الانطلاقة الجهادية.. لماذا؟
الانطلاقة الجهادية هي انطلاقة روح جديدة للثورة الفلسطينية كان لحركة الجهاد الإسلامي بفكرها الثوري وعملياتها الفدائية الدور الأهم والأبرز في إحيائها.
تُحيي حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين ذكرى انطلاقتها الجهادية السنوية بتاريخ 6 تشرين الأول/أكتوبر.
هذه الذكرى ليست تاريخ البيان التأسيسي الأول للحركة أو أول مؤتمر حركي أو أول عملية فدائية لها. وقد كانت بعد المرحلة الأولى في تاريخ الحركة التي شهدت حواراً فكرياً وسياسياً حول العلاقة بين الإسلام وفلسطين في نهاية سبعينيات القرن العشرين، وبعد المرحلة الثانية في تاريخ الحركة التي شهدت تأسيس التنظيم المُقاتل وتنفيذ العمليات الفدائية في مطلع ومنتصف ثمانينيات القرن العشرين.
لكن ذكرى تاريخ الانطلاقة الجهادية للحركة هي ذكرى انطلاقة كل من الثورة الشعبية الفلسطينية المعروفة بالانتفاضة الأولى، والمرحلة الثالثة للحركة بتاريخ 6 تشرين الأول/أكتوبر 1987، واليوم الذي حدثت فيه "معركة الشجاعية" بين مجموعة فدائية للحركة وقوات الاحتلال في حي الشجاعية في مدينة غزة.
المعركة التي اُستشهد فيها أفراد المجموعة اختتمت سلسلة من العمليات الفدائية للمجموعة التي كان بعض أفرادها قد نجحوا في انتزاع حريتهم بالهروب من سجن غزة المركزي قبل استشهادهم بشهور. وقد افتتحت مرحلة تاريخية جديدة في تاريخ "الجهاد الإسلامي" والثورة الفلسطينية.
الانطلاقة الجهادية هي انطلاقة روح جديدة للثورة الفلسطينية كان لحركة الجهاد الإسلامي بفكرها الثوري وعملياتها الفدائية الدور الأهم والأبرز في إحيائها بعد حالة السكون في النضال الوطني الفلسطيني عقب حرب لبنان الأولى عام 1982.
كتب عن هذه المرحلة مؤسس الحركة المفكر الشهيد فتحي الشقاقي موضحاً: "البداية كانت في ذلك اليوم -معركة الشجاعية- الذي كان بداية لمرحلة ثالثة من مسيرة حركتنا. وقد دخل معها شعبنا الفلسطيني مرحلة جديدة من مراحل تاريخه النضالي، وهي مرحلة الانتفاضة المستمرة"، فكان دم مجاهدي الحركة وعملياتها الفدائية العامل الذي أحيا روح الثورة وأوجد بيئة ثورية انفجرت انتفاضة شعبية في قطاع غزة امتدت إلى الضفة الغربية بعد حادثة المقطورة بعدها بشهرين، فجاء اختيار الحركة ليوم 6-10-1987 تاريخاً لانطلاقتها الجهادية، لأنه اليوم الذي تحوّل فيه جهادها العسكري التنظيمي إلى حالة مقاومة شعبية شاملة ومستمرة ثم مُسلحة.
الانطلاقة الجهادية هي انطلاقة فكرة جديدة شكلت تجاوزاً إبداعياً وإضافة نوعية للحركتين -الوطنية والإسلامية- في فلسطين، وأنهت الفصام النكد بين الوطنيين والإسلاميين، وحلّت الإشكالية التي كان بموجبها التيار الإسلامي الفلسطيني يستبعد فلسطين كقضية مركزية له ويفتقد رؤية ومشروعاً جهادياً لتحريرها.
كان التيار الوطني الفلسطيني يستبعد الإسلام كنظرية ثورية له ويُغيّبه عن مرجعيته الفكرية والنضالية، فجاءت فكرة "الجهاد الإسلامي" لتُنهي الفصام ولتحل الإشكالية بالإجابة عن السؤال الحركي الإسلامي فلسطينياً، وعن السؤال الوطني الفلسطيني إسلامياً، فاتخذت الإسلام منطلقاً ومرجعية، وفلسطين هدفاً وقضية، والجهاد نهجاً ووسيلة.
هي حركة إسلامية قضيتها المركزية والرئيسية وطنية، وحركة وطنية مرجعيتها الفكرية والنضالية إسلامية، والفكرة فيها هي الأساس الذي يسبق البندقية والطلقة والبوصلة التي توجّه البندقية والطلقة.
