الصهيونية الدينية من الهامش إلى مركز القرار الإسرائيلي (1)
بدأ بروز الصهيونية الدينية مع الحاخام أبراهام كوك، الذي أنتج فكرة المزاوجة بين الدين اليهودي كتعاليم شرعية والصهيونية كفكرة علمانية في الأساس.
أبرزت انتخابات الكنيست الإسرائيلي 2022 انتقال تيار "الصهيونية الدينية" من هامش المشروع الصهيوني إلى مركز صنع القرار السياسي في الحكومة الإسرائيلية المرتقبة، وبات أكثر قوة وحضوراً في القضايا الصهيونية الكبرى.
بالتأكيد، لم يأتِ هذا الأمر مصادفةً، ولم يكن نتاج شخصية إيتمار بن غفير وحده، الذي دمج بين الفاشية الدينية الصهيونية وغوغائية الحضور الإعلامي الكثيف، وخصوصاً بين جيل الشباب الصهيوني الأكثر تطرفاً من ذي قبل في مواقع التواصل الاجتماعي.
لقد مرَّ صعود تيار الصهيونية الدينية بسياقات تاريخية طويلة، مستفيداً من التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المجتمع، ومن النظام السياسي وطبيعة الاقتصاد الإسرائيلي، ما منحه تأثيراً أكثر من ذي قبل، وجعله ذا شعبية كبيرة في الشارع الصهيوني، الأمر الذي أشار إليه حصوله على أكثر من نصف مليون صوت في انتخابات الكنيست، إضافةً إلى أن 20% من جنود "الجيش" الإسرائيلي صوتوا لهذا التيار الديني الصهيوني، ما يدلّل على تغلغله العميق في أوساط "الجيش" الإسرائيلي.
نشأت الفكرة الصهيونية كفكرة علمانية متأثرة بالأفكار القومية التي برزت في أواخر القرن الثامن عشر في أوروبا، مستخدمةً المخيال التوراتي اليهودي في صناعة عناصر القومية الصهيونية المفقودة في واقع الأمر، بمعنى استخدام الفكرة القومية العلمانية للدين اليهودي كأداة في صنع الهوية الجامعة لليهود، لأن مؤسس الصهيونية ثيودور هرتزل وبقية الآباء المؤسسين للصهيونية لم يجدوا جامعاً لشتات اليهود في أصقاع الأرض إلا التوراة، فاستخدموها أداةً بيد المشروع الصهيوني، لا جوهراً له، وهذا فعلياً أساس فكرة الصهيونية الحقيقية.
بدأ بروز الصهيونية الدينية مع الحاخام أبراهام كوك، الذي أنتج فكرة المزاوجة بين الدين اليهودي كتعاليم شرعية والصهيونية كفكرة علمانية بالأساس، إذ كسر المعتقد الرائج عند اليهود الأرثوذكسيين "الحريديم" بأن الدولة صناعة إلهية على يد "المخلص" فقط، وبالتالي أي محاولة لإقامة الدولة بالفعل البشري تعتبر كفراً لا يمكن التعامل معه، فأتى الحاخام كوك الأب، ومن بعده الابن، تسفي كوك، الَّذي اعتبر أن قيام الدولة وقوتها بالفعل البشري يساعدان "المخلص" "يهوه" في إقامة دولة اليهود الربانية، مدعياً أن هؤلاء الصهاينة العلمانيين هم أداة الربّ لتحقيق الخلاص وتقريب مجيء "المخلص" من خلال تجديد الاستيطان في "أرض إسرائيل"، وأن أفعال هؤلاء العلمانيين موجّهة من الرب، رغم عدم معرفتهم بذلك.
وبالتالي، أصبحت "الدولة" أداة مقدسة، وخصوصاً "الجيش" الذي بات أعلى قيمة مقدسة، لكونه يمثل القوة الأساسية لتحقيق أهم مرتكزين فكريين لدى الصهيونية الدينية، وهما "الشعب المختار" و"أرض الميعاد".
من هنا، نبع التلاقي بين الصهيونية الدينية وجوهر المشروع الصهيوني العلماني المعتمد على المفهومين نفسهما، لكنَّ الأخطر أن الصهيونية الدينية لم تعد تنظر إلى "الدولة والجيش" والاستيطان كقيم قومية أو جزء من مرتكزات الأمن القومي الصهيوني، بل اعتبرتها أدوات مقدسة، لكونها تساهم في تحقيق الهدف المقدس الأهم يهودياً، وهو إقامة دولة اليهود الربانية على يد "المخلص"، معارضةً بذلك الأرثوذكسية الصهيونية الحريديم، الداعية إلى الاعتماد على "المخلص" كي يقود اليهود صوب فلسطين من أجل إقامة "مملكة إسرائيل" من دون أي فعل سياسي من اليهود أنفسهم.
