الدين العام الأميركي: عُكّاز مفخَّخ يتوكأ عليه الاقتصاد العالمي
نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي مؤشرٌ مهمٌ على قابلية الدول للإفلاس، غير أن الأهم هو الحجم الإجمالي للدين العام.
مقدمة ضرورية بشأن الفرق بين الإمبريالية والاستعمار
لعل من إيجابيات أزمة أوكرانيا أنها لفتت النظر إلى دور الدولار الأميركي، والعملات الرئيسة الأخرى المهيمنة، في امتصاص فائض قيمة عالمي، يتمثل بسلعٍ وخدماتٍ وأصولٍ في مقابل "ورق" Banknote، يشكل الطلب العالمي عليه المصدر الأهم لقيمته السوقية. "ورقٌ"، فحسب، سيستمر الطلب العالمي عليه بمقدار سيطرة الغرب، كمنظومة تقودها الإدارة الأميركية، على مفاصل الاقتصاد العالمي، وعلى البنية التحتية لشبكة المؤسسات المالية والمصرفية الدولية تحديداً. وهي سيطرةٌ تتيح للغرب، كما رأينا، أن ينفي حتى دولةً عظمى، مثل روسيا، خارجها، كما أخرَج منها العراق وإيران وسوريا وفنزويلا وكوريا الشمالية من قبلُ، وأي دولٍ وشركاتٍ ورجال أعمالٍ يقرر أن يُخرجهم منها من بعدُ.
تتخذ حرب الغرب الاقتصادية العالمية على روسيا، بذريعة أوكرانيا، طبيعةً غير عسكرية حتى الآن، على الرغم من دعمه المكثف لنظام زيلينسكي عسكرياً ومالياً واستخبارياً، في نسخةٍ مزيدة ومنقحة عن نموذج حربه على سوريا، ولاسيما في مرحلتها "القيصرية" (التي ما فتئ لبنان يعاني بجريرتها أيضاً، على الرغم من الوعود الخُلبية باستجرار الكهرباء والطاقة من مصر والأردن).
أعادت الطبيعة غير العسكرية لتلك الحرب على روسيا الاعتبار مجدداً، في عدد من الأذهان اليقِظة، لمفهوم "الإمبريالية"، كمنظومة هيمنة وإفقار دولية تنبثق من هيمنة رأس المال المالي على مفاصل الاقتصاد العالمي، في تمييزٍ له عن مفهوم "الاستعمار"، الذي يرتبط بالاحتلال المباشر للأرض، عسكرياً وبشرياً، والذي لا يرتبط حصرياً بدخول الرأسمالية مرحلتها الإمبريالية، أو حتى بالنظام الرأسمالي أو بالغرب وحده. فالإمبريالية قد تمارس الاستعمار أو الحرب المباشرة، وقد لا تمارسهما، لكنّ ذلك ليس أهم ما يميزها، وإنما صفتها الجوهرية كمنظومة هيمنة واستغلال اقتصادية - سياسية عابرة للحدود، قد تكون أدواتها عسكرية أو غير عسكرية.
وكان من أبرز مَن عبّروا عن مثل هذا التمييز الضروري بين مفهومي "الإمبريالية" و"الاستعمار" الكاتب الاشتراكي الأميركي هاري ماغدوف Harry Magdoff ، في كتابه الصادر عام 2003 "إمبريالية بلا مستعمرات" Imperialism without Colonies؛ كتابه الأخير قبل وفاته عام 2006. مثّل "إمبريالية بلا مستعمرات" إضافةً رؤيوية التقطت الاتجاه التاريخي لتطور الإمبريالية، وكانت فصوله نشرت تباعاً في مجلة الـMonthly Review في الستينيات والسبعينيات، في عز حرب فيتنام، وأعيد نشرها معاً ككتابٍ في عز الحرب على العراق. ذلك هو معنى ألّا تزيغ عين المفكر فوق زبد الحدث اليومي الجارف.
