الاتحاد الأوروبي.. خسائر لا تنتظر نتائج العملية الروسية في أوكرانيا
بطبيعة الحال، أسهمت العملية الروسية في أوكرانيا في إعادة تموضع دفعت الدول المعنية بتداعياتها إلى إعادة صياغة نهجها المتبع على مستوى سياساتها الخارجية.
ليس من السَّهل أن نلجأ إلى تقديم قراءة تستعرض قائمة الدول المعنية بما يحدث في أوكرانيا وفق تقديرات الربح والخسارة لديها؛ فالعلاقات الدولية تستند إلى التفاعل المحكوم بالبراغماتية الساعية لتحقيق المصالح القومية دون أي معيار آخر.
ولذلك، إن البحث عن هذه المصلحة قد يقدم تبريراً لأيِّ انعطافة، مهما كانت متعارضة مع المواقف الأولية حول أزمة معينة. وبالنظر إلى هذا التحليل، يصبح من الصعوبة في المبدأ تقديم رؤية مبكرة حول ما يُفترض أنها دول قد تخسر أو تربح جراء ما يحدث في أوكرانيا.
بطبيعة الحال، أسهمت العملية الروسية في أوكرانيا في إعادة تموضع دفعت الدول المعنية بتداعياتها إلى إعادة صياغة نهجها المتبع على مستوى سياساتها الخارجية؛ فالعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا ساهمت في تسريع إعادة قراءة التوازنات الدولية، وفرضت مقاربات جديدة تفترض نتائج حتمية لتلك العملية، إذ إنَّ إصرار الروسي على تحقيق أهدافه، على الرغم من تأثير ردود الفعل الإقليمية والدولية المتوقعة، يظهر أنّه درس طويلاً خياراته التي أقدم عليها في أوكرانيا.
وبافتراض البحث عن المصلحة العليا للدولة، أخذت بعض القوى الإقليمية والدولية موقفاً وسطياً أو محايداً، بحيث تضمن عدم تأثرها سلباً بالنتائج المفترضة لهذه العملية، غير أنّ الاتحاد الأوروبي ارتكز على قراءة مختلفة لوقائع النتيجة الحتمية للعملية العسكرية في أوكرانيا؛ فمنذ اللحظة الأولى لانطلاقها، أظهرت الدول الأوروبية عجزها عن محاولة قراءة الواقع المستجد خارج مفاهيم سادت خلال فترة الحرب الباردة من حيث التبعية الأوروبية للقرار الاستراتيجي الأميركي.
وعلى الرغم من عمق العلاقات الّتي تجمع الاتحاد الأوروبي بالدولة الروسية وتشابكها، لم تقدم دول الاتحاد الأوروبي على فرض مصالحها وأمنها القومي كإطار حاكم لموقفها من الأزمة في أوكرانيا، إنما فضلت بمعظمها المحافظة على موقعها التقليدي في الحلف الغربي الخاضع للقرار الأميركي.
وإذا كان تبريرها لهذا الموقف على أنه متوافق مع المبادئ والأسس الليبرالية التي تقوم عليها نظرياً فلسفة الاتحاد لعلاقاته الخارجية، حيث التعاون والسلام والأمن والمساءلة المتبادلة والالتزام المشترك بالقيم العالمية للديمقراطية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان، فإنَّ مسار الأحداث قد يجعل الاتحاد الأوروبي خاسراً أولاً على الأقل، إن لم نقل وحيداً، بين الأطراف المعنية بالعملية العسكرية الروسية.
إنَّ إشكالية الاتحاد الأوروبي تتمحور حول ارتباط فعاليته بعملية بناء فضاء من السلام الإقليمي، إذ تستند فكرته إلى ما يُعرف بالتكامل الاقتصادي الذي يُفترض أن يساعد في تحقيق التعاون أو التكامل السياسي.
وعلى الرغم من أنَّ الاستراتيجية التي تم اعتمادها في عملية بناء الاتحاد الأوروبي تستند، إضافة إلى انطلاقه من مشروع اقتصادي، إلى ضرورة بناء وحدة أوروبية، وقدرة على جذب دول تسعى إلى الاندماج به، بناءً على رؤية تفترض فيها قيمة عليا، إذ تبذل تلك الدول جهوداً من أجل الوصول إليها، فإنَّ التكامل السياسي لم يبلغ مستوى يمكن من خلاله إقناع كلّ الدول الأوروبية بجدوى وفعاليّة آليات الاتحاد ومؤسساته في ضمان مزايا اقتصادية وأمنية تشبع حاجاتها.
ونتيجة الخوف من تصدّع بنيانه، بسبب القناعة التامّة لدوله الشرقية بأن ما يمكن أن يقدمه الاتحاد في هذا المجال لا يرقى إلى مستوى ما يعرضه حلف شمال الأطلسي من ضمانات، كان الاتحاد الأوروبي ملزماً بالالتحاق باستراتيجية الحلف، واندفع في خياراته ضمن مشروع مواجهة روسيا وفق سيناريوهات لا تتوافق مع مفهوم المصلحة الاستراتيجية العليا للاتحاد.
