الرد الإيراني.. ومعادلات الردع الجديدة في المنطقة
تأخر الرد الإيراني حمل الكثير من الإيجابيات لجهة الخسائر المادية الكبيرة التي يتعرض لها الاقتصاد الصهيوني، وحالة الذعر والخوف التي تسيطر على مستوطنيه.
تعيش المنطقة حالة من التوتر وعدم الاستقرار والخوف من تدحرج كرة النار لتشمل العديد من دول المنطقة، التي بات جلياً أنها تسعى، وبما أوتيت من قوة وحكمة، لتجنب الدخول في حرب مفتوحة مع الكيان الصهيوني.
محور المقاومة لا يريد الحرب، ويركز على "استراتيجية الربح بالنقاط"، إدراكاً منه أن الصراع ليس مع "إسرائيل" وحدها. لذا، لا بد من التريث والتركيز على استكمال بناء قوته وانتظار التغير في البيئة الدولية.
الكيان المأزوم الذي يعيش هزيمة استراتيجية كبيرة نتيجة لفشله في تحقيق أهدافه التي أعلنها قبل حرب غزة هو وحده الساعي إلى تطور تلك الحرب أملاً منه في جرّ الولايات المتحدة الأميركية لتكون طرفاً فيها.
استفزاز إيران من قبل الكيان الصهيوني يأتي في مقدمة تلك التوجهات، وخصوصاً أن إيران باتت اليوم الخطر الأول بالنسبة إلى "إسرائيل"، وأصبحت في مواجهة مباشرة معها.
ما حدث في إيران (اغتيال إسماعيل هنية) لا يمكن أن يمر دون رد، وخصوصاً أن "إسرائيل" ماضية في سياسة الاغتيالات للقادة الإيرانيين على كل الأحوال.
ما حدث في إيران لا يعني طهران وحدها، بل هو رسالة أيضاً لجميع حلفائها، الهدف منه زعزعة ثقتهم بها وبقدرتها على استعادة الهيبة والقدرة على الفعل.
الرد الموحد والمتزامن من قبل محور المقاومة أمر غير متوقع وغير وارد، وخصوصاً أن إيران قادرة على الرد وحدها، كما أنها دولة، وليست مجرد حركة من حركات المقاومة. لذا، فإنها ستتصرف وفقاً لتلك الرؤية.
تأخر الرد الإيراني حمل الكثير من الإيجابيات لجهة الخسائر المادية الكبيرة التي يتعرض لها الاقتصاد الصهيوني، وحالة الذعر والخوف التي تسيطر على مستوطنيه.
كما أنه فتح الباب أمام المساعي الأميركية والغربية عموماً نحو طهران، والطلب منها عدم الرد، أو أن يكون هذا الرد محدوداً في ما لو حصل.
تأكيدات المسؤولين الإيرانيين، وعلى رأسهم المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الإيرانية، تؤكد أن الرد قادم لا محالة، ولا يحق لأحد ثني إيران عن ذلك، فهو جزء من حقوقها التي حفظها لها القانون الدولي.
الحسابات الإيرانية أكثر تعقيداً، وتنسجم مع القانون الدولي، وتؤكد للعالم أن إيران لم تكن لتلجأ إلى الرد بنفسها لو أن مجلس الأمن كان قادراً على إنصافها ومنع إسرائيل من تكرار جرائمها.
خرق "إسرائيل" قواعد النظام الدولي هو إهانة للولايات المتحدة أولاً وقبل كل شيء، وخصوصاً أنها من وضع أسسه ليكون متناسباً مع توجهاتها في قيادة العالم، كما أنها تريد أن تثبت للعالم أنها لا تزال قادرة على حمايته.
"إسرائيل" ومنذ تأسيسها كانت هي من يخرق القانون الدولي، حتى إنها باتت تعتقد أنها فوق القانون، هكذا كانت، وهكذا يجب أن تبقى.