وكان ماغدوف اشتُهر بكتاب آخر له هو "عصر الإمبريالية" (1969)، وكان شريك عمر بول سويزي Sweezy (الذي سبقت الإشارة إليه في مقالتي في الميادين نت في 12/4/2022، كأحد منتجي نظرية التبعية). وكتابا ماغدوف المذكوران هنا هما الوحيدان اللذان لم يؤلفهما بالاشتراك مع سويزي، الذي تُوُفِّي عام 2004 (لعناية علماء الاقتصاد، كان سويزي أبدع نظرية "منحنى الطلب المنحرف" Kinked Demand Curve في حالة احتكار القلة Oligopoly، التي أصبحت جزءاً من أبجديات علم الاقتصاد الجزئي). وعلى الهامش، يُذكر أن ماغدوف حوكم في الفترة المكارثية McCarthyism في الولايات المتحدة الأميركية بتهمة "العمالة للسوفيات"، في قضية ما عُرِفَ باسم "مجموعة برلو" Perlo Group، لكنّ التهمة لم تثبت عليه رسمياً في المحكمة، ولعلها كانت مفبركة كأداة ضغط. وسهر هاري ماغدوف ذات ليلة في كوبا مع أرنستو تشي غيفارا بعد انتصار الثورة الكوبية، والتقاه مجدداً عندما شارك غيفارا في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك عام 1964.
في ماهية رأس المال المالي ومعضلته المعاصرة
جاءت التطورات الأخيرة المحيطة بالأزمة الأوكرانية، إذاً، مصداقاً لما بقينا نُصِر، نحن أصحاب "اللغة الخشبية"، على تسميته "الإمبريالية". غير أن أحد أهم أبعاد هيمنة رأس المال المالي الدولي International Financial Capital، التي لم تنل حظها من الاهتمام خلال الأزمة الأوكرانية، هو الأوراق المالية التي تصدرها وزارة الخزانة الأميركية، مثل أذونات الخزانة الأميركية وسنداتها، بأنواعها الكثيرة، والتي تموّل الدولةُ الأميركية، من خلالها، عجزها السنوي المتراكم، وبالتالي، دينها العام، الذي راح ينمو نمواً انفجارياً.
تمثل أذونات الخزينة والسندات الحكومية، من ناحية عملية، مجرد أدواتٍ للاقتراض من جانب الدول والحكومات. لكنها تمثل، من ناحية أخرى، مكوناً رئيساً من مكونات رأس المال المالي، إلى جانب أسهم الشركات وسنداتها والمشتقات المالية، مثل العقود الآجلة والمستقبلية، والتي تتداولها البورصات العالمية (لاحظ، مثلاً، أن سعر برميل النفط يُنقل في الإعلام لعقود آجلة أو مستقبلية بعد ثلاثة أشهر أو ما شابه).
رأس المال المالي يُفترض أنه يمثل حقوقَ ملكيةٍ فحسب لنوعين آخرين من رأس المال: رأس المال المادي، مثل الآلات والمعدات والأبنية (زائد المخزون السلعي)، التي تُستخدم في العملية الإنتاجية مباشرةً؛ ورأس المال غير المالي Non-financial capital، أو غير الملموس، مثل حقوق الملكية الفكرية لبراءات الاختراع وحقوق الطبع والتأليف والماركات المسجلة وما شابه. وهذا النوع الثاني من رأس المال، أي رأس المال غير المالي، بات أكثر أهمية في عصر اقتصاد المعرفة في القرن الـ 21 من رأس المال المادي، لأنه منبع الابتكارات المستندة إلى العلم والتكنولوجيا والفن، مثل الحاسوب والهاتف المحمول وبرامجهما، أو حقوق ملكية فيلم سينمائي يمكن أن يباع أو يؤجَّر، وأن يدر ريعاً عند عرضه، تماماً كأي أصل آخر ذي قيمة.
يُفترض نظرياً أيضاً أن مجموع قيمة أسهم شركة من الشركات يساوي قيمة تلك الشركة الرأسمالية، أي أن الأسهم حصص ملكية لها كقيمة. قيمة رأس المال المالي إذاً قانونية، لأنها تحدد حقوق الملكية بين الناس. لذلك، يسمى أحياناً رأس المال القانوني. ويُفترض أيضاً أن تمثل حسابات الادّخار، التي تشكل مكوناً آخر من رأس المال المالي، حقوقَ ملكيةٍ كامنة على السلع والخدمات والأصول في الاقتصاد.
