الأزمة السودانية بين التحرير والتسليم.. البرهان بين خيارين
يعمل الغرب على توظيف الجهود الاقليمية والدولية من أجل صناعة عملية سياسية جديدة في السودان، تجدد الحياة في مشروعه الذي أسقطه المجتمع ومؤسسة الجيش مرتين: مرة قبل الحرب، ومرة بعد اندلاعها.
أربعة عناوين سياسية طغت على مشهد السودان في الأسبوع المنصرم، أولها رعاية مصر مؤتمر جمع بعض القوى السياسية والمجتمعية السودانية في القاهـرة، في السادس من هذا الشهر، وثانيها زيارة مبعوث سعودي لمدينة بورتسودان وتسليمه رسالة من الديوان الملكي السعودي إلى البرهان، بعد يومين من انتهاء مؤتمر القاهرة، أعقب ذلك زيارة رئيس الوزراء الأثيوبي، آبي أحمد، للسودان، وعقده جلسة مباحثات مع رئيس مجلس السيادة. أمّا رابع هذه عناوين فهو رعاية الاتحاد الأفريقي مائدة حوار سوداني في أديس أبابا في العاشر من الجاري، وستنتهي اليوم.
سعى مؤتمر القاهرة لصناعة توافق بين أعضاء المؤتمر على رؤية موحدة تعالج الأزمة السودانية التي فاقمها اندلاع الحرب منتصف نيسان/أبريل 2023، كما سعت الجماعة السياسية الموالية للغرب والدعم السريع (تحالف الحرية والتغيير، وواجهته الجديدة تقدم) لاستغلال المؤتمر لريادة الفضاءين السودانيين، السياسي والاجتماعي، وفرض توجهاته عليه.
وحرصت الأحزاب السياسية الموالية للدعم السريع على تحصين حليفها العسكري من أي إدانة بسبب الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها بحق المواطنين في الخرطوم والجزيرة ودارفور، بينما أصرت القوى الوطنية السياسية والاجتماعية على أن تُبنى الرؤية، المنوط بها معالجة الأزمة، على توصيف دقيق لطبيعة الحرب كونها حرباً استعمارية استيطانية إحلاليه بمشاركة مكوّن سوداني سياسي وعسكري.
وأصرّت القوى الوطنية على إدانة جرائم الحرب والابادة الجماعية والتطهير العرقي، التي ارتكبها الدعم السريع بحق المواطنين، وخصوصاً قبيلة المساليت، التي تعرضت لمجازر بشعة راح ضحيتها، بحسب الأمم المتحدة، نحو 15 ألف قتيل دُفن بعضهم أحياءً. وحال التباين في المواقف بشأن هذه القضايا دون تحقيق المؤتمر للهدف الذي انعقد من أجله.
وبحسب مصادر إعلامية، فإن المبعوث السعودي سلّم رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، رسالة تتضمن دعوة الحكومة السودانية إلى العودة إلى منبر مفاوضات جدة، والموافقة على مشاركة أطراف أخرى فيها. وتقول المصادر إن البرهان رفض مشاركة أطراف جديدة في المفاوضات ترتبط بالدعم السريع، وتوفر له الدعم، مادياً وعسكرياً، في إشارة إلى دولة خليجية تَعُدّها الحكومة شريكاً أصيلاً في الحرب.
وأشارت المصادر إلى أن البرهان أكد حرص السودان على إنجاح منصّة جدة، وعدّها قاعدة يمكن البناء عليها، لكنه لاحظ أن المُسهِّلين لا يفرضون ضغوطاً على التمرد من أجل تنفيذ ما تم الاتفاق عليه مسبّقاً. وفي الوقت ذاته، يستمر التمرد في ممارسة القتل والنهب وترويع الآمنين، ولا يبدو حريصاً على أيّ اتفاق سابق. وأكد البرهان، في لقاء شعبي، رفضه العودة إلى أيّ مفاوضات لا يسبقها خروج الدعم السريع من بيوت المواطنين، ومن الأعيان المدنية كافة، ومن ولايات الخرطوم والجزيرة ودارفور وسنار.
بعد يوم من مغادرة المبعوث السعودي مدينة بورتسودان، وصل إلى المدينة رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، الذي استقبله البرهان بحفاوة بالغة، بعد جفاء استمر عاماً كاملاً بسبب التصريح الذي أدلى به الأول، وقال فيه إن السودان يعيش فراغاً سياسياً، في إشارة مباشرة إلى عدم مشروعية السلطة القائمة في السودان برئاسة البرهان، ثم بسبب مطالبته بحظر الطيران السوداني، وتجريد الجيش السوداني من أسلحته النوعية.
