"التدويل".. مسارٌ يستكمل انتحار مسيحيي لبنان؟

موقفان مارونيان صادران عن البطريرك الراعي والوزير جبران باسيل يعيداننا إلى زمن وصلت فيه الحرب الأهلية إلى ذروتها، وحوّلت لبنان إلى كانتونات على أنقاض الدولة ومؤسساتها.

  • "التدويل".. مسارٌ يستكمل انتحار مسيحيي لبنان؟

يطالب بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للطائفة المسيحية المارونية بشارة الراعي بـ"تدويل القضية اللبنانية ووضعها في عهدة الأمم المتحدة بعد فشل كل الحلول الداخلية"، وفق ما يرى.

طروحات البطريرك "العابرة للقارات" ليست الأولى، فقد رفع قبل أكثر من عام شعار "الحياد الإيجابي" الذي لم ينتج منه إلا المزيد من الشرخ بين الداخل ومع الخارج، لأنَّ الطرح لم يحظَ بإجماع لبناني، فبقي الشعار مجرد كلام يُمثل لصاحبه موقفاً بمنزلة تسجيل حل للعوام قبل المسؤولين.

طرح الراعي سبقه طرح رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل فكرة اللامركزية الموسعة التي "سنحققها على الأرض"، كما قال، ما لم تتحقق وفق القانون.

الموقفان المارونيان يعيداننا إلى زمن وصلت فيه الحرب الأهلية إلى ذروتها، وحوّلت لبنان بحكم الواقع إلى بلد مشلّع الأوصال تفصل بين كل جهة منه خطوط تماس، وأدت إلى نشوء كانتونات على أنقاض الدولة ومؤسساتها التي انهارت بفعل 15 عاماً من العبث الناري التدميري والطائفي والدموي والتهجيري (1975 – 1990).

الكلام الصادر عن رئيس أكبر تيار سياسي مستغرب، كون هذا التيار بدأ صعوده مع مؤسسه الرئيس السابق للجمهورية ميشال عون قبل قرابة 32 عاماً بخطاب لبناني جامع، وبحشد طائفي متنوع، وبتوجه مشرقي ينبذ الطائفية والطائفيين، ويقف بصلابة في وجه النهج الميليشياوي. معنى ذلك أنَّ الأمور وصلت إلى أعلى السقوف، ولم يعد أحد يستطيع النزول عنها.

كلام الراعي وباسيل فيه من الخطورة ما يقود إلى تقويض الدولة الواحدة، فضلاً عن تقويض الكيان برمته... والخطورة الكبرى تكمن في أنه صادر عن هاتين الشخصيتين بالذات، التي توسّم في سياستهما عقلانيو المسيحيين بشائر الشراكة والانفتاح والمحبة، وكسر أغلال التقوقع وسياسات المقامرة والمغامرة التي تطبع مواقف غالبية القادة المسيحيين الذين أدت سياساتهم إلى خسارات طائفتهم على مستوى الحضور والدستور والمؤسسات، ناهيك بالفرز المجتمعي الذي خلخل الديموغرافية وكل التأثيرات الناتجة منها.

أذاع البطريرك الراعي طرحه الجديد "التدويل"، لكن ما لم تقله بكركي فيه تفاصيل كثيرة. ربما، إذا ما تم تمحيصها يكون الخاسر فيه هو لبنان. منذ إعلانه هذا، ساد صمت سياسي في البلد. وفي واقع الكلام، هناك إعلان صريح عن أن اتفاق الطائف انتهت مفاعيله، وأن من يتمسك به لم يستطع تطبيقه، وبالتالي يجب إرساء حقبة جديدة.

بهذه النتيجة، فإن الدول الخليجية لم يعد لها أي "مونة" على لبنان، وخصوصاً السعودية، التي كان لها في الأشهر الماضية مواقف عدة عبر عنها سفيرها في بيروت وليد البخاري، الذي أقام احتفالاً في اليونيسكو لحماية اتفاق "الطائف" وتكريسه حلاً مستداماً للبنان. وربما دخلت المملكة مع لقاء رئيس حكومة لبنان ووليد العهد محمد بن سلمان نجيب ميقاتي على هامش القمة الصينية السعودية باب انفتاح من المبكر معرفة زاويته.

عندها، يصبح السؤال: هل يستطيع البطريرك إخراج هذا البلد من العباءة العربية؟ وهل يوافق سنة لبنان بكركي على هذا الطرح؟ بالطبع، يستحيل أن يجاري السنّة طرح البطريرك، وهنا أول سقوط الطرح.

أما عن الشيعة والتدويل، فيدرك الراعي أن مسار العلاقات الدولية مع هذه الطائفة سيئ جداً، من قوات المارينز، إلى مساندة المجتمع الدولي لـ"إسرائيل" في حروبها مع لبنان، إلى العقوبات والتصنيفات التي يطلقها عليهم كأحزاب أو شخصيات، إلى الدور الحصاري والضاغط الذي تمارسه الولايات المتحدة علناً على لبنان لليّ ذراع المقاومة، باعتراف مسؤولين أميركيين على صلة بالملف اللبناني. إذاً، هنا أيضاً يسقط الطرح البطريركي.

ماذا عن الدروز؟ تاريخياً، لم يسبق أن انفصلت الطائفة عن محيطها العربي، وهي لن تنفصل بالتالي عن محيطها الإسلامي في لبنان.

وتبقى المناداة بالتدويل أسيرة سؤال واقعي، فلبنان منقسم إلى محاور، والولايات المتحدة الأميركية جزء من محور ومن مشكلة كبرى في السياسة والأمن والاقتصاد، ثم إن فرنسا الأوروبية لم تستطع النجاح في إيجاد حلول جدية، وبقيت مبادراتها إعلانية إعلامية، وظلت زيارة رئيسها استعراضية، وخصوصاً أن دورها غير مجدٍ كمثيلاتها في الأمم المتحدة التي ساهمت في حروب لبنان ومآسيه.

يطرح البطريرك الراعي عنواناً فضفاضاً، ويطرح التيار الوطني الحر كانتوناً تقوقعياً لا يؤدي مستقبلاً إلا إلى التقسيم أو الفدرلة، في قالبٍ مموه بعنوان اللامركزية الإدارية الموسعة. كل ذلك في الوقت الضائع، وضربات الجزاء تزداد في مرمى المواطنين يوماً بعد يوم.

أما صفارة الحكم التي تُنهي لعبة "المصارعة" في الداخل، فإنها تتطلب حتماً مباراة ودية في الخارج تنتظم بعدها الساحة هنا... قبل أن ينتحر مسيحيو لبنان بخيارات لم تكن أولى أخطائهم، على الأقل في التاريخ الحديث، وينحروا معهم لبنان الرسالة وملتقى الأديان والحضارات.