رأس المال المالي إذاً هو أصول مالية مسجلة باسم شخص أو كيان اعتباري ما، عام أو خاص أو غير ربحي، وهو حق ملكية لحصة ما في رأس مال مادي أو رأس مال غير مالي أو مخزون سلعي ما. فهو لا يوجد في فراغ، بل يستند إلى أساسٍ ماديّ ما، بصفته علاقة ملكية، في سياق زماني وسياق مكاني محدَّدين، أي بصفته علاقة اجتماعية في المحصلة.
إحدى الطرائق للتمييز بين الأصول المالية وغيرها هي سرعة قابليتها للتحويل إلى نقد من دون خسارة في قيمتها الاسمية. لكنها ليست رأس مالٍ منتِجاً في حد ذاتها، وإنما يُفترض أن تكون مرآة لرأس المال المنتج فحسب، لقيمته الاقتصادية، وللأشياء ذات القيّمة التي أنتجها. لذلك، لا تكتسب أهمية إنتاجية إلّا عندما تتحول الطاقة المالية التي تمثلها إلى طاقة مادية (مصانع أو مزارع أو بنية تحتية... إلخ)، أو إلى طاقة غير مالية (ابتكارات ومنتوجات فكرية)؛ أي إلّا عندما تفقد صفتها المالية، الحقوقية، لتتحول إلى طاقة منتِجة مادية ومعرفية.
لكنّ معضلة الاقتصاد الرأسمالي المعاصر اليوم هي أن الأصول المالية باتت تزيد أضعافاً عما يُفترض أن تمثله في الاقتصاد الحقيقي؛ أي أن حجم رأس المال المالي بات يزيد أضعافاً مضاعفة عن قيمة رأس المال المنتِج، في شقيه؛ أي أنه لم يعد مجرد مرآة للاقتصاد، ولا مجرد مالك قانوني له، وإنما أصبح مجالاً مستقلاً عن الاقتصاد الحقيقي (المادي والمعرفي) يفوقه حجماً بأضعاف بعيداً عن أي أساس مادي.
السوق المالية أصبحت عدة أضعافٍ ما يُفترض أن تعكسه من قيم مادية
تنقسم سوق الأصول المالية financial market إلى قسمين: السوق النقدية money market، والسوق الرأسمالية capital market. أمّا الأولى، فتتعامل بأدوات الدَّين القصيرة المدى، والتي تقل عن عامٍ واحد، مثل أذونات الخزينة. أمّا الثانية، فيجري فيها تداول الأسهم والسندات عبر أسواق أساسية وثانوية. لكنّ الاثنتين معاً ليستا أدوات دَينٍ فحسب، وإنما أيضاً أدوات لإيجاد منافذ لفوائض كبيرة من رأس المال المالي في استثمارات لا تشتغل بالاقتصاد الحقيقي (المادي أو المعرفي)، ولا تنتج شيئاً، بل تنمو كفقاعات أو دمامل، وتنفجر، وأحياناً تنمو كسرطانات في جسد الاقتصاد الحقيقي، وتخنقه.
على سبيل المثال، تُظهِر النشرة الرسمية للاحتياطي الفيدرالي الأميركي (معادل البنك المركزي) أن مجموع أصول الأفراد والمنظمات غير الحكومية في الولايات المتحدة الأميركية، في الربع الرابع من عام 2021، بلغت قيمتها 168.6 تريليون دولار، تشكل الأصول المالية منها 118.2 تريليون دولار، أي أكثر من 70%. وإذا عدنا عشرة أعوام إلى الخلف في النشرة ذاتها، فسنجد أن الأصول المالية وحدها شكلت 68% من مجموع الأصول عام 2011، وأنها شكلت 64% منها عام 2001، وأنها شكلت 61% من مجموع الأصول عام 1991؛ أي أن الأصول المالية مثلت نسبة متزايدة من إجمالي الأصول خلال الأعوام الثلاثين الفائتة. وهذا يعني أن الأصول المالية كانت تنمو في معدل أسرع من نمو الأصول عموماً، التي نمت باطّراد خلال تلك العقود. كان مجموع الأصول أكثر من 28 تريليون دولار بقليل في الربع الرابع من عام 1991، وأصبحت 168.6 تريليوناً عام 2021، أي أنها نمت بمقدار خمسة أضعاف. أمّا الأصول المالية فكانت 17.75 تريليون دولار عام 1991، لتصبح 118.2 تريليوناً في نهاية عام 2021؛ أي أنها نمت أكثر من خمسة أضعاف، أو نحو 570% تقريباً.