إنّ التوتر في شرق أوروبا، عبر استعداء الدولة الروسية وحلفائها، إضافة إلى استعداد بعض دول الاتحاد لرفع مستوى التسليح فيها والتخلي عن حيادها عبر الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، بما قد يدخل القارة الأوروبية في نوع من سباق للتسلح، لا يساعد في تحقيق التكامل الوظيفي الذي تقوم عليه استراتيجية تطوير فاعلية عمل الاتحاد، نتيجة توجيه الجهود لتحقيق الأهداف الاستراتيجية القومية للدولة، عبر التوجّه إلى أطر لا توافق آليات عمل الاتحاد.
من ناحية أخرى، تفترض استراتيجية أمن الطاقة للاتحاد الأوروبي ضرورة الحصول على كميات كافية بأسعار مناسبة على المدى الطويل، إضافةً إلى كيفية ضمان الحصول على هذه الكميات بشكل مستمر، مع إمكانية تعويض ما قد يترتّب على أيّ توقف لأسباب قد تكون خارجة عن سيطرتها.
وفي هذا الإطار، يفترض أن تصنّف محاولات دول الاتحاد الأوروبي في مجال أمنها الطاقوي ضمن مسعى جماعي تكاملي يتحقق عبر قرار اتحادي، غير أنَّ الواقع يدلّ على غير ذلك، إذ إنَّ دول الاتحاد الأوروبي ما زالت عاجزة عن التوافق على إطار اتحادي لضمان حاجاتها من مصادر الطاقة؛ فرؤية هنغاريا وصربيا والنمسا، الرافضة فرض حظر على النفط الروسي، تختلف عن موقف بولندا وتشيكيا وبريطانيا، المرتبط عضوياً بالموقف الأميركي، فيما يبقى الموقف الفرنسي والألماني مرتكزاً على وسطية تبحث عن حلّ يقلّل من الخسائر الحتمية لهذه الأزمة.
إنّ مشروع "نورد ستريم 2"، على سبيل المثال، شكّل في المرحلة الماضية مادة لاختلاف الرؤى بين ألمانيا من جهة، وفرنسا ودول أوروبية أخرى من جهة أخرى. وعلى الرغم من أنَّ قدرته ستوفر الغاز لأكثر من ثلث الطلب المستقبلي لأوروبا، وبكلفة أقل من 25% من السعر الحالي، إضافةً إلى كونه الخيار الأكثر موثوقية في إطار تحقيق الرؤية الاقتصادية لألمانيا وأوروبا في المستقبل، فإنَّ التوافق حوله بقي مفقوداً، إذ لم تتبلور رؤية جامعة تجاه موقع روسيا وعلاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، الذي ما زال يرفض تقبّل مجال حيوي روسي في شرق أوروبا.
إنّ إمكانية الوثوق بروسيا كدولة جارة وشريك حيوي ضروري لضمان الأمن الطاقوي للاتحاد الأوروبي ما زال أسير تأثيرات استراتيجيات الولايات المتحدة الأميركية ورؤاها عبر حلف شمال الأطلسي، إذ إنها تسعى إلى تطويق روسيا عبر تثبيت قواعد عسكرية على حدودها.
إضافةً إلى ذلك، لم تكن محاولات الدول الأوروبية للردّ على القرار الروسي ببيع النفط للدول الأوروبية بالروبل منسّقة تحت سقف الوحدة الأوروبية حصراً، بل إنَّ قراراً سيادياً قومياً لكلِّ دولة على حدة دفع دول الاتحاد الأوروبي إلى مقاربة حلول تناسبها، انطلاقاً من تمييز الرئيس الروسي بين دول صديقة وأخرى غير صديقة.
وعلى الرغم من رفض هذا القرار، فإنَّ مجرد إعلان الدول الأوروبية أنَّ صعوبة شراء النفط الروسي بالروبل ترتبط بعدم إمكانية الالتفاف على العقوبات الأحادية الأميركية، إذ إن العقوبات الأوروبية استثنت بشكل مقصود قطاع الطاقة الروسي لأهميته الحيوية لأوروبا، أظهر عدم قدرة أوروبية على بناء إطار سيادي متحرر من الهيمنة الأميركية.
إذاً، وبما أنَّ الفعالية على مستوى العلاقات الدولية ترتبط ارتباطاً عضوياً بالاستقلالية والقدرة على المبادرة والتحرر من أي هيمنة، مهما كان مستواها ومصدرها، فإن علاقة التبعية للولايات المتحدة الأميركية، وانعدام القدرة على تخطي الأزمات الدولية والإقليمية، وفق منظور الاستقلال السيادي ومتطلبات المصلحة العليا للاتحاد، جعلت الاتحاد الأوروبي على رأس قائمة الدول المتأثرة سلباً بالأحداث في أوكرانيا، إذ يمكن التقدير أنه أول الخاسرين، بغض النظر عن مسار العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا ونتائجها.