الصين والخليج ومزيد من التشبيك
يبني الخليج، من دون تردُّد، علاقته بالصين التي ستصبح أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2030. وهنا يبدو أن الخليج يستثمر في أهميته، جغرافياً واقتصادياً٬ كأكبر الدول المنتجة للنفط٬ والمطلة على ممرات دولية مهمة.
بينما تُدير الولايات المتحدة ظهرها للشرق الأوسط والخليج، وتعلن الانسحاب التدريجي من المنطقة٬ يستدير التنين الصيني نحوهما٬ ولِمَ لا! هي لعبة السياسة والمصالح، وفيها تكمن المفارقات الغريبة الأطوار، في ظل ما يُحكى عنه بشأن إعادة التوازنات الإقليمية والدولية، وإعادة التموضع، ورسم خريطة النفوذ والمصالح من جديد.
من هذه المفارقات التلاقي والافتراق الخليجيان الأميركيان حول الصين. في النقطة يستدير الحليفان نحو آسيا، وفي النقطة ذاتها يفترقان في الأهداف٬ بحيث تذهب واشنطن إلى مواجهة ما تسميه تنامي النفوذ الصيني في العالم والشرق الآسيوي، بينما يشقّ الخليجيون طريقهم نحو هذا الشرق بهدف مزيد من التشبيك، وفتح العلاقات والأبواب للتعاون مع خلفاء ماو تسي تونغ.
الزيارة الأخيرة التي قام بها وزراء خارجية السعودية والكويت وسلطنة عُمان والبحرين للصين، بدعوة من وزير الخارجية الصيني وانغ يي، تطرح عدداً من التساؤلات بشأن الظروف المحيطة بهذه الزيارة وأهميتها، وما تعطيه من مؤشّرات على مستقبل العلاقات الخليجية الصينية من جهة٬ وتحدّي تحقيق توازن في العلاقة بين خصمين في منطقة تُعَدّ من المناطق الأكثر استقراراً سياسياً واقتصادياً في محيط ملتهب.
في الحقيقة، تأتي هذه الزيارة وسط ظروف متداخلة متعدّدة، على رأسها الارتفاع الكبير في أسعار النفط في إثر الأحداث في كازاخستان، وهي أكبر دولة منتجة للنفط في آسيا الوسطى. وعلى اعتبار أن الصين هي أكبر مستورد للنفط في العالم، فإن الأحداث في كازاخستان أثارت قلق الصين بشأن تأمين إمداداتها من النفط. ومن الجانب الخليجي، تأتي هذه الزيارة في ظلّ استمرار البرود في العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية والخليج، وتحديداً السعودية٬ وتصاعُد المخاوف الخليجية بشأن الانسحاب الأميركي من المنطقة، وتراجُع الثقة تجاه جدية الأميركيين في المحافظة على أمن الدول الخليجية، إذ يبدو جلياً أن الدول الخليجية بدأت تتخذ خطوات في التشبيك السياسي، وعدم الاعتماد على المظلة الأميركية وحدها، نتيجة القناعة بأن أحادية القطب انتهت، وأن العالم متجه نحو تعددية الأقطاب.
وهنا يبدو أن الخليج يستثمر في أهميته، جغرافياً واقتصادياً٬ كأكبر الدول المنتجة للنفط٬ والمطلة على ممرات دولية مهمة. ولا يمكن أن ننسى أنه يربط بين آسيا وأوروبا وأفريقيا، وهو موقع لطالما كان محط تنافس القوى الكبرى منذ بدايات القرن الخامس عشر٬ الأمر الذي يجعله حاضراً بقوة موقعه وثروته ضمن مشروع "الحزام والطريق" الصيني.
يبني الخليج، من دون تردُّد، علاقته بالصين التي ستصبح أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2030، بحسب ما جاء في صحيفة "صنداي تايمز" البريطانية. كما يرد في مقال نشره موقع "المونيتور"، أنه يمكن أن تكون الدول الخليجية في وضع مهم للاستفادة من "الحرب الباردة" المشتعلة بين أكبر اقتصادين في العالم.
وما لا يعرفه كثيرون أن الخليج قد يبدو تقليدياً٬ لكنه في الحقيقة براغماتي للغاية. وهذا ما يُثبته تاريخه الطويل في التعاطي مع المتغيِّرات. وليس مستغرَباً أن يفتح أبواب العلاقة بالصين على مصراعيها.
