استقالة عيديت سيلمان.. عودة إلى جوهر الأزمة والقادم أعظم
من الواضح أنه وبعد استقالة عيديت سليمان، فإن مجمل أحزاب الائتلاف الحكومي في "إسرائيل" تراجعت، بينما تقدمت أحزاب المعارضة التي يقودها نتانياهو، بفارق 5 أعضاء.
هزّت استقالة عيديت سيلمان، رئيسة الائتلاف الحكومي، من منصبها، حكومة نفتالي بينيت - لبيد، ولاسيما أنها من حزب رئيس الحكومة، ومقرّبة إليه إلى درجة أنه عيّنها رئيسة للائتلاف الحكومي.
تردَّد صدى الاستقالة في الأجواء السياسية بصورة عامة في "إسرائيل"، وربما في الدول ذات العلاقة أيضاً، إقليمياً ودولياً، وطفا على السطح السؤال الذي لا يجد جواباً واحداً وهو: هل تسقط حكومة بينيت ويعود نتنياهو إلى الحكم؟
لكن السؤال الأهم، في نظرنا، هو: لماذا تتساقط الحكومات الإسرائيلية، واحدة تلو الأخرى، وشهدنا 4 انتخابات للكنيست خلال عامين، ثم أُقيمت حكومة "بديلة" سُمِّيت حكومة "إنقاذ" برئاسة نفتالي بينيت، وهو أول رئيس حكومة متديّن في "إسرائيل"، ولأول مرة يترأّس حكومةً مَن يقف على رأس حزب صغير لا يتعدى أعضاء كتلته 6 نواب من اليمين الديني الاستيطاني المتطرف. ومع ذلك، يبدو أن الحكومة في أسابيعها الأخيرة، وربما تسير كل المنظومة السياسية إلى انتخابات خامسة؟!
عند التحليل الموضوعي للمشهد السياسي وقراءة الخريطة السياسية أو الحزبية، يُفترض بالمحلل أن يتحرر من ذاتيته، ومن الصراعات أو التوجهات او المناكفات الحزبية المسيطرة عليه، لأن ذلك قد يضلل المتلقي؛ أي المشاهد أو المستمع أو القارئ.
من هنا، ليس كل ما يطلقه السياسيون من تقديرات لما يمكن أن تؤول إليه الخريطة السياسية، هي تقديرات موضوعية، وإنما هي تصورات لواقع يريده ذلك السياسي أو المحلل. مثلاً، عندما يؤكد معلقو وسائل الإعلام الإسرائيلية، أو مراسلوها، أن "حكومة بينيت تتفكك"، وأن "الكنيست في طريقه إلى انتخابات جديدة"، فهذا محتمل، لكنه ليس حقيقة مطلقة. وبالتالي، فإنهم يخلقون واقعاً يُراد له أن يكون، أو أنهم يريدون خلق حالة دراماتيكية ترغب فيها كل وسيلة إعلام من أجل اجتذاب المشاهدين. كذلك الأمر عندما يقيّمون توجهات الكتل العربية في الكنيست، إن كانت القائمة المشتركة، أو القائمة العربية الموحدة؛ أي الحركة الإسلامية الجنوبية.
بعد 12 ساعة من تقديم الاستقالة، أجرت "القناة الـ11" الحكومية الإسرائيلية استطلاعاً للرأي العام من أجل فحص تأثير الاستقالة في الاصطفاف، حزبياً وسياسياً. ولم تكن النتائج مفاجئة، بغضّ النظر عن النتائج التفصيلية، ومن الواضح أن كل أحزاب الائتلاف الحكومي تراجعت، بينما تقدمت أحزاب المعارضة التي يقودها نتنياهو، بفارق 5 أعضاء، وبقيت القائمة المشتركة مع 6 أعضاء من دون تغيير. لكن هذا لا يعني أن الحكومة الحالية لا تستطيع، قانونياً، أن تستمر، وإنما لا تستطيع، فعلياً، أن تتقدم بمشاريع قوانين وإصلاحات استعدّت لها عند عودة الكنيست من فرصته الحالية؛ أي بعد شهر من الآن، إلّا إذا اعتمدت، افتراضياً، على أصوات القائمة المشتركة (6) الموجودين في المعارضة. وهذا مستبعَد، لأن هذا الاعتماد سيكلّف أحزاب الائتلاف ثمناً تريده "المشتركة"، وأحزاب اليمين غير مستعدة لدفع هذا الثمن.
