الدعم المادي لم يعد كافياً.. هل تدفع كييف إلى تدخل مباشر لـ"الناتو"؟
رغم الدعم الغربي الهائل لأوكرانيا، الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي صرّح بأن الحراك الغربي لا يتناسب مع حجم المعركة، وأن اللحظة قد حانت لتدخل عسكري غربي وأطلسي مباشر في هذه المعركة.
لم يبقَ للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا إلا تسميتها، إذ تحوّلت إلى مواجهة مفتوحة بين روسيا والغرب. وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية قد نأت بجيوشها وكوادرها البشرية عن المواجهة المباشرة مع الجيوش الروسية في أوكرانيا، فإنها قد انخرطت في الدعم المالي واللوجستي والعسكري، بما يشبه التدخل الأميركي في الحرب العالمية الثانية قبل الهجوم الياباني على بيرل هاربور. فالواقع أن اختلافاً عميقاً يفرض نفسه بالنسبة إلى الظروف المحيطة بالأزمة الأوكرانية وتلك التي كانت قائمة في زمن الحرب العالمية الثانية.
فإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية قد شرّعت دعمها للحلفاء، خلال الحرب العالمية الثانية، انطلاقاً من تسويقها لمجموعة من القِيَم كمدخل لالتزام أدبي بحماية العالم الحر ومفاهيمه حول الحريات وحقوق الإنسان من خطر النازية، فإن الصورة الحالية في أوكرانيا لا تدلل على خطر وجودي جاثم على الحدود الشرقية للقارة، ولا تتعلق بمحاولة فرض نمط من القِيَم المعادية للقِيَم الإنسانية، وإنما تتعلق بعملية عسكرية روسية تستهدف الحفاظ على خطوط سيادية وقومية روسية حمراء، حاول زيلينسكي مدفوعاً بمشروع أميركي- أطلسي أن يتخطاها، بعد أن كانت مكرّسة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.
وإذا كان الغرب في المرحلة السابقة قد آثر احترام تلك الخطوط الحمراء، وفق ربط النزاع المستند إلى مفهوم الردع والاعتراف المتبادل بمفهوم السيادة والأمن القومي لكل من روسيا وأوروبا، فذلك ليقين مفاده عدم تهديد الأمن القومي لأحد الطرفين، إذ إن أي تهديد قد ينعكس تهديداً للسلم والأمن الأوروبيين والعالميين.
ولأن موازين القوى في القارة الأوروبية ما زالت خاضعة لرؤية حلف شمال الأطلسي، إذ فشلت دول أوروبية، على رأسها فرنسا بقيادة ماكرون، في تشكيل رؤية أوروبية خالصة تقدم للقارة الأوروبية آلية محلية لحماية أمنها الإستراتيجي، فقد وجدت الدول الأوروبية نفسها منتظمة خلف الرؤية الأطلسية التي آثرت إدخال هذه الدول في مشروع استنزاف روسيا، عبر دعم مطلق لأوكرانيا، بعيداً عن أي تقدير للمصلحة الأوروبية المرتبطة عضوياً في أمنها الطاقوي بإمدادات الطاقة الروسية، وبعيداً عن خيار حل النزاع بالطرق السلمية، عبر التفاوض، بما يجنب القارة الأوروبية مساوئ معركة تعدّ مصيرية بالنسبة إلى روسيا إذ لا يمكن لهذه الدولة أن تتحمّل خسارتها.
في هذا الإطار، حاولت الدول الأوروبية، في بداية الأزمة، أن توازن بين دعم مفروض عليها لأوكرانيا وبين محاولة الحفاظ على تواصل ضروري مع روسيا؛ من أجل التقليل من آثار هذه الأزمة في الشعوب الأوروبية. ففي بداية الأزمة، حافظ عدد من القادة الأوروبيين، على رأسهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، على تواصل شبه يومي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلا أن مسار العمليات العسكرية ورفض الطرفين الروسي والأوكراني لأي تنازل دفع باتجاه إحراج أصحاب مسعى التواصل الأوروبي مع روسيا، ونجح المسعى الأميركي-الأطلسي-الأوكراني في تحويل الموقف الأوروبي شيئاً فشيئاً نحو التشدد والانتظام خلف قيادة حلف شمال الأطلسي، باعتبار أن قتال الجيش الأوكراني على حدوده الشرقية لا يستهدف فقط تحرير الأراضي الأوكرانية وإنما دفع الخطر المصنف أوكرانياً بأنه شبيه بالخطر الفاشي أو النازي، عن أراضي دول أوروبا والحلف كلها.
لم يكن الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، يتوقع أن ينجح الجيش الأوكراني في امتصاص آثار الهجوم الروسي في بداياته، إذ كان يسعى إلى محاولة التقليل من خسائره عبر تسجيل بعض الضربات المضادة التي نجحت في إيقاع خسائر، لا يمكن التغاضي عنها، في الجيش الروسي.