لنأخذ ظاهرة نمو الأصول المالية مقارنة بمعدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الأميركي في الفترة ذاتها: في عام 1991، كانت قيمة الناتج المحلي الإجمالي الأميركي 6.15 تريليون دولار، وفي عام 2021، أصبحت قيمته حوالي 23 تريليون دولار. هذا يعني أن الاقتصاد الأميركي، بالأسعار الجارية، نما بمقدار 274% خلال هذه الفترة، أما الأصول المالية للأميركيين، فقد نمت خلال الفترة ذاتها بمقدار 570%. ولو استخدمنا معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الحقيقية (إذا أخذنا عام 2012 كسنة أساس) بين عامي 1991 و2021، سنجد أنه كان 9.35 تريليون دولار عام 1991، وأنه أصبح 19.43 تريليون دولار عام 2021؛ أي أن معدل نموه الحقيقي بلغ نحو 108% فقط خلال هذه الفترة، على نحو يعزز استنتاجاً مفاده أن قيم الأصول المالية (رأس المال المالي) نمت على نحو غير عقلاني وغير متلائم مع معدل نمو الإنتاج أو رأس المال ككل.
رُبّ قائلٍ إن إجمالي أصول الأفراد والمنظمات غير الحكومية قد لا يعبّر عن ظاهرة نمو الأصول في الاقتصاد بدرجة كافية. لنأخذ الأمر من زاوية ثالثة إذاً، من زاوية أصول أكبر 500 شركة يجري تداول أسهمها في البورصات الأميركية S&P500: تشير تقارير متعددة إلى أن كل ما تملكه تلك الشركات من أصول مادية، وفوقها كل ما تملكه تلك الشركات في محفظتها من أسهم وسندات وحسابات ادّخار... إلخ، لم تعد تفسّر، في مجموعها، في عام 2020، أكثر من 10% في المتوسط من القيمة الرأسمالية لتلك الشركات؛ أي من مجموع قيمة أسهمها! بينما كانت تلك الأصول تفسر 16% من القيمة الرأسمالية لأكبر الشركات عام 2015، و20% منها عام 2005، و32% منها عام 1995، و68% منها عام 1985، و83% منها عام 1975؛ أي أن نقطة تحول رأس المال المالي إلى الشكل الرئيس، الطاغي، للقيمة الرأسمالية للشركات، حدثت بين عامي 1985 و1995. فكيف يفسر اقتصاديو الغرب تلك الظاهرة؟ إنهم يقولون إنها تعود إلى رأس المال غير المالي، مثل براءات الاختراع وحقوق الملكية الفكرية عموماً، و"عبقرية الإدارة" في تلك الشركات وعلاقاتها بالموردين والزبائن؛ أي "سمعتها التجارية"... إلخ.
حسناً! لنفترض أن الابتكار وحقوق الملكية الفكرية باتت العنصر الطاغي (بنسبة 90%) في القيمة الرأسمالية للشركات المعتمدة على البرمجة، مثل Apple ، أو Microsoft، أو NIVIDIA، وأن الابتكار وحقوق الملكية الفكرية مهمة بدرجة ما في شركة تسويق مثل أمازون، أو في شركة مثل "تيسلا"، أو "ألفابت" التي تملك غوغل وغيره، أو "ميتا" التي تملك فيسبوك وغيره، فإن من الصعب جداً الاقتناع بأن الابتكار والمنتوجات المعرفية تمثل 90% من قيمة شركة مثل Berkshire Hathaway (ثامن شركة في قائمة أكبر 500 شركة) تبيع تأمين سيارات وبوظة وغيارات داخلية وخدمات نقل ومايونيز... إلخ، أو شركة مثل United Health تبيع تأميناً صحياً وما شابه، أو شركات مالية ومصرفية مثل JPMorgan Chase أو Visa أو MasterCard أو Bank of America، أو شركات نفطية مثل إكسون Exxon وشيفرون Chevron، أو شركة Costco لتجارة التجزئة (تبيع لحم عجل ولحم دجاج)، أو شركة كوكاكولا (في المرتبة الـ25)، أو عدد من شركات الأدوية، مثل شركات "جونسون أند جونسون" و"فايزر"، التي ليس من الواضح أين ينتهي دور الإبداع والابتكار في عملياتها الإنتاجية، وأين تبدأ قوتها الاحتكارية في تسعير أدويتها.
