السياسة الأميركية تجاه لبنان: هذه العصا، فأين الجزرة؟
إذا حدثت الانتخابات النيابية اللبنانية في الربيع المقبل عام 2022، فالمال سيكون عنصراً أساسياً فيها كالعادة، لكنّه لن يكون كافياً.
في كتابه المفصلي، خرافة الانحدار الأميركي The Myth of America’s Decline، يعرّف الباحث جوزف جوفيه القوة القاهرة الأميركية بأنّها "المقدرة على إجبار الآخرين أن يفعلوا ما لا يريدون أن يفعلوه"، وأنّ قوّة أميركا ليست استخدام العضلات: فالرجل القوي لا يريد أن يستخدم قوّته لقطع يدَي رجل آخر، بل أن يجبره على العزف على آلة موسيقية. فلماذا إصرار أميركا على عقاب لبنان واتّباع سياسة العصا؟ ومتى يحين وقت سياسة الجزرة، كي يعزف لبنان على آلة موسيقية؟
فشل خدعة زاردوز Zardoz
إذا حدثت الانتخابات النيابية اللبنانية في الربيع المقبل عام 2022، فالمال سيكون عنصراً أساسياً فيها كالعادة، لكنّه لن يكون كافياً؛ أي أنّ القوى المحلية وداعميها من الدول الخارجية سيحصدون أصوات الناخبين، بمقدار ما ينتشلون المواطن من وضعه المعيشي الصعب، وخصوصاً في ملفات الغذاء والدواء والمحروقات.
استمرار العقوبات المفروضة على لبنان حتى اليوم هو أسطع دليل على أنّ الدول الخارجية لم تحسم أمرها بعدُ بشأن خوض الانتخابات. فاللبناني لن ينتخب مَن يعاقبه، بل مَن يساعده. ومقارنة بعقوبات الخارج وغياب مساعدات هذا الخارج، فهو سيرى مثلاً أنّ زعيمه التقليدي يفيده هذه المرّة أكثر من أيّ وقت مضى، وخصوصاً متى جاء الزعيم ودفع مئة دولار ثمن الصوت الانتخابي، وقدّم المؤونة ولو لشهر، فتفوز القوى نفسها، وتحصد أغلبية البرلمان، كما حدث في انتخابات عام 2018، وأكثر.
ويُصاب المرء بحيرة من سلوك السعودية وأميركا وغيرهما تجاه لبنان، عبر الإمعان في الحصار والعقوبات، إذ بدلاً من المال والحوافز المادية للمواطن اللبناني، تستغلّ هذه الدول آثار العقوبات السلبية، فتموّل الضخ الإعلامي التحريضي، عبر محطات تلفزيونية ومواقع إخبارية وشخصيات، ضدّ فريق لبناني بعينه (أنّ "سلاح حزب الله أوصل لبنان إلى الحضيض اقتصادياً"، و"أنّ "إسرائيل" انسحبت من تلقاء نفسها من لبنان عام 2000"، وأنّ حزب الله يجسّد "احتلالاً إيرانياً" للبنان... إلخ)، عبر القول "إنّه وراء المأساة الاقتصادية، وإلاّ لكان اللبناني سيعيش مستوى معيشة دول الخليج نفسها مثلاً". لكنّ هذا الضخ الإعلامي التحريضي هو هباء في الأثير لا يُشبع جائعاً، ولا يَشفي مريضاً، والعقوبات ماثلة أمام الجميع كالسيف الـمُصْلَت.
في فيلم "زاردوز" Zardoz (عام 1974)، يؤدّي شون كونري دور رجل بدائي يتكّل على عضلاته في صراع البقاء، ويستطيع عبر دخوله صخرة طائرة، تمثّل وجه زاردوز المخيف، أن يطير إلى مدينة الجماعة التي تسيطر على البلاد، وتفرض على سكانها البدائيين أن يقدّموا القمح واللحم والأغذية إلى هذه الصخرة الطائرة (الإله) التي تخيفهم.
ويكتشف شون كونري، لدى وصوله إلى المدينة، أنّ لديهم مرآة في كل بيت، مثبّتة على طاولة، بحيث يكفي توجيه الأوامر إلى هذه المرآة لمعرفة كل شيء تقريباً (كما نُصدر الأسئلة إلى غوغل كلامياً). وأول ما خطر في بال شون كونري ليس معرفة أمر يجهله، بل الطعام. فطلب دجاجة مشوية، وعرضت المرآة صورة دجاجة مشوية، فمدّ شون كونري يده ليتناولها، واكتشف أنّها مجرّد صورة. فقال: ما هذه الوساخة what shit is that . وحطّم المرآة، وخرج ليعمل على تدمير هذه المدينة على مَن فيها من فاسدين.