وفي وقت لاحق، ساهم تراجع الجحافل الروسية عن مشارف كييف في تشكل قناعة أوكرانية بإمكانية هزيمة الجيش الروسي، إذا توفر الدعم الأوروبي والأميركي المناسب. وعليه، عمل الرئيس الأوكراني على تعديل إستراتيجيته، فانتقل من طلب الدعم العسكري الضروري للصمود في وجه الجيش الروسي إلى محاولة رسم إستراتيجية دبلوماسية تستهدف عزل روسيا وقطع أي علاقة تربطها بالدول الأوروبية، بل والعمل على طردها من كل المنظمات الإقليمية والأمنية، وحتى إخراجها من الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
بطبيعة الحال، يمكن استيعاب عدم واقعية الرئيس الأوكراني، لناحية محاولته تصنيف العالم وفق معادلة إما معه وإما ضده، لاعتقاده بأنه يخوض معركة الدفاع عن وجود أوكرانيا أولاً ومعركة إثبات ذاته ثانياً، إذ إنه دائماً ما يوصف بالهاوي القادم من عالم الكوميديا والتمثيل. وإذا تعمقنا أكثر في تحليل انجرافه وتملك أحاسيسه على واقعيته، فإن عوامل أخرى قد تظهر، إذ لا يمكن إغفال دور أميركي محتمل يستهدف الاستفادة من نرجسيته عبر إيهامه بصحة رؤيته المشيطنة لروسيا ولخطرها على أوروبا، واستغلال ظروف مستجدة قد تساعد في توجيه ضربة تستنزف روسيا التي لم تعد تتحفظ أو تخجل من إعلانها انتهاء صلاحية الأحادية الأميركية بقيادتها العالمية وقيَمها.
بالعودة إلى أوروبا، إذا كانت الدول الأوروبية قد رضخت لقرار شن حرب دبلوماسية وتبني سياسة حظر اقتصادي معقد في وجه روسيا، فإنها ما زالت تحتكم في مقاربتها لتقدير القوة الروسية للعقل، إذ إن قناعة مترسخة مفادها أن القوات الإستراتيجية الروسية ومنظومة أسلحة الدمار الشامل لديها ما زالت خارج المعادلة الروسية في عمليتها العسكرية. وعليه، فإن أقصى ما يمكن أن تساهم الدول الأوروبية في دعمها للقوات الأوكرانية لن يتخطى حدود الدعم المالي المفتوح، وكان آخره موافقة البرلمان الأوروبي على خطة لمساعدة أوكرانيا ب 18 مليار يورو، وبعض الأسلحة المتطورة ذات الفعالية التكتيكية التي لن تستدعي رداً روسياً إستراتيجياً.
وفي هذا الإطار، أمكن تصنيف شحنات الأسلحة الغربية لأوكرانيا والهبات المالية الضخمة، التي تخاطر من خلالها، إذ قد تضغط على دافعي الضرائب في ظل غلاء الأسعار وموجات التضخم التي تضرب الدول الغربية، والتي قد تخرج عن السيطرة في أي لحظة.
على الرغم من هذا الدعم الهائل، الذي كان يشكل حلماً للقيادة الأوكرانية، أمكن لمس عدم رضا زيلينسكي، الذي صرّح بأن الحراك الغربي لا يتناسب مع حجم المعركة، وأن اللحظة قد حانت لتدخل عسكري غربي وأطلسي مباشر في هذه المعركة. في هذا الإطار، يمكن تصنيف إعلان زيلينسكي بشأن الصاروخ الذي سقط في بولندا، إذ أعلن أن روسيا هي التي أطلقت هذا الصاروخ، محاولاً الإيحاء أنه رسالة روسية لقمة العشرين، بالإضافة إلى أن اقتناع الدول الغربية بمسؤولية موسكو عنه قد تؤدي إلى تفعيل مبدأ الدفاع الجماعي في حلف شمال الأطلسي وفق المادة الخامسة من ميثاقه.
بطبيعة الحال، لم ينجح الرئيس الأوكراني في توريط حلف شمال الأطلسي في رد فعل مبني على حسابات تتعلق بادعاءاته، وجاء الرد مباشرة من الرئيس الأميركي جون بايدن، بالإضافة إلى فرنسا وبولندا، إذ أكدوا ضرورة عدم التسرع في إطلاق الاتهامات وترجيح فرضية أن يكون مصدر الصاروخ من دفاعات أوكرانيا الجوية. غير أن ما يمكن استنتاجه مما تقدم أن سلوك الرئيس الأوكراني الذي يفترض محاولة الدفع بحلف شمال الأطلسي إلى مواجهة عسكرية مباشرة، قد يتجرأ على افتعال حادثة تشبه في أهدافها ما أدت إليه واقعة بيرل هاربور التي دفعت إلى دخول الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية.