في العلن) إلى هذا الأمر، بل بدت ظاهريّاً في موقع المتريّث، في الوقت الذي كانت الاجتماعات السريّة الأمنية بين الجانبين تنعقد في العاصمتين بشكل دوريّ ومتصاعد على مدى أشهر طويلة.
ثمّ اتضحت الصورة عندما توجّه وزير الخارجية السوريّ فيصل المقداد إلى الرياض بعد تصريح الرئيس السوريّ في موسكو بأسابيع قليلة، ليُجري مباحثات وُصفت بالإيجابية والمتقدّمة، لتعقد السعودية بعد ذلك بأيام اجتماعاً لوزراء خارجية دول "مجلس التعاون الخليجي" ومصر والأردن والعراق في مدينة جدّة، تحت عنوان بحث موضوع عودة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية، ودعوة الرئيس يشار الأسد إلى حضور القمّة العربية المزمع عقدها في العاصمة السعودية، الرياض، في شهر أيار/مايو المقبل.
صحيحٌ أنّ بيان اجتماع جدّة جاء عائماً وغائماً وقائماً على اللغة الدبلوماسية المعتادة مؤخّراً، بحيث لم يُعلن عن أيّ خطوات واضحة تكشف عن طريقة التعاطي الرسميّة الجديدة مع دمشق، بل لم يأت البيان على ذكر أيّ شيء واضحٍ عن مصير المقعد السوريّ في الجامعة، أو عن توافقٍ، أو عدمه، على دعوة سوريا إلى القمة العربية.
كذلك لم تخرج لغته تلك عن "المفردات الشَّرطية" التي تتناول ما يجب القيام به في مواضيع المهجّرين والنازحين، والأماني بوحدة الأراضي السورية وخروج جميع القوى الأجنبية التي تنشط في البلاد. لتخرج التحليلات والتسريبات حول رفض قطريّ قاطع وشروط مغربيّة، ثم عن "فيتو" مصريّ يمنع هذه العودة قبل تحقيق شروط سياسيّة معيّنة.
إلّا إنّ الرياض كانت قد اتّخذت قرارها بالمضيّ قدماً في العلاقة مع دمشق، وتفعيل هذا التواصل وفرضه على المستوى الرسميّ العربيّ. وقد اتّضح ذلك من خلال وصول وزير الخارجية السعوديّ، الأمير فيصل بن فرحان آل سعود، إلى دمشق يوم الثلاثاء 18 من هذا الشهر نيسان/أبريل، وعقده لقاءً مطوّلاً مع الرئيس السوريّ بشار الأسد، سلّمه خلاله دعوة رسميّةً لزيارة الرياض بعد عيد الفطر المقبل بعدة أيّام.
اللافت في زيارة وزير الخارجية السعودي، هو التصريحات المتبادلة التي صدرت عن الجانبين خلال الزيارة، حيث اللغة الجديدة بعد 12 عاماً من القطيعة، والتصريحات السعودية التي دأبت على مدى سنوات تؤكّد أنّ "الحلّ" في سوريا يبدأ من عند التغيير السياسيّ في دمشق، لا من أيّ مكان آخر.
فقد أكّد الوزير السعوديّ بعد لقائه الرئيس الأسد، وبعد أنْ أبلغه "تحيّات خادم الحرمين الشرفين، الملك سلمان بن عبد العزيز، ووليّ عهده" وتمنّياتهما للشعب السوري بالأمن والاستقرار والازدهار، أنّ المرحلة المقبلة تقتضي أنْ "تعود العلاقة بين سوريا وإخوتها من الدول العربية إلى حالتها السليمة"، وأنْ يعود الدور السوريّ عربيّاً وإقليميّاً أفضل مما كان عليه في السابق. وتأكيده دعم بلاده لكلّ ما من شأنه "الحفاظ على وحدة الأراضي السوريّة وأمنها واستقرارها، وتهيئة البيئة المناسبة لعودة اللاجئين والمهجّرين".
وفي المقابل، حمّل الرئيس السوري بشار الأسد، وزير الخارجية السعوديّ "تحياته لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، والأمير محمد بن سلمان، وليّ العهد ورئيس الوزراء"، مؤكّداً أنّ "الأخوّة التي تجمع العرب تبقى هي الأعمق والأكثر تعبيراً عن الروابط بين الدول العربية". كما أعرب الأسد عن أنّ "العلاقة السليمة بين سوريا والمملكة العربية السعودية، هي الحالة الطبيعية التي يجب أنْ تكون".