دورة اقتصادية جديدة: نقد – نقد - نقد
إن الشرخ الكبير بين قيم الأصول المالية المتنامية هندسياً من جهة، وقيم الأصول المادية والمعرفية المتنامية حسابياً من جهةٍ أخرى، وإخضاع الثانية لمصالح الأولى من دون منازع، ما عدا في الدول التي حافظت على قدر من استقلالها عن هيمنة رأس المال المالي الدولي، بات يمثل مَعْلَماً رئيساً في الاقتصاد العالمي في زماننا، وسبقت الإشارة في موضعٍ آخر إلى أن الصراع بين الاقتصاد المالي والاقتصاد الحقيقي هو أحد معالم صراع الغرب مع روسيا والصين والدول المستقلة (انظر: "وجه آخر للصراع العالمي: حديدٌ عتيقٌ لكونٍ جديد"، الميادين نت، 5/4/2022).
وإذا كان التحول إلى الإنتاج السلعي، كما عبّر عنه ماركس في القرن الـ19، تمثَّل بإحلال دورة "نقد –سلعة - نقد"؛ أي مال يُستثمر في إنتاج شيءٍ ماديّ بهدف إدرار ربح نقدي، محل دورة "سلعة – نقد -سلعة"، بحيث كان النقد مجرد وسيط في العملية الإنتاجية، لا هدفاً في ذاته، فإن رأس المال المالي المعاصر خلق دورة جديدة منفصلة عن الاقتصاد الحقيقي، هي دورة "نقد – نقد - نقد"، يجري فيها مبادلة أصول مالية متعددة، ويعاد تدويرها من شكلٍ إلى آخر (عملات أجنبية، أسهم، سندات، مشتقات مالية... إلخ)، فيما يسمى "المحفظة الاستثمارية" investment portfolio بين مالكيها، في مسار حلزوني متصاعد، بما يشبه النفخ في بالون، من دون إنتاج شيء ملموس أو مفيد اجتماعياً، لكن مع خلق المزيد والمزيد من القيم المالية المنتفخة، التي تمثل، من جهة، أكبرَ ملعبٍ استثماريٍ للمضاربين والمرابين في اقتصاد مأزوم، والتي تمثل، من جهةٍ أخرى، أكبرَ مخزنٍ لفائض القيمة الاجتماعي على نطاق دولي، بات في الآن عينه مطروحاً في كل لحظة على طاولة قمار معولمة كبرى في البورصات. فإذا انفجرت الفقاعة السعرية المفتعلة "استثمارياً"، نشأت أزمة جديدة على غرار أزمة الرهون العقارية عام 2008-2009، وذهبت عجلة "روليت" المضاربة بكثيرٍ أو قليلٍ من تلك الفوائض كما تشاء، آخذةً في طريقها الاقتصاد الحقيقي. وذلك هو ثمن لعبة القمار الكبرى التي ارتضاها رأس المال المالي لنفسه باسم "حرية السوق".
تصبح ديون الحكومات، ولاسيما في الدول الرأسمالية الأكثر تقدماً، هي الأكبر عالمياً. ولا غرو، فإن تلك الديون، المتمثلة بأذونات خزينة وسندات حكومية تدر عائداً منتظماً تضمنه الحكومات ويموله دورياً دافعو الضرائب العاديون من ضريبة المبيعات وما شابه، أصبحت جزءاً رئيساً من الأصول المالية لشريحة اجتماعية تتذمّر بمرارة من التدخل الحكومي في الاقتصاد، ولا يرف لها جفنٌ من تذوق الفوائد والأرباح الرأسمالية من أذونات الخزينة والسندات الحكومية المتزايدة التي تقتنيها.
