الألغام في سوريا: الموت وبتر الأعضاء مستمران!
إلى جانب الخسارة الفادحة في الأرواح، فإن الألغام والذخائر غير المتفجرة وغيرها من مخلفات الحرب تتسبب بخروج مساحات واسعة من دائرة الاستثمار الزراعي.
قبل بضعة أيام، قضى لغم أرضي على حياة 11 عاملاً، كان يقلّهم جرار زراعي في طريق عودتهم إلى منازلهم في قرية دير العدس في ريف درعا، بعد ليلة طويلة قضوها في العمل بحصاد محصول القمح.
الحادثة، التي تعتبر الأكثر دمويةً، ولا سيما مع ارتفاع أعداد الضحايا والمصابين إلى أكثر من 30 شخصاً، تعيد تسليط الضوء على خطورة الألغام والذخائر غير المتفجرة التي لا تزال منتشرة في أنحاء مختلفة من البلاد، مهددةً بحصد أرواح المزيد من السوريين، والتسبّب بعاهات دائمة للآخرين، وخصوصاً الأطفال، الذين تشير البيانات الإحصائية الدولية إلى أنَّهم يشكلون 25% من ضحايا الألغام والذخائر المتفجرة في سوريا.
وبحسب تقرير سابق لمنظمة الصليب الأحمر الدولي، فقد "جمعت دائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام حتى الآن أكثر من 12 ألف سجل لضحايا حوادث ذخائر متفجرة في أنحاء مختلفة من سوريا، لقي 35% منهم مصرعهم، وأُصيب 65% جراءها. ويشكل الأطفال أكثر من 25% من هؤلاء الضحايا، إذ وقعت معظم الحوادث أثناء لعبهم. أما من كُتبت لهم النجاة، فيعاني ما يقارب 50% منهم بتراً في أحد أطرافهم، ويعاني 2 من كلّ 3 ناجين إعاقة مدى الحياة، ما يمثل عبئاً إضافياً على نظام الرعاية الصحية في البلاد، الَّذي ينوء بحمله الثقيل بالفعل".
ويضيف التقرير الصادر في شهر نيسان/أبريل من العام الماضي: "يندرج المزارعون، ورعاة الماشية، والبناة، وجامعو الخردة، وعمال الإنشاءات، والعاملون في المجال الإنساني، والأطفال الذاهبون إلى مدارسهم، والنازحون، والعائدون إلى ديارهم، ضمن الفئات الأكثر عرضة للخطر، ما يؤثر في إدرار الدخل في بلد يعاني بشدة أزمة اقتصادية ودماراً".
ويؤكد تقرير صادر عن "مرصد الألغام الأرضية"، وهو مبادرة غير حكومية توفر البحوث وتحصل على دعم الأمم المتحدة، أنَّ سوريا باتت تتصدر دول العالم في عدد ضحايا الألغام الأرضية، متقدمة بذلك على أفغانستان.
ووفقاً للإحصائيات التي أعدها المرصد، فقد تسببت الألغام بقتل وإصابة نحو 2729 شخصاً في سوريا حتى عام 2020، في حين تذهب تقديرات منظمات غير حكومية تُعنى بحقوق الإنسان إلى القول إن نحو 241 شخصاً قتلوا نتيجة انفجار ألغام بهم في العام 2021، كان من بينهم 114 طفلاً، مشكّلين بذلك ما نسبته نحو 47.3% من إجمالي عدد الضحايا. أما النساء اللواتي فقدن حياتهن جراء ذلك، فقد وصل عددهن إلى 19 امرأة.
الأخطر لم يأتِ بعد
قد لا تعكس الأرقام الحالية الحجم الحقيقي لخطورة الألغام والذخائر غير المتفجرة، رغم فداحة بعض الحوادث، لكن من المتوقع أن يزداد عدد الضحايا تدريجياً لأسباب عدة، أهمها:
- عودة المزيد من النازحين واللاجئين إلى منازلهم ومناطقهم، وما يشكله ذلك من زيادة طبيعية في النشاط السكاني في تلك المناطق، التي كانت نقاط تماس بين الأطراف المتحاربة أو ساحة لمعارك كبيرة، وما أكثرها على امتداد الجغرافيا السورية!
تالياً، إن فرصة حدوث احتكاك مباشر بين الأفراد ومخلفات الحرب سيكون أكبر، وخصوصاً الأطفال أثناء لعبهم وتوجههم إلى المدارس، وهي أكثر الحالات شيوعاً حالياً، أو الكبار أثناء عملهم وبحثهم عن لقمة العيش.
- توجه الكثير من السوريين إلى إعادة استثمار أراضيهم الزراعية التي توقفوا لفترة زمنية ما عن زراعتها بسبب الأوضاع الأمنية السائدة، أو توسيع نشاطهم الزراعي في ضوء الواقع الاقتصادي الذي تمرّ به البلاد، ما يعني بطبيعة الحال زيادة عدد المشتغلين بالزراعة وارتفاع فرص تعرضهم لاحتكاك ما مع الألغام والذخائر غير المتفجرة.
وقد تكون الحادثة التي قُتل فيها العام الماضي نحو 13 امرأة و7 أطفال أثناء بحثهم عن محصول الكمأة التي تظهر في الأراضي غير المزروعة، تأكيداً لحجم خطورة الظاهرة على حياة السكان من مختلف الفئات العمرية.
- جانب من خطورة الألغام والذخائر غير المتفجرة في سوريا يكمن في وجودها وانتشارها ضمن المناطق والأبنية السكنية التي شهدت معارك بين الجيش السوري والفصائل المسلحة بتسمياتها المختلفة.
