التطبيع على وقع الدماء الفلسطينية
المكابرة الأميركية ورفضها الواقع الذي فرضته معركة طوفان الأقصى تدفعها إلى مزيد من التحركات في المنطقة للقفز إلى الأمام بعيداً من المشكلة الأساسية التي تتمثل في احتلال الشعوب بعيداً من حقيقة الإرادة الشعبية فيها.
يعود الحديث مجدداً عن استعادة مسار التطبيع بين "دولة" الاحتلال والمملكة العربية السعودية بقوة كأحد التطورات التي تتناولها استراتيجية الرئيس الأميركي جو بايدن الجديدة للتعامل مع تطورات الشرق الأوسط بعد طوفان الأقصى وتبعاتها، وسط محاولات أميركية إسرائيلية للخروج من المشهد بأي إنجازات يمكن التلويح بها في ظل العجز الذي رافق حرب الإبادة في غزة رغم الدعم الأميركي المفتوح.
ويأتي ملفّ التطبيع السعودي الإسرائيلي هذه المرة على وقع الدماء الفلسطينية التي شاركت الدول العربية بصمتها وتعاونها مع الولايات المتحدة و"دولة" الاحتلال في نزيفها، فبدلاً من التشدد العربي في الموقف ضد الإجرام غير المسبوق من قبل الاحتلال والخجل من الجرائم، يعود الحديث عن استعادة المسار الذي سبق طوفان الأقصى بين السعوديين و"دولة" الاحتلال.
قبل طوفان الأقصى، كانت التوجه الأميركي في تطبيع السعودية مع الكيان ينطلق من عدة نقاط هي:
- الرغبة في فرض حالة من الهدوء في منطقة الشرق الأوسط في ظل تفرغها لمواجهة الخطر الصيني والخطر الاقتصادي المتنامي الذي سيحمل تهديداً للهيمنة الأميركية العالمية.
- الرغبة في تقليل الحاجة إلى المزيد من القوات الأميركية في المنطقة، وليس تعزيزها. لهذا، كانت ترى أن تشكيل تحالف عربي مع "إسرائيل" في المنطقة سيؤدي إلى مواجهة محاولات إيران التوسعية.
- استعجال إدارة بايدن لتوسيع دائرة التطبيع ونطاقها قبل الانتخابات الأميركية التي يسعى فيها الحزب الديمقراطي لتعزيز مواقفه أمام اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة.
- دفع واشنطن عجلة التطبيع نتيجة فقدانها الثقة بأي طرف في المنطقة، عدا دولة الاحتلال باعتبارها، وفق قناعتها، تشكل امتداداً للهيمنة الغربية، وتعتبر وجودها في المنطقة وجوداً لمركز متقدم للولايات المتحدة، وتعتبرها الضمانة الأوفر لها أمنياً واستراتيجياً وعسكرياً.
الاعتبارات السابقة بعضها تعزز نتيجة طوفان الأقصى، وبعضها بدأ التفكير في تغييره، وبعضها يواجه صعوبات كبيرة. وبالمجمل، عودة الحديث عن التطبيع بقوة الآن ترتبط بشكل وثيق بعدة عوامل تتعلق بالحرب على غزة، وأخرى تتعلق بالموقف الأميركي، وخصوصاً فريق الرئيس جو بايدن الذي يتجهز للانتخابات في تشرين الأول/نوفمبر المقبل، والذي يريد أن يقدم للناخب اليهودي ومؤيدي "إسرائيل" من التيار الديني الأنجليكاني في الولايات المتحدة أنه استطاع فعل كل شيء من أجل الكيان، سواء بالإمداد بالسلاح أو الغطاء السياسي والتجييش ومنع توسع المواجهة ضده خلال الحرب، وأنه ما زال عند وعوده بإقامة تحالف إسرائيلي عربي يجعله كياناً طبيعياً في المنطقة.
أيضاً، تريد إدارة بايدن خلال الفترة الحالية أن تقول إنه في الوقت الذي فشلت "إسرائيل" في الحرب على مدار 12 أسبوعاً من القتال، إضافة إلى الفشل الذريع في الرواية والصورة ووقوعها أمام معضلة الإدانة في محكمة العدل الدولية، فإن الأميركيين مستعدون لاستكمال الدعم إلى أبعد مدى، بما في ذلك الضغط على النظام السعودي للقبول بالتطبيع والتراجع عن كل شروطه التي كانت تقوم على أساس المبادرة العربية للسلام وعقدتها الأساسية إقامة دولة فلسطينية وانسحاب الاحتلال إلى حدود 1967 لإقامة علاقات تطبيعية معها.
واشنطن تريد أن تقول إن معركة طوفان الأقصى لم تؤثر في هيمنتها في المنطقة، وإنها، برغم كل ما حدث، يمكنها أن تعاود تمرير أهدافها، بما في ذلك حماية مصالح الكيان المؤقت، وأن تجبر الدول العربية على الاندفاع نحو التطبيع.
وبصورة أكثر وضوحاً، هذا المشروع لن يكون مشروع دونالد ترامب، كما كان في السابق، بل إن الرئيس جو بايدن هو الأجدر به، ولديه استراتيجية فاعلة الآن ستجبر الدول العربية، وخصوصاً السعودية، على توقيع اتفاق التطبيع.
الضغوط الأميركية على السعودية لإعلان التطبيع خلال الأسابيع الأخيرة باتت كبيرة، والزيارات الأميركية المتزايدة للمنطقة تحمل هذا التوجه علناً، وهو ما قوبل من السعوديين بقبول التراجع عن المبادرة العربية للسلام في مقابل تعهد إسرائيلي أميركي بإقامة دولة فلسطينية فقط، وهو المبرر نفسخ الذي ساقته الإمارات والبحرين بأنهما حصلتا على تعهّد إسرائيلي بعدم ضم الضفة الغربية ووقف الاستيطان فيها.
وللتذكير، بعد 3 أعوام على تطبيع الإمارات، لم تنفذ "دولة" الاحتلال أياً من تعهداتها، سواء كان في التطبيع أو قبله، ولن تنفذ أي تعهد بعده.
المكابرة الأميركية ورفضها الواقع الجديد الذي فرضته معركة طوفان الأقصى تدفعها إلى مزيد من التحركات في المنطقة للقفز إلى الأمام بعيداً من المشكلة الأساسية التي تتمثل في احتلال الشعوب والسيطرة على أنظمتها بعيداً من حقيقة الإرادة الشعبية فيها، فيما السعوديون يرون أنهم أمام فرصة للصعود على حساب القضية الفلسطينية في ظل المأزق الأميركي، فهم يرون أن واشنطن الآن في ظل خوفها من الحرب الإقليمية وخشيتها من استمرار تضرر مصالحها ستضطر إلى منحهم دوراً إقليمياً في المنطقة، إضافة إلى برنامج نووي، وتزويدهم بكل الأسلحة التي كانت ممنوعة عنهم. لهذا، يعطون مرونة كبيرة فيما يتعلق بالتطبيع بصرف النظر عن القضية الفلسطينية، لأنهم يرون أن واشنطن ستقدم تنازلات كبيرة لتحقيق صورة إنجاز بين السعودية والكيان.