بدأ نشاط "الصهيونية الدينية" السياسي مبكراً مع تأسيس حركة "مزراحي" عام 1902 كحركة دينية صهيونية تدعو للعمل من أجل تحقيق السيادة اليهودية وإقامة "إسرائيل" (من دون انتظار ظهور المخلص).
ومع إنشاء "إسرائيل" عام 1948، استمرت المشاركة السياسية للصهيونية الدينية تحت مسمى حزبي "مزراحي" و"هبوعيل مزراحي"، اللذين تأسسا في فترة الييشوف قبل قيام "إسرائيل"، حتى تم توحيدهما في الحزب الديني القومي "المفدال"، الذي شارك في الكثير من الحكومات الإسرائيلية، لكن من دون تأثيرات مركزية في صنع القرار السياسي والأمني للكيان الإسرائيلي.
يعدّ احتلال "الجيش" الإسرائيلي للضفة الغربية والقدس بعد هزيمة عام 1967 من أهم العوامل الداعمة للصهيونية الدينية، من خلال الآتي:
أولاً، التأكيد على مفهوم أرض "إسرائيل" الكبرى، لكن بالمفهوم التوراتي الديني، إذ نتج من الحرب الاستيلاء على حائط البراق (حائط المبكى بالمسمى الإسرائيلي) وغيره من الأماكن المقدسة الواردة في التوراة، فجميع الأماكن الدينية المذكورة في التوراة تقع في الأراضي المحتلة عام 1967، الأمر الَّذي بات ينظر إليه كدليل على مصداقية أفكار الحاخام كوك بأنَّ هؤلاء العلمانيين أداة يستخدمها الرب من أجل إقامة "دولة اليهود".
ثانياً، تغيرت نظرة المتدينين الصهاينة إلى "الجيش" الإسرائيلي في أعقاب الحرب وما نتج منها من احتلال مدينة القدس، إذ بدأت بعض الأوساط داخل تيار الصهيونية الدينية بتسمية الجيش باسم "جيش الله"، ما ساهم في تعزيز التوجه نحو خدمة المتدينين فيه، الأمر الذي أدى إلى ظهور برنامج عُرف باسم "يشيفوت هسدر"، بمعنى مدارس التهيئة التحضيرية، وهي منهج دراسي يجمع بين الدراسات التلمودية والخدمة العسكرية، هدفها تأهيل الشباب المتدين للخدمة في "الجيش" الإسرائيلي، الأمر الذي وجد ترحيباً كبيراً في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية والصهيونية الرسمية، ولكنها أيضاً ساهمت في زيادة عدد المتدينين الصهاينة داخل "الجيش" الإسرائيلي. ويكفي أن نعلم أن 85% من خريجي المدارس التحضيرية يذهبون إلى الوحدات القتالية، و30% منهم يصبحون ضباطاً في "الجيش" الإسرائيلي.
ثالثاً، احتلال الضفة الغربية ومدينة القدس ساهم في تعزيز الاستيطان اليهودي في تلك المناطق. ورغم أن منطلقات الصهيونية الدينية تلمودية بحتة، لكنها وجدت دعماً وتشجيعاً من الدولة، لكونها تصب في نهاية المطاف في خدمة الاستيطان. وهنا، برز دور مؤسسة "غوش إيمونيم" التي تعني "جبهة العقيدة"، والتي مثلت رأس حربة المستوطنات في الضفة الغربية.
هذه العوامل منحت "الصهيونية الدينية" الأدوات السياسية والاقتصادية لمزيد من التقدم نحو مركز صنع القرار في "إسرائيل"، ولكنها كانت تنتظر نقطة تحول سياسية كبرى تستطيع من خلالها استثمار قوتها في الحلبة السياسية الإسرائيلية، الأمر الذي تأتى لها من خلال الانقلاب السياسي الكبير عام 1977، الذي أنهى هيمنة حزب "العمل" (مباي) على مركز القرار السياسي، وظهور الليكود اليميني كقوة حاكمة جديدة فتحت الباب أمام المزيد من التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية أمام الصهيونية الدينية، وهو ما سنتناوله في الجزء الثاني.