السياسة التركية.. بين البيع والشراء فما هي التسعيرة؟
يتعرض كليجدار أوغلو لانتقادات عنيفة من أوساط المعارضة، التي تحمّله مسؤولية الخسارة في الانتخابات الأخيرة، وكانت السبب في تمزق تحالف الأمة.
فوجئ الجميع، بل صُدم، بتصريحات عبد اللطيف شنار، عضو البرلمان السابق عن حزب الشعب الجمهوري، بحيث قال إنه "لم يصوّت في الانتخابات الأخيرة لمصلحة زعيم الحزب كمال كليجدار أوغلو"، وتبيّن لاحقاً أنه صوّت لإردوغان.
فمن هو شنار؟
عبد اللطيف شنار واحد من الأربعة الذين أسسوا حزب العدالة والتنمية، وهم، بالإضافة إليه، إردوغان وعبد الله غول وبولنت أرينج، الذي أصبح فيما بعدُ رئيساً للبرلمان. وشغل شنار منصب نائب رئيس الوزراء ووزير المالية في حكومتي غول وإردوغان حتى عام 2007، بحيث قدم استقالته من الحكومة بعد أن اتهم إردوغان بالفساد في إحدى عمليات الخصخصة عندما قرر بيع مرفأ مهم في إسطنبول لشركة يمتلكها يهود. واتخذ شنار، الذي شغل منصب وزير المالية في حكومة الراحل نجم الدين أربكان، أيضاً موقفاً معارضاً لسياسات إردوغان، بحيث أسّس في أيار/مايو 2009 حزب تركيا، من دون أن يحالفه الحظ في تحقيق أي نجاحات، إلى أن قرر إغلاق الحزب في آب/أغسطس 2012، ثم انضم بعد ذلك إلى حزب الشعب الجمهوري عام 2018، ودخل البرلمان عن لوائح هذا الحزب، الذي أراد آنذاك أن ينفتح على الأوساط الدينية والقومية والمحافظة. وساهم شنار في جميع فعاليات حزب الشعب الجمهوري وأنشطته، وكان مقرَّباً إلى زعيمه كمال كليجدار أوغلو، ودافع عنه دفاعاً مستميتاً كلما تعرَّض لهجوم من إردوغان ووزرائه وإعلامه فيما يتعلق بالشؤون الداخلية والخارجية، وأهمها سوريا، بحيث اتّهم شنار، أكثر من مرة إردوغان، بـ"دعم الجماعات الإرهابية، بالتنسيق والتعاون مع الدول والقوى الإمبريالية وإسرائيل وأنظمة الخليج".
تصريحات شنار وعدم تصويته لكليجدار أوغلو في الانتخابات الأخيرة قيل إنها جاءت ردَّ فعل على عدم ترشيحه لعضوية البرلمان من جديد في الانتخابات الأخيرة، في الوقت، الذي يتوقع بعض الأوساط لشنار أن يعود إلى حزبه الأول، أي العدالة والتنمية، مع استمرار مساعي الوساطة بينه وبين الرئيس إردوغان.
وتتحدث أوساط أخرى عن مساعٍ خفية لتحقيق المصالحة بين إردوغان وكل من رئيس وزرائه السابق أحمد داود أوغلو، زعيم حزب المستقبل ووزير اقتصاده السابق علي باباجان، زعيم حزب الديمقراطية والتقدم، والمتوقع لهما أن يوحّدا الحزبين قبل العودة إلى العدالة والتنمية قبل الانتخابات البلدية في آذار/مارس المقبل، أو بعدها. ويبدو واضحاً أن تركيا، قبل هذا التاريخ، ستشهد كثيراً من الأحداث والتطورات المثيرة، أهمها تمرّد رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو على زعيمه كمال كليجدار أوغلو، حيث أعلن إمام أوغلو أنه سيرشح نفسه لزعامة الحزب في مؤتمره العام قبل نهاية العام الجاري.
يتعرض كليجدار أوغلو لانتقادات عنيفة من أوساط المعارضة، التي تحمّله مسؤولية الخسارة في الانتخابات الأخيرة، وكانت السبب في تمزق تحالف الأمة، الذي كان يضم حزب السعادة الإسلامي والحزب الديمقراطي وحزب المستقبل وحزب الديمقراطية والتقدم والشعب الجمهوري. ولم يحالفها الحظ حتى عبر دعم حزب الشعوب الديمقراطي الكردي في الانتصار على إردوغان، الذي تم انتخابه رئيساً للجمهورية للمرة الثالثة، خلافاً لمواد الدستور التي تحدد الفترة الرئاسية في دورتين فقط.