ورغم أن الوحدات الإدارية في المحافظات تولّت ضمن الإمكانيات المتاحة فتح الشوارع وإزالة الأنقاض والركام، فإنَّ الأبنية المهدمة، التي تعدّ بالآلاف، لا تزال تشكل مصدراً للخوف والقلق، وهناك حوادث عدة ذهب ضحيتها أطفال أثناء لعبهم في هذه الأبنية والمنازل المهجورة.
- محدودية الإمكانيات المتاحة في عملية الكشف وإزالة الألغام والذخائر غير المتفجرة، استناداً إلى المساحات الواسعة من الأراضي والأبنية المهدمة التي تحتاج إلى مسح وتنظيف من الألغام ومخلفات الحرب.
ورغم تعاون بعض المنظّمات والهيئات الأممية والدولية، فإنَّ حجم العمل لا يزال كبيراً، ولا سيما في المناطق التي كان يسيطر عليها تنظيم "داعش"، والّذي عُرف بكثرة استخدامه الألغام، وكذلك المناطق التي بقيت لسنوات طويلة جبهة للقتال وخط مواجهة، وهو واقع يتطلب تعاوناً دولياً واسعاً.
وهناك من يعتبر ذلك التعاون أولوية تتقدم على أولويات تشجيع التنمية المحلية والمساعدات الإنمائية، نظراً إلى أن بعض المشروعات ذات الطابع الزراعي مثلاً قد تكون سبباً في فقدان أرواح كثيرة، عوضاً عن إنقاذها أرواحاً من الفقر والجوع.
- عدم توفر خرائط دقيقة توضح أماكن انتشار حقول الألغام التي زُرعت وجُهزت خلال سنوات الحرب. وإذا ما توفرت تلك الخرائط لدى بعض الفصائل والمجموعات المسلحة، فإنها تتحول إلى ورقة تفاوض يراد الحصول على مقابل لتسليمها. لهذا، إن المعركة مع الألغام في سوريا قد تمتد لسنوات طويلة، كما حدث في أماكن أخرى من العالم.
- الحرص الخارجي على استمرار التصعيد العسكري في سوريا، سواء بالدعم العسكري والسياسي والمالي المقدم للمجموعات المسلحة على اختلاف تسمياتها أو العمليات العسكرية غير المشروعة في الأراضي السورية، وهو ما يضعف الجهود الداخلية في معالجة ملف الألغام ويشتتها، ومنحه الأهمية والإمكانيات الفنية والمادية التي يستحقها.
والمطلوب؟
إلى جانب الخسارة الفادحة في الأرواح، فإن الألغام والذخائر غير المتفجرة وغيرها من مخلفات الحرب تتسبب بخروج مساحات واسعة من دائرة الاستثمار الزراعي، فالخوف يدفع العديد من المزارعين إلى هجرة مزارعهم وحقولهم، وإلى تفضيل البحث عن مصدر دخل جديد على العودة إلى الزراعة التي تحمل معها مفاجآت قد تذهب بحياة بعض أفراد الأسرة، كما حدث في أماكن عديدة، بدءاً من البادية ومراعيها، وليس انتهاء بحقول القمح والمزروعات الأخرى.
ورغم أن هناك من يخاطر أو يغامر بحياته مقابل توفير لقمة العيش لأسرته، فإن نسبة الخطر العالية جداً في بعض الأراضي والمناطق تدفع السكان إلى تجنب الاقتراب منها أو العمل فيها، كتلك التي كانت تمثل حداً فاصلاً بين تمركز وحدات الجيش والمجموعات المسلحة، أو التي كانت مسرحاً لعمليات عسكرية ومعارك أساسية.
تقتصر الجهود الأممية والدولية في التعاون مع الحكومة السورية على تقديم بعض الدعم الفني والتوعوي. مثلاً، يشير تقرير منظمة الصليب الأحمر الدولي إلى أنه خلال النصف الأول من العام 2021 "حضر أكثر من 117 ألف متضرر من النزاع في 10 محافظات جلسات توعوية بالمخاطر المتعلقة بالألغام وغيرها من مخلفات الحرب القابلة للانفجار، قدمتها فرق التوعية بالمخاطر التابعة للهلال الأحمر العربي السوري، التي تلقت التدريب والدعم من اللجنة الدولية، وتلقى قرابة 44 ألف شخص كتيبات تحتوي تحذيرات من مخاطر الألغام ومخلفات الحرب القابلة للانفجار".
ويكشف التقرير أيضاً "الوصول إلى أكثر من 109 آلاف شخص وتقديم إرشادات عن السلوكيات الآمنة في المناطق الملوثة بالأسلحة عبر قنوات التواصل الاجتماعي المختلفة"، لكن على الأرض لا تزال الألغام تودي بحياة الكثيرين، ولا يزال العديد من الأطفال عرضة للأذى والإصابة القاتلة أثناء عبثهم بالأجسام الغربية.
كل ذلك يجعل إزالة الألغام وتفكيك الذخائر غير المتفجرة أولوية إنسانية وتنموية، تتطلب تعاوناً دولياً بعيداً من أي حسابات أو اعتبارات سياسية، وتقديم مختلف أشكال الدعم والمساندة لتحقيق نتائج مهمة في مواجهة الألغام والذخائر غير المتفجرة، بما فيها الضغط على المجموعات المسلحة للكشف عن حقول الألغام ومخابئ السلاح في المناطق التي خسرتها، وتوفير جميع أشكال الدعم العلاجي للمصابين، وتحديداً أولئك الذين يفقدون أعضاء من أجسادهم جراء انفجار الألغام.