وبالعودة إلى الوراء، يمكن القول إن انتقال العلاقة إلى مرحلة الشراكة بدأت فعليا عام 2017، في إثر زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز للصين٬ إذ باتت الأخيرة من أبرز مستوردي النفط من الخليج. وبحسب التقارير الأخيرة، فإن بكين استثمرت أكثر من 50 مليار دولار في دول الخليج، بين عامي 2016 و2020 وذلك ضمن مبادرة "الحزام والطريق"، في إطار تعزيز شبكة البنية التحتية الصينية، التي تربط آسيا بأفريقيا وأوروبا.
وعلى الرغم من أن بكين كانت وعدت الخليجيين بمضاعفة التبادلات التجارية بحلول عام 2023، فإن الظروف والمتغيِّرات، كما يبدو، سرّعت وتيرة التعاون والتفاوض، ليصل النقاش إلى الحديث عن اتفاقية للتجارة الحرة، وهذا ما سينقل العلاقة إلى مستويات أكبر وأبعد، سياسياً واقتصادياً وتكنولوجياً.
شراكة وتعاون تسودهما أجواء من الراحة والثقة أكثر من العلاقة بالولايات المتحدة الأميركية. يقول الخليجيون إن الصين لا تتدخّل في الشؤون الداخلية للدول، كما تفعل واشنطن، وتحديداً في مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان، أو تغيير الأنظمة بالقوة٬ وأن العلاقة قائمة على مبدأ المنفعة المتبادلة والشراكة٬ بينما يهمس آخرون بأن الخليج لم يعد رهن الاستنزاف الأميركي او عرضة للابتزاز، وأن تشبيك العلاقات بات أكثر مواءمة من الاعتماد على حليف واحد.
وكأن لسان حال الخليجيين يقول إنه حان الوقت لمغادرة منطقتَي الابتزاز والاستنزاف الأميركيتين، إلى منطقة المنفعة المتبادلة، وبناء شراكات جديدة.
فهل يستدير الخليج نحو الصين ويُدير ظهره لواشنطن؟ في الحقيقة، يريد الخليج توسيع تحالفاته، وليس التخلي عن تحالفه مع واشنطن. لكنّ تحقيق هذا التوازن لا يبدو هيّناً. ويمكن ضرب المثال بالموقف الإماراتي الأخير، عندما أبلغت أبو ظبي إلى الولايات المتحدة أنها ستعلّق المناقشات الخاصة بشراء طائرات "أف – 35". وفي جوهر الخلاف كانت الصين٬ إذ ما فتئت واشنطن تضغط على أبو ظبي من أجل إنهاء تعاملها مع شركة "هواوي" الصينية، وذلك خوفاً من وجودها في شبكات الاتصال الإماراتية٬ وما قد يمثّل ذلك من "خطر أمني" على أنظمة الأسلحة الأميركية.
مساعدة وزير الخارجية الأميركي للأمن الإقليمي، قالت لشبكة CNN حينها، إن "أف – "35" هي درة التاج للولايات المتحدة ولسلاح الجو الأميركي. لذلك، "نحتاج الى التأكد من حماية أمن التكنولوجيا لدى جميع حلفائنا".
فهل يصبح الخليج محاصَراً عبر "حرب باردة جديدة" بين بكين وواشنطن٬ وكيف سيتعامل مع الأمر؟ يقول الباحث السعودي، الدكتور علي الخشيبان، في مقابلة له عبر تلفزيون "الشرق"، إن الصين لا تسعى لتحالف عسكري، وتريد أن يكون الخليج منطقة حيادية. وعلى الولايات المتحدة أن تقبل ذلك، لأنها تقول إنها ستنسحب من المنطقة، وهذا ما يدفع الدول الخليجية إلى البحث عن بدائل أو فرص من أجل مدّ جسور التعاون مع الصين ودول أخرى.
ويضيف أن الوجود الصيني حَذِر، وهو محدود في مشروع "الحزام والطريق"٬ كما أن الصين ستكون في عام 2030 الأولى عالمياً، على مستوى الاقتصاد، والخليج لن يضيّع الفرصة في أن يكون الشريك الأول لبكين.
على الرغم من أهمية ما يقوله الدكتور الخشيبان، فإن السؤال بشأن الكيفية التي سيتعامل وفقاً لها الخليج بين متناقضين، ما زال قائماً، وبلا إجابة. لكنّ ما لا شك فيه أن التوازنات في منطقة الخليج تبدو قد تغيّرت من شرقه وغربه، فإيران حسمت أمرها في التوجه شرقاً عبر توقيع اتفاق شامل لمدة ربع قرن مع بكين. والخليج، خصم إيران، يتّجه هو الآخر شرقاً، نحو شراكة استراتيجية شاملة، والبحث عن بدائل في حال انسحاب الأميركي من المنطقة. فهل تصبح الصين اللاعب الأكبر والأول في الخليج، أَمْ يصبح منطقة نزاع صيني أميركي؟ الله أعلم!