اغتيال إسماعيل هنية يجعلنا نعيد التفكير في فكرة الانقسام داخل حكومة الحرب الإسرائيلية، فما حدث ليس سوى نتيجة لخطة أمنية خططت لها ونفذتها المؤسسات الأمنية في "إسرائيل"، وقدمتها لنتنياهو ليقدمها للمستوطنين الصهاينة على أنها إنجاز يحسب له ولحكومته.
لقد استطاع نتنياهو تحقيق 3 أهداف من اغتياله إسماعيل هنية، فهو بذلك يكون قد استطاع وقف المفاوضات مع حركة حماس، وقدم لمستوطنيه نصراً، ولو كان محدوداً، كما أنه استطاع الحصول على دعم أميركي مباشر يتمثل في سعي الولايات المتحدة إلى صد الهجوم الإيراني على "إسرائيل" في ما لو وقع.
القلق الدولي واستعجال الرد الإيراني
لا تزال منطقة الشرق الأوسط تمثل قلب العالم، نظراً إلى أهميتها الاستراتيجية ودورها في تأمين النفط والغاز للعديد من دول العالم. وقد زادت تلك الأهمية بعد الحرب في أوكرانيا.
لا يمكن الفصل بين فكرة الحرب على غزة ورغبة "إسرائيل" في تهجير سكانها، نظراً إلى ما تحتويه هذه المنطقة من ثروات متوقعة، ورغبة "إسرائيل" في السيطرة عليها، إذ لا يمكن لها تصور أن تعود مثل تلك الثروات للفلسطينيين.
لدى "إسرائيل" خمسة حقول غاز رئيسية أنتجت العام الماضي 22 مليار متر مكعب من الغاز، 44% من الإنتاج يذهب إلى التصدير الخارجي، والباقي للاستخدام المحلي.
قبل طوفان الأقصى، كانت "إسرائيل" تطمح لأن تصبح مركزاً إقليمياً لتصدير الغاز، إذ تضاعفت صادراتها 15 مرة خلال السنوات الخمس الأخيرة.
حماية حقول الغاز حمّلت "إسرائيل" عبئاً مالياً يقدر بمليار دولار، وخصوصاً أن استهدافها سيعيدها إلى عصر ما قبل الكهرباء، وسيشلّ حركة النقل والمواصلات فيها.
كذلك، ستطال الأضرار كلاً من الأردن ومصر، إذ تستورد مصر ملياراً ومئة وخمسين قدماً مكعباً يومياً من "إسرائيل". أما الأردن، فيستورد 98% من حاجته من الغاز من "إسرائيل".
الدول الأوربية تشعر أيضاً بالقلق، وخصوصاً أنها باتت تؤمن الكثير من احتياجاتها من النفط والغاز من منطقة شرق المتوسط، وخصوصاً بعد الحرب في أوكرانيا.
هل يمكن الحديث عن عدم الرد الإيراني؟
يجري الحديث عن مساعٍ عربية ودولية لإقناع طهران بعدم الرد، وهو ما يبدو مستبعداً من الناحية العملية، وفي ظل فهم رؤية طهران وموقفها لما ارتكبته "إسرائيل" من جريمة لا يمحوها سوى الدم.
الغريب في الأمر أنه وعندما تتعرض "إسرائيل" لهجوم يرفع الغرب شعار "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، وعندما تكون هي من يعتدي على محور المقاومة تتعالى نداءات "عدم التصعيد".
الحديث عن مفاوضات أميركية مع إيران وتقديم المزيد من التنازلات لها لن يحل المشكلة، لأن ذلك قد يبدو من الناحية الظاهرية كأنه تفاوض على حساب الدماء الفلسطينية.
تراجع إيران عن الرد فيه مساس لهيبتها، وتنازل عن الثأر لدماء ضيفها، وهو ما لن يقبل به الشعب الإيراني أولاً، وقيادة الجمهورية الإسلامية بكل تأكيد.