تظنّ الدول الخارجية أنّها ستكسب الرأي العام اللبناني، وبالتالي الانتخابات، عبر مزيج من العقوبات التجويعية والحرب النفسية. لكنّ الحرب الإعلامية هي صورة كمبيوتر وليست الحقيقة (كما في فيلم زاردوز)، قد يتقبّلها مَن حسم أمره مسبّقاً ومارس الاصطفاف تلقائياً. لكنّ أغلبية الشعب اللبناني تحتاج إلى غذاء ودواء وكهرباء وماء ومحروقات؛ أي رفع العقوبات ومساعدة لبنان، ومن دون الإكثار من الكلام.
الكلام التحريضي لا يُغني عن جوع، بينما لبنان بلد منكوب يتسلّط عليه ثلاثي شيطاني مدعوم من الخارج (قوامه الزعماء التقليديون وكبار رجال الدين وحيتان المال). ولا همّ لهذا الثلاثي إذا مات الناس وتدهورت الأمور وانقطع الرغيف والدواء والمازوت. لذلك، فأسلوب العقاب والضخّ الإعلامي (خدعة زاردوز) لا ينفع، ولا بديل عن ضخ المال وتحسين أحوال الخلق لمن يريد نفوذاً في لبنان.
وهناك مثَل لبناني يقول "هنيئاً لمن له مرقد عنزة في لبنان"، فالسعودي والأميركي (وغيرهما) لن يحصلا حتى على صورة العنزة، إذا لم يتحركا ويعيدا الكهرباء والغذاء والدواء إلى لبنان، قبل أي كلام على خوض انتخابات. فالمواطن بات قادراً على التمييز بشأن ما يصل إليه من حملات التضليل الإعلامي عبر الشاشات والمنابر والمواقع. وهو يعرف الأكاذيب التي لا تنتهي. ولنأخذْ عيّنات من الشهر الماضي:
- أولاً، كذبة الهدف من زيارة الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، للبنان، في الأسبوع الثالث من كانون الأول/ديسمبر الماضي. وهذه الزيارة حدث بشأنها "طبل وزمر" من أجل تجييرها ضمن آلة التحريض، بحيث خرج كثيرون يعظّمون شأنها، وأنّ وراءها ما وراءها، وأنّ الأمين العام لا يتحرّك إذا لم يكن مجلس الأمن الدولي من ورائه. لكنّ الحقيقة مفادها أنه، منذ سبعينيات القرن العشرين، لا يزور لبنانَ مسؤولٌ رفيع أممي إلاّ من أجل البحث في ملفات تخصّ "إسرائيل" وأميركا. وغوتيريش لا يَحِيد عن سلوك أسلافه. هو زار لبنان، ويحمل ملفين لا ثالث لهما: دفع مصالح "إسرائيل" عبر ترسيم الحدود الجنوبية وخريطة الطاقة، قبل انتصاف شهر آذار/مارس المقبل، ودفع مصالح التحالف الغربي عبر إبقاء مليون نازح سوري في الأراضي اللبنانية.
- ثانياً، كذبة بيان مزعوم لوزارة الخارجية الأميركية يوم الـ 17 من كانون الأول/ديسمبر الفائت بشأن حزب الله، لاكَتْه الشاشات، وبات موضوع مقالات كثيرة في المواقع والصحف، حتى يظنّ المتابع أنّ ما بعد البيان ليس كما قبله. لكنّ حقيقة الأمر أنّه لم يكن هناك أي بيان أميركي جديد بشأن حزب الله، بل كل ما في الأمر أنّ وزارة الخارجية الأميركية تُصدر كل عام عشرات التقارير عن الوضع العالمي، كما يراه موظفوها، وخصوصاً في نهاية كل عام. وهي نشرت تقريرها الأمني في الأسبوع الثالث من كانون الأول/ديسمبر الماضي، وهو في المناسبة مخصّص لعام 2020، (https://www.state.gov/reports/country-reports-on-terrorism-2020/lebanon/)، أي أنّ مضمونه قديم. وفيه فقرات عن كل دولة في العالم، ومنها السعودية وتركيا وإيران. وما الفقرات التي ظهرت في التقرير عن لبنان، وتكلمت على حزب الله، سوى تكرار للنصوص نفسها عن لبنان ككل، والتي ينشرها تقرير الخارجية الأميركية منذ 35 عاماً، ولا جديد فيها. وفقط في لبنان، تحرّكت أجهزة إعلامية وشخصيات لاستثمار أي شيء وكل شيء في الحملة ضد المقاومة.