الانطلاقة الجهادية هي انطلاقة مشروع جديد يربط بين تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني وتحرير الأمة العربية والإسلامية من التجزئة والتبعية والتخلّف، رداً على المشروع الغربي الاستعماري القائم على ركيزتي زرع الكيان الصهيوني في فلسطين وتجزئة الأمة الإسلامية وتفريقها، فكان مشروع التحرير والوحدة هو الرد الطبيعي على المشروع الغربي.
وعن دور الشعب والمقاومة "والجهاد" في فلسطين كرأس حربة وطليعة لهذا المشروع، كتب المفكر الشهيد فتحي الشقاقي: "أن يستمر شعبنا ومجاهدونا في مواجهة العدو سياسياً وعسكرياً بكل الوسائل حتى تنفجر طاقات الأمة نحو النهضة والوحدة والاستقلال تحت راية الإسلام العظيم، وتحشد طاقات أمتنا بكاملها أو جزء منها نحو المعركة الفاصلة في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس". وقد حدد في موضعٍ آخر الجزء المطلوب من الأمة، ومنه تحرير فلسطين، فسماه "محور طهران-القدس".
الانطلاقة الجهادية هي انطلاقة رؤية جديدة لمستقبل فلسطين والأمة، فيها استشراف قرآني لنهاية الصراع مع الكيان الصهيوني كرأس حربة للمشروع الاستعماري الغربي لمصلحة فلسطين والأمة.
هذه الرؤية المُشرقة ترتبط بتدمير العلو والإفساد الإسرائيلي بعد هزيمة "إسرائيل"، ثم زوالها من الوجود كحتمية قرآنية وتاريخية وواقعية مستوحاة من "وعد الآخرة" في القرآن الكريم وسُنن التاريخ ومُعطيات الواقع، على يد "عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ"، بعد أن تنطبق على اليهود الصهاينة الآية القرآنية: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} مرةً أخرى، وبعد أن يقوم الشعب الفلسطيني ومقاوموه بدورهم في النصر، وهو إبقاء جذوة الجهاد مشتعلة واستمرار مقاومة الكيان الصهيوني ومشاغلته واستنزافه، وبعد أنْ تقوم الأمة العربية والإسلامية بدورها في المعركة الفاصلة مع العدو، وخصوصاً محورها المقاوم للكيان الصهيوني والاستعمار الأميركي والهيمنة الغربية. وهكذا تحمل انطلاقة "الجهاد" رؤية فيها بُشرى لمستقبل فلسطين المُشرق ولمستقبل أمة قلبها فلسطين.
الانطلاقة الجهادية هي انطلاقة فقه جديد للثورة والواجب؛ فقه الثورة المتجاوز لفقه الانتظار، وفقه الواجب المتجاوز لفقه الإمكان. وعن هذا الفقه المتجاوز، كتب الشهيد الشقاقي: "إنَّ الثورة عمل غير مؤجل، وإنَّ الوجوب فوق الإمكان، وإنَّ مهادنة العدوّ والهروب منه حتى يكتمل ما يُسمى بالقدرة المكافئة هي وهم يشل الحركة ويقتلها ويسمح للعدو بالنمو والتعاظم ويجعله دوماً في الوضع الأفضل للانقضاض".
وبهذا الفقه الثوري، تجاوزت الحركة بانطلاقتها الجهادية كل المبررات الدينية والوطنية الضعيفة الداعية إلى الانتظار والمؤجلة للجهاد، وتجاوزت كل نظريات الإمكان المُعطّل للواجب، فذهبت بانطلاقتها إلى تكريس الواجب كقيمة ثابتة في الفكر والممارسة تتجاوز حدود الإمكان، فتنهض بالثورة في أشد الظروف صعوبةً وأكثر الأزمنة استحالةً، تماماً كثورتي الحسين بن علي وعز الدين القسام -رضي الله عنهما- متجاوزة فكرة "الواجب فوق الإمكان" إلى فكرة "الواجب يبدع الإمكان". وقد بدأت بالسكين وانتهت بالصاروخ.