وعلى خلاف ذلك التصريح، قال أحمد إن زيارته السودان تهدف إلى تأكيد وقوف بلاده وتضامنها معه. وقال مكتبه إن الزيارة تأتي في إطار التزام أحمد إيجاد حلول دائمة تؤمن الاستقرار في السودان، غير أن محللين ربطوا الزيارة بتطور الصراعات الداخلية في إثيوبيا، وبصراعها مع الصومال، وربطها البعض الآخر بتنافسها مع مصر في ملف السودان الذي عادت إليه الأسبوع الماضي، وبالصراع بينهما بشأن سد النهضة. وغاب عن هؤلاء المحللين دور إثيوبيا في المشروعات الغربية في الإقليم، وارتباطها الوثيق بالمنظومة الغربية - الصهيونية، وبالدول العربية المرتبطة بهذه المنظومة ومشاريعها.
من غير الملائم النظر إلى زيارة آبي أحمد للسودان بعيداً عن مؤتمر القاهرة، وعن زيارة المبعوث السعودي للسودان، وعن رعاية الاتحاد الأفريقي لمائدة الحوار السوداني، الذي يعمل على إنتاج عملية سياسية جديدة، تعيد الأمر إلى ما كانت عليه الأوضاع قبل 15 نيسان/أبريل 2023. ويستغل الاتحاد الأفريقي بعض المعطيات المهمة التي أفرزتها الحرب، وبينها:
- نجاح الدعم السريع في تحقيق انتشار واسع في أنحاء متعددة في غربي السودان ووسطه وجنوبيه وجنوبيّه الشرقي، وتشريده ملايين السكان الأصليين من مناطقهم، وقتل نحو 46 ألف مواطن، وتجريده المواطنين في مناطق انتشاره من ممتلكاتهم وأموالهم الثابتة والمنقولة، واغتصاب أفراده نحو 3900 فتاة، واسترقاق المئات، ونجاحه في حرمان المواطنين من الخدمات الأساسية، ونجاحه المؤكد في إفقار السكان الذين استهدفهم في عملياته العسكرية، الأمر الذي ترك آثاراً كبيرة في قدرة المجتمع في مقارعة الخطوب، وفي مواجهة متطلبات الحياة والحياة الكريمة.
- التراجع الكبير الذي أصاب الدعم السريع في عدده وعتاده من جراء ذلك الانتشار، وبسبب كسر الجيش نواته الصلبة، وارتكاس رصيده الاجتماعي، وانتكاس الرصيد السياسي لحلفائه في تحالف الحرية والتغيير (قحت/تقدم).
- نجاح الضغوط الغربية في إقفال أسواق السلاح أمام الجيش السوداني، الذي خسر قبل ذلك ميزة الاكتفاء الذاتي من الأسلحة والعتاد العسكري، والتي تنتجها منظومة الصناعات الحربية، نتيجة أسباب تعود إلى تقديرات سياسية ومهنية خاصة بقيادة الجيش.
- تقاطع رغبة الغرب وتقديرات قائد الجيش فيما يتصل بدور المجتمع السوداني الذي أفرز نحو نصف مليون مقاتل ليدافعوا عن قراهم ومدنهم وأعراضهم وممتلكاتهم، تحت قيادة الجيش وإمرته. ونتج من ذلك تحييد قدرة وازنة كان لها أن تساهم في حسم المعركة عسكرياً في شهور الحرب الأولى، لولا موقف القيادتين السياسية والعسكرية، واللتين تتساوقان، بوعي أو من دون وعي، مع السياسات الغربية.
في ظل هذه المعطيات، يعمل الغرب على توظيف الجهود الاقليمية والدولية من أجل صناعة عملية سياسية جديدة، تجدد الحياة في مشروعه الذي أسقطه المجتمع ومؤسسة الجيش مرتين: مرة قبل الحرب، على رغم انخراط بعض قادة هذه المؤسسة في هذا المشروع، ومرة بعد اندلاعها.
ثمة مخاوف من تماهي قيادة الدولة السودانية مع المحاولات الإقليمية المرعية غربياً، والهادفة إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وفرض تسوية سياسية يفقد فيها السودان استقلاله ومستقبله، ويفقد معها المواطن وطنه وتاريخه. وتعود هذه المخاوف إلى الطريقة التي اتّبعها البرهان في الحكم خلال الأعوام الخمسة الماضية، والتي اتّسمت بالتناقض بين أقوال الرجل وأفعاله.
خلال فترة حكمه، درج البرهان على تقديم خطاب سياسي يراعي توجّهات الرأي العام المدني والرأي العام العسكري، لكنه اعتاد المضيّ في مسارات عملية معاكسة لخطابه السياسي. حدث ذلك في بدايات فترة الانتقال، وتكرّر إبان "الاتفاق الإطاري"، وفي "مباحثات المنامة"، و"مداولات جنيف" الجارية الآن.
البرهان الآن بين خيارين: خيار التحرير والحسم، الذي يتبنّاه الشارع السوداني والمؤسسة العسكرية، وخيار الخارج. تُرى، أي خيار يسلك؟