وجاء هذا الانتصار بفضل نجاح إردوغان في كسب جميع معارضيه إلى جانبه بعد أن قالوا عنه ما قالوه خلال الأعوام الماضية، وأهمهم دولت باخشالي زعيم حزب الحركة القومية، وكان من ألدّ أعداء إردوغان، وقال بدوره ما لا يقال عن باخشالي. وهذه هي الحال بالنسبة إلى زعيم حزب الرفاه الجديد، فاتح أربكان، نجل الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان، الذي سبق أن قال "إن من يصوّت لإردوغان فإنما يصوّت لأميركا وإسرائيل"، وكما هي الحال بالنسبة إلى زعيمي حزب اليسار الديمقراطي وحزب الهدى الكردي الإسلامي وحزب الوطن الأم، وأخيراً المرشح الثالث في انتخابات الرئاسة سنان أوغان، الذي أدى دوراً مهماً في فوز إردوغان في الجولة الثانية، ومن دون أن نتجاهل الآخرين، ومنهم سليمان صويلو وزير الداخلية السابق، والرئيس السابق للحزب الديمقراطي ونعمان كورتولموش، الذي انشق عن السعادة الإسلامي وانضم بدوره إلى العدالة والتنمية، فأصبح نائباً لرئيس الحزب، والآن هو رئيس للبرلمان. ومع كثرة الأحاديث عن سيناريوهات مثيرة عن الأسباب والمبررات لهذه التقلبات في المواقف والتخلي عن المبادئ في مقابل بعض المصالح المادية والمعنوية والسياسية، لم يهمل إردوغان آخرين من خارج الساحة اليمينية. فأقنع قبل عامين رئيس اتحاد نقابات المحامين اليساري العلماني متين فايزي أوغلو بالانضمام إليه على الرغم من العداء الشخصي بينهما، فعيّنه إردوغان سفيراً لتركيا في جمهورية شمال قبرص التركية. وهناك آخرون من هذه النماذج، آخرهم وزير المالية الحالي محمد شيمشاك الذي كان في حكومة إردوغان حتى عام 2018، فاختلف معه. ورفض قبل الانتخابات الأخيرة اقتراحاً من إردوغان للعودة إلى الحكومة، إلا أنه عاد ووافق بعد الانتخابات.
ومع التذكير بنجاح إردوغان في التخلص من معظم رفاقه الذين أسس وإياهم حزب العدالة والتنمية عام 2001، وفي مقدمتهم عبد الله غول، لا بد من الحديث أيضاً عن نجاح إردوغان في التخلص من حليفه العقائدي السابق، الداعية فتح الله غولان، الذي اتهمه إردوغان بمحاولة الانقلاب الفاشل ضده في تموز/يوليو 2016. وهو ما تحجّج به إردوغان فأمر باعتقال نحو 300 ألف من أتباع غولان وأنصاره وطردهم من جميع مؤسسات الدولة ومرافقه، كما تحجّج بهذا الانقلاب، فقام بتعديل الدستور عبر استفتاء نيسان/أبريل 2017، وقيل إنه كان مزوّراً.
وسيطر إردوغان بعد هذا الاستفتاء، الذي جعل النظام السياسي رئاسياً، على جميع أجهزة الدولة، وأهمها الجيش والاستخبارات والأمن والمال والإعلام. ويسيطر إردوغان على 95% من هذا الإعلام الذي أدى دوراُ مهماً في انتصاراته في كل الانتخابات السابقة، مع التذكير بأن العاملين في هذا الإعلام، في معظمهم، كانوا في الماضي من أتباع غولان وأنصاره، وتخلوا عنه بين ليلة وضحاها، وبايعوا إردوغان فلبى كل احتياجاتهم المادية والمعنوية والنفسية، ودافعوا دفاعاً مستميتاً عنه طوال الأعوام الماضية، وبصورة خاصة في الانتخابات الأخيرة.
ولم يتذكر معظم هؤلاء الإعلاميين أنهم كانوا ضد إردوغان ومن ألد أعدائه، حالهم حال معظم حلفاء إردوغان الجدد، الذين دفع إليهم إردوغان ما دفع، وأرضاهم بمناصب سياسية وإدارية مهمة، كانت كافية لضمان ولائهم للسيد الجديد. وأثبت إردوغان ذكاءه وحنكته السياسيين خلال التعامل مع هذه النماذج التي نسيت أو تناست ما كانت تقوله ضده، ما دام هو أيضاً نسي أو تناسى كل ما قاله عن الآخرين، ليس فقط في الداخل، بل الخارج أيضاً.
وهذه هي الحال بالنسبة إلى علاقات إردوغان بزعماء الإمارات والسعودية ومصر والكيان الصهيوني، والذين قال عنهم ما لا يقال في السياسة والاجتماع والأخلاق، إلا أنه عاد وتوسل إليهم كي يصالحوه بعد أن لبّى كل شروطهم ومطالبهم، وأهمها إغلاق ملفَّي جريمة جمال خاشقجي وسفينة مرمرة، والتخلي عن دعم حماس والإخوان المسلمين في مصر، والمنطقة عموماً، باستثناء سوريا وليبيا. وهو ما لم يبالِ به الزعماء العرب الذين صالحهم إردوغان، وسط المعلومات التي تتوقع زيارة قريبة لرئيس وزراء الكيان الصهيوني نتنياهو لأنقرة، ليردّ إردوغان على هذه الزيارة قبل نهاية العام الجاري.
ويعرف الجميع أن إردوغان سوف يستنفر كل إمكاناته وإمكانات الدولة لتحقيق ما تبقى من أهدافه، وأهمها السيطرة الكاملة والمطلقة على الدولة التي سيحكمها خلال الأعوام الخمسة المقبلة، بعد أن يتخلص ممّا تبقى من معارضيه. فإما أن يغلق أمامهم كل أبواب العمل السياسي، وإمّا أن يقنعهم بطريقته الخاصة حتى يستسلموا له، بعد أن فقدوا الأمل بشأن مستقبل تركيا السياسي بحكم الرئيس إردوغان. ويتوقع له كثيرون ألّا يرحم كل من لا يرضخ له، وخصوصاً بعد الانتصار الذي يسعى من أجله في الانتخابات البلدية في آذار/مارس المقبل، وخصوصاً في إسطنبول وأنقرة. فإذا خسرته هذه الانتخابات المعارضة، فالبعض يتوقع لآخرين، من أمثال عبد اللطيف شنار، في اليمين واليسار، أن يتخلوا عن مبادئهم، ويدقّوا أبواب إردوغان، وهو الذي سيحدد حينها تسعيرة البيع والشراء!