- ثالثاً، كذبة "عودة لبنان إلى الحضن العربي"، وهي عبارة متكررة يقصد أصحابها القول "إخراج إيران من لبنان وعودة لبنان إلى حضنَي السعودية والخليج". لكن الحقيقة مفادها أنّ حضن لبنان العربي هو مصر والعراق وسوريا والجزائر، وهي بُلدان عربية كبيرة وعريقة وكثيرة السكّان وقديمة التراث. أمّا السعودية، فعلى الرغم من أهميتها في الفضاء العربي، فهي تنفق المال للوصول إلى النفوذ على زعماء لبنان ورجال الدين فيه، فيتحدّث هؤلاء بنفاق عن المملكة، كأنّها كل العرب. نعم، يجب عودة لبنان إلى الحضن العربي، لكن إلى الحضن العربي الكبير، ثقافياً واستراتيجياً، لمصلحة كل العرب؛ إلى سوريا والعراق المنهكَين بالحروب والمؤامرات، وإلى مصر والجزائر وتونس وسائر العرب.
هذه سياسة العصا، فأين سياسة الجزرة؟
عملياً، لن تبدأ النشاطات الانتخابية في لبنان، ولن تُعلَن لوائح المرشحين، قبل منتصف كانون الثاني/يناير الحالي، في انتظار الدخان الأبيض من واشنطن. وهذه الانتخابات مهمّة جداً، أولاً لأنّها تؤدي إلى إعادة ترسيم السلطة، فإمّا تفوز القوى نفسها، التي فازت في انتخابات عام 2018، كما سبقت الإشارة، وإمّا يدخل دم جديد. وثانياً، لأنّ نتيجةَ الانتخابات البرلمانية تُحدِّد هويةَ رئيس الجمهورية الجديد أيضاً، والذي سينتخبه البرلمان في الـ 31 من تشرين الأول/أكتوبر. وثالثاً، لأنّ الانتخابات ستعكس نتاج عامين ونصف عام من الحراك الشعبي، الذي بدأ في الـ17 من تشرين الأول/أكتوبر 2019، فيكون شعارها الإلزامي معالجة الأزمتين الاقتصادية والسياسية. وأيّ قوى تتجاوز هذا الشعار وتتمسّك بأبلسة حزب الله وحليفه التيار الوطني الحر، كبرنامج انتخابي، هي واهمة.
والامتحان الأهمّ أنّ الانتخابات ستبيّن إذا كان الناخب اللبناني يسعى فعلاً للتغيير، أم سيتمسّك بقديمه.
مفهومٌ أنّ السعودية وأميركا و"إسرائيل" هي خلف العقوبات التي يعانيها لبنان منذ عام 2016 على الأقل، والسبب واحد، وهو وجود مقاومة يمثّلها حزب الله، مناهِضة لـ"إسرائيل"، ويجب ترويضها عبر قوى محلية وإعلامية. وما أهمية لبنان الاستراتيجية سوى وجود هذه المقاومة. ودلالة ذلك، أنّه بعد خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان عام 1982، وصولاً إلى اتفاق الطائف عام 1989، نسي العالم لبنان بعد نهاية الحرب عام 1990، ولم يدخله قرش واحد لإعادة الإعمار، فاضُّطر إلى الاستدانة عبر مشروع رفيق الحريري الفاشل منذ عام 1996.
إنّ فرض الحصار الاقتصادي على لبنان للجم المقاومة فيه، له فوائد ثلاث:
- أولاً، حماية مصالح "إسرائيل" الأمنية والاقتصادية (ومنها حقول الطاقة في البحر)؛
- ثانياً، تسهيل حصار سوريا، ومواصلة الحرب ضدها؛
- ثالثاً، إفساح المجال أمام شلّة الفساد داخل لبنان، من أجل إحكام سيطرتها على موارد لبنان، وتفرقة اللبنانيين على أساس مذهبي.
لذلك، فإن أيّ زيارة لمسؤول أممي أو أوروبي أو عربي للبنان تصبّ في إطار هذه الفوائد الثلاث، وليس في إطار الحرص على مصلحة الشعب اللبناني ومعيشته. لقد كان رئيس لبنان الراحل إلياس سركيس (1976-1982) يشكو دوماً، إلى مستشاره كريم بقرادوني، أنّ كل زيارات المسؤولين الغربيين والعرب، ومن الأمم المتحدة، له، هدفها واحد، وهو البحث في ملف المقاومة الفلسطينية في لبنان، وما تريده "إسرائيل" من الدولة اللبنانية. فلم يتكلّف أي زائر البحث في كيفية إنهاء حرب لبنان الطويلة، أو نجدة الشعب اللبناني (كتاب كريم بقرادوني: السلام المفقود عهد إلياس سركيس).