عودة إلى ديون الحكومة الأميركية
فلننظرْ إلى إحصاءات صندوق النقد الدولي على هذا الصعيد، كما وردت في تقريرWorld Economic Outlook ، في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، والتي تُظهر أن الدين العام في الدول الأكثر تقدماً بلغ مستويات خطيرة تهددها بالإفلاس. على سبيل المثال، بلغت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في اليابان، بحسب ذلك التقرير، أعلى مستوى في العالم، وهو نحو 257%؛ أي أن الدين العام للدولة اليابانية يفوق الناتج المحلي الإجمالي الياباني بأكثر من ضعفين ونصف ضعف. النسبة في إيطاليا هي نحو 155%، وفي اليونان نحو 207%. والنسبة في كندا هي 110%، وفي بلجيكا أكثر من 113%، وفي فرنسا نحو 116%، وفي إسبانيا أكثر من 120%، وفي البرتغال نحو 131%، وفي الولايات المتحدة الأميركية أكثر من 133%، وفي بريطانيا نحو 109%، وفي ألمانيا نحو 72%، وفي أستراليا 62%.
من البديهي أن مجموعةً من الدول غير المتقدمة ستجد نفسها في الجدول ذاته ضمن الفئة التي ترتفع فيها نسبة دينها العام إلى ناتجها المحلي الإجمالي، وهي نسبة يعدها صندوق النقد الدولي خطيرة على الاقتصاد القومي إذا زادت على 77% عموماً. فهناك دولٌ، مثل السودان، تقارب فيها نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي نسبة 210%، بالإضافة إلى مجموعة من الدول الصغيرة، مثل أريتريا وسورينام والرأس الأخضر وباربادوس... إلخ، التي يرتفع فيها مستوى الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي.
لكن، لا مجال للمقارنة هنا. فشتّانَ ما بين الاقتراض على فقر، والاقتراض على بَطَر. وشتّانَ ما بين القرض الداخلي والقرض الخارجي، وبين الاقتراض بعملة محلية والاقتراض بعملة خارجية. وشتّانَ ما بين من يتوسل القروض من مؤسسات دولية، ومن يتهافت المستثمرون الماليون على شراء أذونات خزينته وسنداته. وشتّانَ، في النهاية، ما بين قرض صغير يجعل نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي تبدو كبيرة بالنظر إلى صِغَر الناتج المحلي الإجمالي لدولة فقيرة، وبين قرض عملاق يبدو صغيراً بالنظر إلى كِبَر الناتج المحلي الإجمالي لدولة غنية. فسنغافورة، مثلاً، تبلغ نسبة دينها العام إلى ناتجها المحلي الإجمالي نحو 138%، ومتوسط الدخل الفردي فيها عام 2021 أكثر من 62 ألف دولار، بينما تشاد تبلغ نسبة دينها العام إلى ناتجها المحلي الإجمالي 44%، ومتوسط الدخل الفردي فيها نحو 620 دولاراً للفرد في السنة! أي أن الدين العام، وأوراقه المالية، هي لعبة الأغنياء أساساً.
وفيما يتعلق بالدول النامية والصاعدة، شتّانَ ما بين دين عام، مثل أيّ دين، يوظَّف في مشاريع استثمارية منتِجة، وبين دين عام يوظَّف في إنفاقٍ جارٍ. ويلاحَظ هنا أن الدين العام، بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، هو نحو 91% في كلٍّ من الهند والبرازيل، وأنه نحوالي 69% في الصين، وكذلك في جنوب أفريقيا، وأنه أقل من 18% في روسيا، وأنه نحو 34% في إيران، على الرغم من الحصار والعقوبات، وأنه نحو 41% في إندونيسيا ذات الاقتصاد القوي الصاعد، ويبلغ في كوريا الجنوبية نحو 51%.
نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي مؤشرٌ مهمّ على قابلية الدول للإفلاس، غير أن الأهم هو الحجم الإجمالي للدين العام، وهو ما يقدّم مادة زخمة للمتاجرة بالأوراق المالية في البورصات. والدين العام الأكبر في العالم هو الدين العام الأميركي، والذي يبلغ أكثر من 30 تريليون دولار عام 2022، منه نحو 7 تريليونات في أيدي وكالات حكومية أخرى، مثل البنك المركزي، والباقي، الذي يزيد على 23 تريليون، ثلثه في أيدي غير أميركيين؛ أي أن الإدارات الأميركية المتعاقبة أنفقت نحو 7 تريليونات دولار على برامجها من أموال غير أميركية. ويمكن أن تضيفوا هذه إلى قائمة أدوات امتصاص فائض القيمة العالمي، التي تزيد، في الآن عينه، في قوة الدولار، لأن الأذونات والسندات الحكومية الأميركية تباع بالدولار طبعاً.