واعتبر الرئيس السوريّ أنّ هذه العلاقات السليمة تعكس مصلحة عربية وإقليميّة، لا مصلحة البلدين فقط، منوّهاً بـ "السياسات المنفتحة والواقعية التي تنتهجها السعودية" والتي تصبّ في مصلحة الدول العربية والمنطقة، بحسب تعبيره. كما لفت الأسد إلى التغيّرات التي يشهدها العالم في هذه المرحلة، ووجوب أنْ يستثمرها العرب لمصلحة تطوّرهم ونهضتهم، وأنّ ذلك لا يأتي سوى من خلال علاقات سليمة قائمة على التعاون الإيجابي بين مختلف البلدان العربية.
بين التاريخين، منذ بدء الخطة الأميركية – العربية في العام 2011، وتاريخ زيارة وزير الخارجية السعوديّ إلى دمشق، ثمّة حكاية طويلة ومريرة، لا يمكن سردها بأمانة تاريخيّة من دون اعتماد عنوان وحيد وواضح، هو: "انتصار دمشق".
فلا يمكن للأحداث التي شهدتها سوريا والمنطقة بين التاريخين، أنْ تبلغ هذا المنتهى والنتيجة لو أنّ السرديّة التي أخبرها حمد بن جاسم آل ثاني، وعرفها القاصي والداني دون حتى حاجة للسرد والحديث، اتّخذت مساراً آخر يعتمد على ضعف الدولة السوريّة، أو رفع دمشق الراية البيضاء أمام المشروع الأميركيّ الذي تصدّرت تلك الأنظمة العربية طليعته المقاتلة بكل شراسةٍ ممكنة.
إذاً، إنّ قتال سوريا وحلفائها في محور المقاومة على الأراضي السورية وعموم المنطقة من فلسطين إلى اليمن، مروراً بالعراق ولبنان، وتقديمهم تضحيات جسيمة وغير مسبوقة في التاريخ الحديث، وتحقيقهم نتائج عظيمة على طريق التحرّر من الهيمنة الغربية وسطوة الاحتلال العسكريّ والاقتصاديّ، هو ما أفضى إلى هذا الحراك السياسيّ الذي تشهده المنطقة الآن، والذي يقوم على تغيير بعض الحكومات العربية لسياساتها السابقة، وليس أيّ أمرٍ آخر، وهذا ما يجب أنْ يكون معلوماً للأجيال الحالية واللاحقة.
من المتوقّع أنْ يقوم الرئيس السوريّ بشار الأسد، بزيارة إلى العاصمة السعودية الرياض خلال الأسابيع القليلة المقبلة، وستكون تلك الزيارة بمثابة تتويج نهائيّ للمرحلة الجديدة التي دخلتها المنطقة هذا العام، والتي كان للسعودية الدور الأبرز فيها بعد صلحها، الذي رعته بغداد وأخرجته بكّين، مع طهران، واعتماد أميرها ولي العهد محمد بن سلمان رؤية جديدة تقوم على أنّ مشاريعه الاقتصادية والسياسية التي وضعها على الورق منذ سنوات، لا يمكن الشروع فيها والعمل عليها من دون "تصفير" المشاكل السياسية مع دول الإقليم.
وفي هذا الوقت، يتابع رأس الدبلوماسية السورية، وزير الخارجية فيصل المقداد، جولاته في المنطقة العربية، مدشّناً تلك المرحلة من الجانب السوريّ، والتي تعتمد من جهتها على رؤية الرئيس الأسد، والتي تقوم على وجوب "ترتيب العلاقات الثنائية مع الدول العربية"، من دون التفاتٍ كبير إلى موضوع مقعد سوريا في الجامعة العربية، ومن المؤكّد أنّ السياسة السورية قد حقّقت نجاحاً كبيراً على هذا المسار، وهي بصدد تحقيق نجاحات أكبر خلال المرحلة القريبة المقبلة.
هذا وينقسم السوريون في الدّاخل بين مرحّب وسعيد بهذه المرحلة الجديدة التي يأملون أنْ تأتي بالخير لبلادهم، وأنْ تُنهي زمناً عصيباً من الحرب والحصار الخانق، وتفتح الأفق أمام إعادة الإعمار وعودة والمهجّرين ووضع عجلة الاقتصاد على سكّة العمل والنشاط. وبين مشكّك وحذرٍ ومُحذّرٍ من بدء مشروع أميركيّ جديد ومختلف في شكله وأدواته، يعتمد على الحكومات العربية ذاتها، بعد فشل المشروع العسكريّ وبلوغه نتائج معاكسة لأهداف واضعيه والقائمين عليه.
ويعتمد هذا الرأي على تاريخ الخطط الأميركية لسوريا والمنطقة، وشكل العلاقة مع الدول العربية الحليفة لواشنطن، والتي يمكن لها أنْ تنقلب إلى الضدّ في لحظة واحدة، بمجرّد أنْ يصل الأمر الأميركيّ.