الثالوث الأميركي المقدس: العنصرية والمادية والعسكرة
على الأميركيين اليوم أن يحسبوا حساب التعارض متفاوت النسب والأقدار؛ فمن خلال وعودها بالازدهار والسلام، تدفع قواعد واشنطن أميركا نحو الحروب المتواصلة والإفلاس.
في خطابه حول حرب فيتنام في ربيع 1967، ذهب مارتن لوثر كينغ إلى أن الوقت حان «لكل من لديهم ضمير ليدعوا أميركا للعودة إلى الوطن». وقبل أن تحاول أميركا إنقاذ الآخرين، ينبغي لها الاعتراف بخطاياها وأوجه قصورها وتصحيحها.
العودة إلى الوطن لا تعني السلبية أو العزلة أو الانعزالية، بل إعادة النظر في ترتيب الأولويات القومية، فطغيان النزعة العسكرية على السياسة الأميركية يحوّل انتباه البلاد عن مواصلة أولوياتها الحقيقية، فلا يزال العمل الشاق لتكوين مجتمع حر بعيداً عن النهاية، ولن تتمكن الولايات المتحدة من التعامل مع ما أشار إليه كنغ بـ«الثالوث العملاق: العنصرية، والمادية، والعسكرة» إلا بالابتعاد عن الحرب.
مهمة إنقاذ
يستحق المبدأ الأساسي الذي يؤمن به كنغ وأمثاله أن يجدد فيه النظر، وهذا المبدأ هو أحد أشكال القناعات التي وضعها مؤسسو مبدأ «نزرع حديقتنا أولاً».
جوهر هذا المبدأ: هدف أميركا هو أن تكون أميركا، وأن تسعى لتحقيق تطلعات تمت صياغتها في إعلان الاستقلال والدستور الأميركي، بحسب تأويلاتها المتواترة عبر الزمان، وفي ضوء خبرات مكتسبة بشق الأنفس، ومن ثم فالهدف السليم لصنعة الحكم الأميركي ليس إنقاذ البشرية ولا فرض نظام عالمي محدد، ولا العمل شرطياً لكوكب الأرض بقوة السلاح، بل الغاية إتاحة الفرصة للأميركيين لتوكيد حقهم في تقرير المصير وإقامة اتحاد أكثر كمالاً في بلادهم. وأي سياسة تعرقل ذلك، كما تفعل الحروب المفتوحة، هي سياسة ضالة وخبيثة.
بإظهار جدوى تأسيس طريقة للحياة قائمة على القيم الإنسانية الليبرالية، قد يساعد الولايات المتحدة على إضاءة الطريق أمام من يسعون إلى الحرية أو كما صاغها راندولف بورن: «التحول في الداخل أساسي لنتمكن من العطاء من دون مقابل»، إلا أن «العطاء من دون مقابل» يعد فائدة إضافية، مكافأة أو ربحاً، ليست هي الغاية المركزية للحياة الأميركية.
باختصار، إذا كان لدى أميركا مهمة إنقاذ، فهي أولاً إنقاذ نفسها. وفي هذا الشأن، تحتاج قائمة الشرور التي سجلها كنغ إلى تغيير وتبديل. ففي أيامنا هذه، عدد الخطايا التي تتطلب التكفير عنها يتجاوز الخطايا الثلاث. لذلك، إصراره أن على أميركا شفاء روحها أولاً يظل اليوم هو الحكمة التي يجدر الإصغاء إليها.
الثالوث البديل
بحسب أندرو باسيفيتش، ثمة تقليد بديل يمكن للأميركيين أن يلوذوا به إذا اختاروا ذلك. يعود هذا المبدأ لأصول الجمهورية (الأميركية) المضادة للإمبريالية، وكاد يطويها النسيان. يتلخص هذا المبدأ في شعار «لا تعبث بمصيري» أو «لا تسحقني»: تقليد يحث على عدم السعي للمتاعب، لكنه يصر على منح الآخرين الاحترام الواجب للولايات المتحدة. ولتحديثه بما يتناسب مع العصر الحالي، يمكن ترجمة هذا الشعار إلى بديل لـ«ثالوث: العنصرية، والمادية، والعسكرة».