ثم هناك الدين العام الياباني الذي يبلغ نحو 12.2 تريليون دولار، ثم الدين العام البريطاني الذي يبلغ 3.4 تريليونات دولار، ثم الدين العام الفرنسي البالغ 3.3 تريليونات دولار، ثم الإيطالي البالغ 3 تريليونات دولار، ثم الدين العام الألماني البالغ 2.8 تريليون دولار، ثم الدين العام الصيني البالغ 2.7 تريليون دولار، ثم السنغافوري البالغ 1.67 تريليون دولار، ثم الإسباني البالغ 1.5 تريليون دولار، ثم الكندي البالغ 1.3 تريليون دولار، ثم الهندي البالغ 615 مليار دولار، ثم البرازيلي والهولندي الذي يبلغ 555 مليار دولار، لكلٍّ من البلدين، ثم الروسي البالغ 300 مليار دولار. وفي الإجمال، يشير تقرير لموقع CNBC في الـ6 من نيسان/أبريل الجاري، إلى أن الدين العام العالمي سوف يصل إلى 71 تريليون دولار في عام 2022.
هذه التريليونات الـ71 معظمها غربي بالطبع، أو لدولٍ تدور في فلك الغرب، مثل اليابان، وهي أصولٌ ماليةٌ في محافظ استثمارية لصناديق استثمار وبنوك مركزية... إلخ. كما أنها تمول جزئياً بطباعة النقد الذي يجري شراء أذونات وسندات الخزينة به، الأمر الذي يُحدث أثراً تضخمياً يصعب ضبطه من دون رفع سعر الفائدة، وهو ما يخنق الاقتصاد الحقيقي. ومن البديهي أن تلك الديون ذهبت على شكل إنفاقٍ جارٍ عبر الأعوام، الأمر الذي ساهم في نفخ الاقتصادات الغربية، ومعها حصتها من الاقتصاد العالمي، فوق حدها الطبيعي (أي فوق مستواها التوازني الطويل المدى).
كما ساهمت الديون العامة في تحقيق أرباح مهولة للشركات الكبرى المتعاقدة مع الدولة، على الرغم من كل تذمرها النيوليبرالي من التدخل الحكومي في الاقتصاد. فالميزانية العسكرية الأميركية، عام 2021 مثلاً، بلغت أكثر من 753 مليار دولار، وبلغت 714 مليار دولار عام 2020، ذهب منها أكثر من 58 ملياراً إلى شركة "لوكهيد مارتن"، ونحو 37 مليار دولار إلى شركة "رايثون"، و32 مليار دولار إلى شركة "بوينغ"، ونحو 26 مليار دولار إلى شركة "جنرال داينامكس"، وأكثر من 20 مليار دولار إلى شركة "نورثروب غرومان"... إلخ، من أموال دافعي الضرائب الأميركيين وغير الأميركيين، على الأقل لخدمة الدين العام.
باختصار، لم تعد قَدَما الاقتصاد الحقيقي قادرتين على حمل فقّاعة مالية تزداد حجماً. ومثل هذا الظرف الضاغط يتطلب من رأس المال المالي الدولي أن يضع يده على موارد وأسواق ومنافذ سوف يساهم الاستحواذ عليها في حل أزمته، فهي ليست منافساً له فحسب، بل طريق خلاصه. لذلك، فإنها معركة كسر عظم أكبر كثيراً من الطموح الساذج للبعض، في روسيا والصين وغيرهما، إلى الاندماج في الاقتصاد العالمي "على قدم المساواة مع الغرب". ولا نزال، للأسف، نفتقد رؤيةً وبرنامجاً عالميَّين يستندان إلى رؤية أكثر عمقاً لطبيعة الصراع في زماننا؛ أي إلى برنامج حقيقي لمناهضة الإمبريالية.