ظروف اليوم مغايرة لظروف عام 1982، يوم أدّت سياسة العصا على لبنان إلى غزو إسرائيلي قاتل، وانتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية. لذلك، فإن مواصلة سياسة القهر الاقتصادي ضد لبنان لن تفيد الذين يمارسون هذا الضغط إذا أرادوا خوض الانتخابات المقبلة وجني النفوذ، إذ لا بدّ من سياسة الجزرة لتواكب سياسة العصا التي استنفدت مهمتها. فأين سياسة الجزرة؟ ولماذا لا نرى سوى سياسة العصا حتى الآن؟
والجواب أنّ الوقت لا يزال مبكّراً لدى الإدارة الأميركية حتى تطلق سياسة الجزرة للتأثير في الانتخابات اللبنانية. فمعروف أنّ الولايات المتحدة تدخل في مرحلة عطلة سنوية وحياة عائلية، بدءاً من الـ24 من تشرين الثاني/نوفمبر كل عام (عيد الشكر Thanksgiving)، لتستمر الاحتفالات واللقاءات طوال شهر كانون الأول/ديسمبر، وتتصّل بالنشاطات التي تسبق عيد الميلاد واحتفالات رأس السنة. وهكذا، لا يعود النشاط السياسي إلى واشنطن قبل الـ20 من كانون الثاني/يناير 2022 (مثلاً، بعد انتخابات أميركا وانتخاب جو بايدن رئيساً في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، لم يدخل الرئيس المنتخَب البيت الأبيض قبل الـ20 من كانون الثاني/يناير، احتراماً لموسم العطلة والحياة العائلية).
إنّ أميركا تعلم بأنّ استمرار سياسة العصا يؤدي إلى عكس المرجو. والناخب اللبناني لن ينتخب مَن يمارس الأذيّة القاتلة (أي لن ينتخب مرشحي السعودية وأميركا الذين يمثّلون سياسة العصا). فلا بدّ من سياسة جزرة تجعل مرشحي أميركا خشبةَ خلاص المواطن اللبناني. لذلك، قد تحدث أيّ من التطورات التالية، بدءاً من الـ20 من كانون الثاني/يناير:
- وصول مبعوث أميركي إلى بيروت يحمل مبادرة أميركية لمساعدة لبنان، شبيهة بـ "مشروع مارشال" صغير.
- إعلان مصر والأردن بدء تسيير خطوط الطاقة لتشغيل الكهرباء في لبنان.
- إيداع دولة الإمارات أو دولة خليجية أخرى مليارَ دولار (على الأقل) في مصرف لبنان، الأمر الذي يمنحه أسناناً تلجم السوق السوداء في بيروت، وتمحو عامل اللااستقرار السياسي في تدهور العملة، الأمر الذي يعيد الدولار إلى 13 ألف ليرة قبل الانتخابات النيابية.
- غيرة عربية لدى عدد من الدول لشحن الأغذية والأدوية إلى بيروت... إلخ.
وهكذا، يبدأ وطيس الانتخابات اللبنانية، وقد شعر الناس براحة نسبية يعود الفضل فيها إلى أميركا. وفقط، بعد ضخّ هذه الكمية من الجَزَر الأميركي، يمكن أن ينجح عدد من مرشحي أميركا الذين قد يخلقون كتلة جديدة مؤثّرة في البرلمان المنتخَب، وتؤدي إلى قبول أغلبية الكتل انتخاب مرشّح عسكري رئيساً للجمهورية، كما ترغب في ذلك أميركا (وكما حدث في الانتخابات الرئاسية الثلاثة الماضية)؛ يعني أنّ فوز مرشحي أميركا يتطلَّب سياسة جزرة حقيقية، وليس مواصلة سياسة العصا (العقوبات والحصار واللجوء إلى الإعلام والنارية). وبديهي أنّ مرشحي أميركا هم غير مرشحي السعودية ولا يَتْبعون السعودية (السعودية لم تتحرّك بعدُ من أجل خوض الانتخابات اللبنانية عبر تمويل أتباعها، كما فعلت عام 2009).
هذا التصوّر للسياسة الأميركية هو مجرّد سيناريو، قد يحدث وقد لا يحدث. لكنْ، إذا لم تمارس أميركا سياسة الجزرة فسيخسر مرشّحوها الانتخابات، ويتضاءل نجاحهم إلى 3 نواب فقط، كما في السابق. وكذلك، فإن غياب أميركا عن الانتخابات اللبنانية، أي استمرار سياسة العصا، سيُفسح المجال لسيناريوهات أخرى.