الصين - أفريقيا: مقاربة جيوستراتيجية
أفريقيا بالنسبة إلى الصين هي المكنونات الهائلة من الطاقة والمعادن والموارد الثمينة والنادرة والمتنوعة التي لا غنى للصين واقتصادها عنها، وهي أيضاً المعابر والطرق والإطلالات الحيوية على المحيطات والبحار.
لا يخوض هذا المقال في البعد الاقتصادي للعلاقات الأفريقية-الصينية، كما هو رائج في جلّ ما يكتب حولها، بقدر ما ينشد مقاربتها على نحو يستكشف الدوافع الجيوستراتيجية التي تحفّزها، وتستحثّ حرص طرفيها على الذهاب أبعد في مسار تعاونهما في إطار "المنتدى الصيني-الأفريقي للتعاون" (FOCAC) الذي اختتم قمته التاسعة في السادس من أيلول/سبتمبر 2024 الجاري. وممّا يستدعي أيضاً القراءة الجيوستراتيجية لهذه العلاقات إعلان الرئيس شي جين بينغ نية بلاده الارتقاء بتعاونها مع كلّ شركائها الأفارقة إلى مصفّ الشراكة الاستراتيجية مع إعطائها بعداً عسكرياً وأمنياً، أمر مستجدّ لم يؤلف في العلاقات الأفريقية-الصينية سابقاً.
من أجل هذا، خصّصت بيكين مبلغ 360 مليار يوان (50.7 مليار دولار) لتوطيد علاقاتها مع القارة السمراء على مدى السنوات الثلاث المقبلة؛ 210 مليارات في شكل خطوط ائتمان، 80 مليار يوان تمنح في شكل مساعدات مختلفة، وما لا يقل عن 70 مليار يوان تستثمرها الشركات الصينية في القارّة، ناهيك بإلغاء نسبي لديون بعض الدول الأفريقية.
عسكرياً، وفي ما يعدّ بعداً جديداً من أبعاد شراكتها مع أفريقيا، أبدت بكين استعدادها لتدريب 6000 جندي أفريقي و1000 من رجال الشرطة وضباط إنفاذ القانون، مع دعوة 500 ضابط عسكري أفريقي شاب لزيارة الصين، معلنة في السياق ذاته اتفاقها المبدئي مع بعض الدول الأفريقية على تنظيم مناورات وتدريبات ودوريات عسكرية مشتركة مع إطلاق مبادرة "من أجل أفريقيا خالية من الألغام".
لا شكّ أنّ ظاهر ضخّ هذه المبالغ الضخمة في مسارات التعاون الأفريقي-الصيني، ومدّها نحو المجالين الأمني والعسكري هو توطيد التعاون السابق بين الطرفين في مجالات الزراعة والصناعة والمناجم والتنمية الريفية والبنى التحتية للنقل والاتصال، فضلاً عن التعليم والثقافة، وهو تعاون وُضع حجر أساسه بداية الألفية، لكنه في باطنه ليس إلا حتمية من الحتميات التي يمليها التنافس الجيوستراتيجي بين الصين والولايات المتحدة الأميركية، والغرب عموماً، على "المسرح" الأفريقي الذي يختزن حوافز مغرية لكلّ قوّة عظمى تصبو إلى زيادة قوتها في المستقبل.
ولا ينطبق هذا التحليل على محفّزات الاهتمام الصيني بالقارة الأفريقية فحسب، بل ينطبق على كل القوى الطامحة إلى زيادة حصصها من الموارد التي تغذي آلتها الاقتصادية الضخمة ونفقاتها العسكرية على نحو يضمن بقاءها طرفاً دائماً في لعبة التنافس الدولي على القوّة، ويسمح لها بملاحقة أحلامها اللامتناهية في التفوّق التي طالما شكّلت دوافع للغزو والحرب. بمعنى آخر، حتى وإن افترضنا جدلاً أنّ الصين لا تسعى إلى التفوّق العالمي، فإنّ حجم ما وصلت إليه من تقدّم هائل في شتى المجالات بات يحتّم عليها الانخراط في هذه اللعبة الجيوستراتيجية من دون توقّف.
ذلكم ما يفسّر مبدئياً مدّ الشراكة الصينية مع الدول الأفريقية نحو المجالات العسكرية والأمنية، فالبادي أنّ إدراكاً تكوّن لدى صانع القرار الصيني، من منطلق التنافس مع الغرب على المسرح الأفريقي، بوجوب عدم ترك ميزة تفاضلية لشراكة الغرب مع الأفارقة تمنحه التفوّق على شراكة الصين معهم، فما كان من الأخيرة إلا أن قدمت عرضاً جديداً ينطوي على عروض عسكرية وأمنية، ستتطور مستقبلاً حتماً، لخلق الانطباع لدى شركائها الأفارقة بأنّ الشراكة مع الصين تمنحهم كلّ شيء وتوفـّر لهم أبدالاً في كل القطاعات تناسب حاجاتهم وتطلعاتهم، فتصبح حاجتهم إلى الغرب - استتباعاً- أقل إلحاحاً وتمنح الصين نقاطاً إضافية في مباراتها الجيوستراتيجية ضدّ الغرب في أفريقيا.
هكذا إذاً، ومن منطلق هذا التفكير الجيوستراتيجي، وفي خضم المناكفات الجيوسياسية المحمومة على القارّة الأفريقية التي كثيراً ما توحي باحتمال تحوّلها إلى صراع، باعتبار ثقلها الذي لا يقبل التعويض في معادلات الموارد والقوّة العالمية، حاضراً ومستقبلاً، تدرك الصين جيداً أنّ تحصين مكانتها في ميزان القوّة العالمي، وتعزيزها، والحفاظ على الوتيرة المذهلة لنموها الاقتصادي الآن وفي المستقبل هي أهداف لا يمكن أن تتحقّق إلا عبر شراكات استراتيجية مستقرّة مع الدول الأفريقية تضمن لها حصصاً إضافية من مصادر القوّة.