أولاً، الغاية من الجيش الأميركي ليست محاربة الشر أو إعادة تشكيل العالم، بل الدفاع عن الولايات المتحدة ومصالحها. ومع ضرورة القوة العسكرية، لكنها بذاتها ليست جيدة ولا مرغوبة، فأي دولة تُعرّف نفسها عبر هيمنتها العسكرية تذهب إلى طريق الهلاك، وهو ما أدركته أجيال سابقة من الأميركيين بالفطرة. أما التفوق العسكري، فهو وهم، والسعي وراءه دعوة للفساد، إن لم يكن كارثة. لذلك، ينبغي للولايات المتحدة الحفاظ فقط على القوات اللازمة لإنجاز مهمة الدفاع.
ثانياً، موقع عمل الجيش الأميركي هو في أميركا. لا ينبغي له أن يكون قوة شرطة أو احتلال عالمية. قد تستدعي ظروف معينة أحياناً إقامة وجود عسكري الخارج مؤقتاً، لكن بدلاً من أن يصير هذا هو القاعدة، على الأميركيين أن يعتبروا هذا الاحتمال شذوذاً يستلزم نقاشاً عاماً وتفويضاً مسبقاً من الكونغرس.
ويُعد تفكيك شبكة قواعد البنتاغون العسكرية مترامية الأطراف عملية طويلة. ينبغي إعطاء أولوية التفكيك لمناطق يتكلف فيها الوجود الأميركي الكثير ويحقق القليل. لذا ينبغي الانسحاب فوراً من الخليج ووسط آسيا.
ثالثاً، وفق مبدأ الحرب العادلة، لا ينبغي استخدام القوة إلا كحلّ أخير في حالة الدفاع عن النفس فقط. أما مبدأ بوش (الابن) الخاص بالحرب الوقائية، أي أن تمنح الولايات المتحدة نفسها حقاً حصرياً باستخدام القوة ضد تهديدات مزعومة حتى قبل تجسدها، فهو مبدأ بغيض أخلاقياً واستراتيجياً، وهو الضد الفعلي للحكمة السياسية المستنيرة.
فرض بوش هذا المبدأ مسبقاً ليبرر غزواً مضللاً بلا ضرورة للعراق في 2003، ولا يزال هذا المبدأ ينتظر إلغاء صريحاً من سلطات واشنطن. على أميركا ألا تشن مرة أخرى أبداً «حرب اختيار» في ضوء أوهام أن العنف يوفر طريقاً مختصراً لحل تعقيدات التاريخ.
عندما يصبح هذا الثالوث البديل أساساً لصنع السياسة بواشنطن، ستتبعه تغيرات هائلة في موقف الأمن القومي الأميركي. سيحدث خفض ملموس للإنفاق العسكري، وسيتقلص وجود وزارة الدفاع الأميركية عالمياً، وستنخفض أرباح مصانع الأسلحة، وثمة شركات «استشارية» بمحيط واشنطن، تقدم خدماتها للحكومة الأميركية، ستغلق أبوابها، وستتضاءل صفوف مراكز الأبحاث في شؤون الدفاع، وستضيّق هذه التغيرات مجال الخيارات المتاحة لاستخدام القوة، وستُلزم صناع السياسات بضبط النفس إزاء التدخل في الدول الأخرى. ومع التخلص من تخصيص موارد لإعادة إعمار بغداد أو كابول، فإن قضية إعادة إعمار كليفلاند وديترويت ستبدأ أخيراً بجذب الاهتمام.
قواعد واشنطن
كان الرئيس ليندون جونسن يأمل أن يكون إرثه برنامج الإصلاح الداخلي الطموح المسمى «المجتمع العظيم»، لكن بدلاً من ذلك، ترك جونسن لخلفه أمة منقسمة بمرارة تعاني مشكلات كثيرة ويشيع فيها التشاؤم. كان اتباع نهج مختلف يتطلب من جونسن الخروج عن قواعد واشنطن، لكنه افتقد الشجاعة اللازمة لذلك، رغم أنه ليس متفرداً في هذا.