إنهاء وضع نتنياهو بعدما أصبح عبئاً على الإدارة الأميركية أمر يثار في بعض وسائل الإعلام، لكنه أمر مستبعد، وخصوصاً في ظل الإدارة الحالية التي من المؤكد أنها غير قادرة على فعل ذلك، إن لم يكن لضعفها، فربما لعدم رغبتها في ذلك.
رغبة الولايات المتحدة وقدرتها على خوض حرب مباشرة أمر مشكوك فيه، وخصوصاً بعد الفشل الذريع الذي منيت به في العراق وأفغانستان، وانسحابها المذل من هناك.
التوجه الأميركي مما يجري في المنطقة يتمثل في دعمها المطلق لإسرائيل، واستعدادها لصد الهجوم عنها، لكنها لن تهاجم من يهاجمها، وخصوصاً أنها باتت تفضل استراتيجية "الحرب بالإنابة"، على غرار ما يجري في أوكرانيا.
حجم التأثير الإسرائيلي في المنطقة اختلف، وأسطورة "الجيش" الذي لا يقهر باتت من الماضي، كما أن الدور الأميركي لم يعد كما كان.
أميركا ملتزمة بحماية "إسرائيل"، وهي تريد إنقاذها من نفسها. لذا، فهي تسعى إلى وقف تلك الحرب التي بات واضحاً للجميع عدم قدرتها على حسمها والانتصار فيها.
تسعى إيران إلى الفصل بين ما يجري في غزة وبين حقها في الرد على "إسرائيل"، وهي حريصة على ألا تبدو كأنها تعرقل مسيرة التسوية، مع التأكيد على أنها داعم لكل ما يقبل به الفلسطينيون.
وقف الحرب في غزة يعني وقف جبهات الإسناد التي يقوم بها محور المقاومة، لكنه لا يعني بكل تأكيد امتناع إيران أو حزب الله عن حقهما في الرد على "إسرائيل" على الجرائم التي ارتكبتها بحق القادة من محور المقاومة.
ما سمعته إيران من بعض المسؤولين العرب المحسوبين على ما يسمى بمحور الاعتدال، والذين يروجون لنفسهم على أنهم وسطاء، تدرك جيداً أنهم ليسوا سوى عملاء لن يترددوا في الدفاع عن الكيان وصدّ الهجوم الإيراني في ما لو حدث.
لم تعد الكثير من الدول العربية طرفاً في الصراع، بل إنهم مجرد وسطاء، ويذهب البعض إلى اعتبار أن الكثير من الدول العربية كانوا مجرد وسطاء، فيما هم اليوم شركاء في ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من حصار وتجويع.
العجز العربي وانعدام الوزن وغياب الفاعلية للكثير من الدول العربية جعل دورها يقتصر على الانصياع لأوامر الأميركي وتنفيذ ما يفرض عليها من إملاءات لا تخدم مصالحها في كثير من الأحيان.
شيطنة المقاومة عبر بعض وسائل الإعلام العربية ومواقع التواصل التي تدور في فلكها، الهدف منه التقليل من شأنها والتغطية على الموقف المتخاذل لتلك الحكومات التي تقف خلفها.
الكثير من الدول العربية كانت لاعباً، وباتت اليوم ملعباً، وبالتالي فإن قرارها السياسي لم يعد بيدها، وبالتالي فإن المنطقة ذاهبة إلى صراع سيكون من نتائجه إعادة رسم توازنات القوى في المنطقة، وربما يصل إلى رسم خرائط جديدة.
ما نعيشه اليوم ليس سوى مجرد تصعيد، وكل المعطيات تشير إلى أننا ما زلنا بعيدين عن الحرب الشاملة، لكن ذلك لا يعني أن هناك نهاية قريبة للصراع أو خفضاً للتوتر والتصعيد.