فبناتج محلي خام (GDP) بلغ 17794.78 مليار دولار عام 2023 بما يشكل 16.88 من الحجم الكلي للاقتصاد العالمي وفقاً لأرقام البنك العالمي، لا شكّ أنّ الخط البياني لحوائج الصين من الموارد الطبيعية والاستثمار والأسواق سيواصل صعوده، وبقدر ما ستجعلها شديدة التركيز على توسيع دائرة شراكاتها وفضاءات استثمارها بقدر ما ستمتّن حرصها على توطيد وتوسيع شراكاتها مع أصدقائها التقليديين مثلما رأيناه في مخرجات القمّة التاسعة للمنتدى الصيني-الأفريقي للتعاون.
إنّ أفريقيا بالنسبة إلى الصين، تبعاً للتصوّر السابق، هي المكنونات الهائلة من الطاقة والمعادن والموارد الثمينة والنادرة والمتنوعة التي لا غنى للصين واقتصادها عنها، وهي أيضاً المعابر والطرق والإطلالات الحيوية على المحيطات والبحار التي تشكل شرياناً لتجارة الصين مع العالم، وهي السوق الواعدة والبيئة البكر للاستثمار. وهي علاوة على هذا وذاك، مستقبل العالم.
لكنّ محدداً آخر يفرض نفسه بقوة لقراءة هذا النهج الصيني التدرجي في تعميق الشراكة مع القارة الأفريقية، إنه الحرص على تقديم نموذج للشراكة ينشد البرهنة على فرضية أنّ النمو لا يحتاج لا إلى غزو ولا إلى إقصاء الطرف الآخر من معادلة الأرباح والمكاسب.
إنّ هذه الفكرة تحديداً هي ما تحرص الدبلوماسية الصينية على الامتثال له كي تبعد عن نفسها شبح كل تشبيه مضلّل بالنهج الغربي في التعامل مع أفريقيا -و"الجنوب العالمي" (Global South) عموماً-الملطخ بتجارب الاستعمار الوحشية ومعاني الاستغلال والنهب والسطو على الشعوب الملازمة له، والذي سبق للصين أن عانت منه في تاريخها المثقل بالكفاح ضدّ الاستعمار. فالصين من هذا المنطلق موضوعة أمام تحديين كبيرين جدّاً: تحد ألا ترتكب ما يتعارض مع التاريخ النضالي لشعبها أوّلاً، وتحدي عدم الوقوع في خطيئات الغرب التاريخية التي قد تضع الصين في خانة الاستعمار في المخيال الأفريقي.. ثانياً.
وعليه، فإنّ الصين وإن كانت مجبرة على توخّي أقصى درجات الحذر، وعدم ترك أيّ منافذ محتملة لغرمائها يخترقون عبرها علاقاتها الودية التي ما فتئت تتوثّق مع القارة الأفريقية، فإنها في المقابل، واعية بحتمية عدم الانجرار إلى فخّ الهيمنة والنهج الغربي لبسط النفوذ القائم على فكرة التوسّع التي تفوق تكاليفها في المدى البعيد الفوائد التي تـُجنى من ورائها في المديات القريبة والمتوسّطة.
والحقّ أن إلحاح الصين على احترام هذه المعاني يُرى في مبادراتها الكبرى الفريدة من نوعها التي أطلقتها نحو العالم وأفريقيا، وعلى رأسها "مبادرة الحزام والطريق" التي أبدع العقل الصيني حين بنى محاورها بناءً مشتركاً على نحو يضمن استجابة مثلى لحاجيات الدول الأفريقية وأولوياتها، ولا سيما الأجندة الأفريقية للتنمية 2063. وممّا يؤكّد نجاعة أسلوب الصين في هندسة الشراكة مع أفريقيا إجماع الدول الأفريقية والتفافها كاملة حول المبادرة عبر توقيع مذكرات تفاهم معها تستهدف تجسيد هذه المبادرة الطموحة وغير المسبوقة.
من المؤكد أنّ هذا الإجماع لم يكن ليكون لولا أنّ الدول الأفريقية رأت في المبادرة تجسيداً حقيقياً وحرفياً لقيم الشراكة المتوازنة والنفع المتقاسم والاحترام المتبادل، فضلاً عن انطلاقها من مبدأ المساواة السيادية بين الدول وابتعادها عن منطق المساومات السياسية والمقايضات المستفزة مقابل نيل الدعم التنموي، وهو ما عانت وتعاني منه دول القارة السمراء في تعامل الغرب معها.
في المحصلة، حتى وإن كانت الدوافع الجيوستراتيجية المتحكمة في شراكة الصين مع أفريقيا، وهي دوافع مشروعة كثيراً ما تأخذ شكل حتميات تفرضها بنية الفوضى الدولية القائمة على التنافس والصراع ومناكفة الغرب في مناطق نفوذه التقليدية، تشكل مداخل مفصلية لا يـُستغنى عنها في كل سعي إلى فهم العلاقات الأفريقية-الصينية، إلا أنها لم تحل دون الحفاظ على الطابع الخاص والمميّز للسياسة الصينية حيال القارة السمراء التي تتوخى تقديم عروض شراكة منسجمة مع الإرث التاريخي المشترك بين أفريقيا والصين الزاخر بقيم مناهضة الهيمنة والاستعمار والطامح إلى تعددية قطبية حقيقية تضمن حقوق الشعوب الأفريقية في التنمية والكرامة، وترفع الظلم والغبن التاريخيين اللذين لا يزالان ملازمين لها إلى غاية الآن.