الانطلاقة الجهادية هي انطلاقة صوت جديد للإسلام الوسطي الثوري الحضاري المنتمي إلى تيار التنوير والتجديد والوحدة في مقابل الإسلام الآخر بوجوهه المختلفة: الإسلام الأميركي المهادن الذي يزرع في النفوس القابلية للاستعمار والرضا بالاستحمار والخضوع للاستكبار، والإسلام التكفيري المتوحش الذي يلتقي فيه التطرف الديني والتعصب المذهبي والجمود الفكري، والإسلام الطقوسي السكوني الذي يحصر الإسلام في المسجد والسلوك الشخصي بعيداً من الحياة والسياسية والثورة، والإسلام الحزبي الضيق الذي يحتكر الإسلام في الجماعة واجتهاد شيوخها متجاهلاً تنوع الأمة واجتهاد علمائها.
لذلك، كتب المفكر الشهيد الشقاقي عن صوت الإسلام الجديد: "حركة الجهاد الإسلامي هي تجسيد للإسلام المحمدي الأصيل؛ الإسلام الذي يتجاوز كل ما هو هامشي وجزئي ووهمي إلى ما هو جوهري وكلي وحقيقي، الإسلام الذي يرتبط بآلام الأمة وهمومها؛ الإسلام المقاوم للاستعمار والصهيونية، المقاوم للجمود والتخلف، الإسلام الذي من المستحيل أن يتعايش مع الاحتلال".
الانطلاقة الجهادية هي انطلاقة صوت جديد لفلسطين: الأرض والشعب والقضية والمقاومة، الأرض الكاملة من البحر إلى النهر، والشعب الواحد داخل فلسطين وخارجها، والقضية المركزية للحركة والشعب والأمة، والمقاومة الموحدة على هدف التحرير.
إنها صوت جديد لفلسطين يرفض احتكار صوتها تحت شعار "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني"، ويرفض تغييب صوتها تحت شعارات قومية وإسلامية أُممية، ويضع الانتماء إلى فلسطين والجماعة الوطنية في إطار تكاملي مع الانتماء القومي إلى الأمة العربية، والانتماء الديني إلى الأمة الإسلامية، ويعطي الوطنية مفهوماً دينياً مقدساً نابعاً من قداسة أرض فلسطين وبركتها، كما جاء في القرآن والسُنة.
إنها صوت جعل حب الوطن من الإيمان، والدفاع عنه واجباً شرعياً، والجهاد لتحريره فريضة إسلامية، فكانت فلسطين بانطلاقة صوتها الجديد، كما قال الشهيد الشقاقي، "تقع في قلب القرآن... وآية من الكتاب... وقضية مركزية للأمة".
الانطلاقة الجهادية هي انطلاقة نمط جديد من السياسة فكراً وممارسةً وعلى مستوى النظرية والتطبيق؛ السياسة الملتزمة بالمرجعية الإسلامية والحقوق الوطنية والضوابط الأخلاقية والقيم الثورية، بعيداً من السياسة الانتهازية تحت غطاء الواقعية، والسياسة الانهزامية تحت ستار العقلانية، وبعيداً من السياسة التي ترى في مصلحة الحزب مصلحة الدين والوطن، وفائدة الجماعة فائدة للشعب والأمة...
إنها السياسة التي تلتزم بمحددات ثابتة محورها فلسطين لتحديد علاقاتها بالآخرين، فتقترب أو تبتعد عنهم بقدر اقترابهم أو ابتعادهم عن الإسلام وفلسطين وقضيتها ومقاومتها، وبقدر اقترابهم أو ابتعادهم عن الكيان الصهيوني اعترافاً وتطبيعاً وتحالفاً. لذلك، قال الشقاقي: "إن تحديد المواقف هو الضمان لعدم الانزلاق، إذ إن علينا أن نحدد مسطرة ثابتة تحكم العناصر الثابتة في المنهج السياسي في مسيرة جهادنا".
النمط الجديد من السياسة الذي رسخته الانطلاقة الجهادية لحركة الجهاد الإسلامي كثورة شعبية وفكرة إبداعية ومشروع تحرري ورؤية استشرافية وفقه ثوري وصوت جديد للإسلام وفلسطين... قادها إلى التمسك بالمبادئ والحقوق ورفض المشاركة في لعبة الإلهاء الكبرى التي بدأت بعد اتفاقية وسلطة أوسلو، فتمسكت بالسير على نهج أبي ذر الغفاري الثوري وثورتي الحسين والقسام في التمسك بالمبادئ والحقوق، فإن لم تستطع إنجاز التغيير المنشود الآن، فلن تتخلى عن دور الشهادة على الواقع والشهيد على المرحلة حتى يتغير الواقع وتتبدل المرحلة... ويومئذٍ يفرح المؤمنون الثابتون على المبادئ والحقوق بنصر الله {ألا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.