هنا المغزى الحقيقي، وربما المأساوي، في قرار باراك أوباما تصعيد الجهد الحربي الأميركي في أفغانستان، خلال سنته الرئاسية الأولى. وعندما قرر أوباما استبقاء روبرت غيتس وزيراً للدفاع، وعيّن جنرالين لمنصبي مستشار الأمن القومي ومدير المخابرات، كان يقدم توكيده لواشنطن بأنه لا يفكر في تحول جذري عن النمط القائم لسياسات الأمن القومي.
بقصد أو بغيره، قدم الرئيس بهذه القرارات ولاءه الكامل لـ«إجماع واشنطن»، وأزال أي شكوك بشأن ذلك.
في خطابه مطلع كانون الأول 2009، بينما كان يشرح لطلاب أكاديمية «ويست بوينت» العسكرية أسباباً تجعله يشعر بضرورة توسيع حرب دخلت عامها التاسع، برر أوباما قراره بإلحاقه بسردية أخرى أكبر كثيراً، فقال: «مثلما لم تفعل أي دولة أخرى، تعهدت الولايات المتحدة بضمان الأمن العالمي لأكثر من ستة عقود، شهدت انهيار أسوار وفتح أسواق وإنقاذ الملايين من الفقر، وتقدماً علمياً هائلاً، وآفاقاً متقدمة لحرية الإنسان».
أراد أوباما أن يعرف الجميع أنه بإرساله عشرات الآلاف من الجنود في صفوف القوات الأميركية الإضافية للقتال بأفغانستان، تكون إدارته قد استكملت عملاً بدأه أسلافه، وأن سياساتهم هي سياساته.
عقود ستة أشار إليها الرئيس في تقديمه الذي يجمل التاريخ الحديث ببراعة كانت هي سنوات صعود العقيدة الأميركية والثالوث الأميركي المقدس: العنصرية والمادية والعسكرة إلى موقع تفوق وسيطرة بلا جدال. هذا ما فعله رئيس جاء للسلطة متعهداً بتغيير طريقة عمل واشنطن، فقد أعرب عن نيته إبقاء عنصر بالغ الأهمية وموروثاً من الإدارات السابقة من دون مساس.
وكما وقع من جونسن، الرئيس الذي كانت له أجندة إصلاح داخلي جريئة، لكنه اضطر إلى التوافق مع الواقع القائم، اختار أوباما التوافق مع إجماع واشنطن.
مع ذلك، فقد أوضح لنا شيئاً واحداً على الأقل: أي تصوّر بأن واشنطن يمكنها التسامح في أي حال مع أي طرح يعيد التفكير في قواعد واشنطن يُعد مشاركة في الخداع المتعمد للذات، فواشنطن نفسها لديها الكثير مما يمكن أن تخسره إذا فعلت هذا.
وإن كان للتغيير أن يأتي يوماً، فيجب أن يأتي من الشعب. وما لم يستيقظ الأميركيون على حقيقة ما كان، فستستمر واشنطن في طريقها. لذلك، الحاجة إلى التعليم ودعوة الأميركيين إلى تحمل مسؤوليات المواطنة الفاعلة المشتبكة مع قضايا الأمة هي حاجة ماسة استثنائياً.
كان التنافر أكبر من أن يتجاهله أحد. كانت العملية التالية مواجهة الأوهام وتشريح تناقضات السياسة الأميركية مؤلمة أحياناً وصعبة دائماً، لكنها تضمنت لحظات ابتهاج عظيم وتحرراً من الأوهام. إن الوعي الذاتي هبة عظيمة، والقدرة على رؤية الأشياء بدون تعمية هبة أعظم.
على الأميركيين اليوم أن يحسبوا حساب التعارض متفاوت النسب والأقدار؛ فمن خلال وعودها بالازدهار والسلام، تدفع قواعد واشنطن أميركا نحو الحروب المتواصلة والإفلاس. وفي الأفق يلوح حطام سفينة أسطورية الأبعاد!