لا شكّ في أن استقالة رئيسة الائتلاف الحكومي من منصبها من دون معرفة رئيس حزبها، وهو رئيس الحكومة، تؤكد أنه فشل في قيادة حكومته وحزبه، في آن معاً. وما يؤكد ذلك أكثر هو ملاحظة مراسل "القناة الـ13"، ومفادها أن أياً من أعضاء الكتلة لم يتصل برئيس حزبه ليؤكد وقوفه معه، أو إبداء الاستياء من تصرف رئيسة الائتلاف. لكن، هل هذا يعني أن حزب "يمينا" تفكّك وانتهى؟
من السابق لأوانه قول ذلك، ولاسيما أن 3 نواب من الكتلة، آييلت شاكيد ونير أورباخ وأبير قارا، بعيداً عن رئيس الحزب، نفتالي بينيت، اجتمعوا مساء الأربعاء، من أجل تقييم الحالة والتنسيق فيما بينهم للمستقبل، ويبدو أنهم تلقوا عروضاً كثيرة للاندماج في حكومة يمينية قادمة يقودها نتنياهو أو غيره. وإذا أصر بينيت على دخول الانتخابات من جديد، مع مرشحين جدد، فمن المتوقع أيضاً أن يفشل في الحصول على نسبة الحسم، كما حدث له في انتخابات نيسان/أبريل 2019.
السيناريوهات المتوقَّعة
قبل الحديث عن السيناريوهات المحتملة لا بد من التذكير بأن الكنيست موجود حالياً في فرصة (عطلة)، يعود منها بعد نحو شهر من الآن. وبالتالي، لا توجد اجتماعات وقرارات رسمية لحل الكنيست، أو لحل الحكومة.
السيناريو الأول، قانونياً، وبعيداً عن المشهد الدراماتيكي الذي يخلقه الإعلام والسياسيون، هو التالي: تستطيع حكومة بينيت ـ لبيد أن تستمر، أولاً بسبب وجود الكنيست في عطلة رسمية، وثانياً لأن النائبة عيديت سيلمان لم تستقل من الحكومة، وإنما من منصبها رئيسةً للائتلاف الحكومي، وهذا يُبقيها داخل الائتلاف من دون منصب.
لاحقا، حتى لو استقال آخرون وبقيت الحكومة بـ 60 عضواً أو أقل، فستكون حكومة شرعية وفق القانون، وتُسَمّى حكومة أقلية، كاملة الصلاحيات ناقصة الأفعال، ما لم تستطع المعارضة إسقاطها ونزع الثقة منها بـ 61 عضواً، وهذا يحتاج إلى انضمام "القائمة المشتركة" إلى مشروع قانون تقدِّمه المعارضة لنزع الثقة عن الحكومة. فهل تنضم "المشتركة" إلى مشروع قانون يقدمه نتنياهو؟ هذا مستبعَد إلى حد كبير، حتى إن كانت "المشتركة" لا تحمي بينيت.
أمّا سياسياً، فكل حكومة أقلية هي حكومة ضعيفة ومشلولة، وغير قادرة على اتخاذ قرارات مصيرية، ولا إقرار مشاريع قوانين، ولا إقرار ميزانية.
السيناريو الثاني، أن يتنازل نفتالي بينيت عن رئاسة الحكومة ويعطيها ليائير لبيد، فتدعمه "القائمة المشتركة" من الخارج، من دون تغييرات أخرى في تركيبة الحكومة. وهو، في نظرنا، احتمال ضعيف، يحتاج إلى فتوى قانونية، وإلى ضغط قوي على "القائمة المشتركة" لدعم حكومة برئاسة لبيد. وقد لا يقبل ذلك بعضُ مركّبات الحكومة الحالية، مثل ساعر، ويفضّلون الذهاب إلى انتخابات جديدة، فيُريحون "المشتركة" من الضغط أو التخبط في موقفها.
السيناريو الثالث، هو نجاح المعارضة في إسقاط الحكومة من خلال استمالة بعض أعضاء الحكومة الحالية، بمغريات كبيرة، كما حدث في السابق، وقد تكون هذه المعارضة برئاسة شخصية أخرى غير نتنياهو، على أن يرضى عنها نتنياهو، فتشكل حكومة يمينية بعيداً عن دعم "المشتركة" والقائمة العربية الموحدة.
مثل هذه الحكومة قد تكون موقتة حتى ينتهي المسار القضائي، الذي يخوضه نتنياهو، وقد تساعد نتنياهو في الخروج منه والعودة إلى الحكم. لكن، لا أحد يستطيع أن يضمن لنتنياهو ذلك.
في كل الحالات، كل هذه السيناريوهات لا تحل الأزمة التي تعانيها "إسرائيل" منذ أعوام.
ويبقى السيناريو الأخير، السيناريو الرابع، وهو حل الكنيست والذهاب إلى انتخابات جديدة، وهو آخر الاحتمالات، إذا لم ينجح أي من السناريوهات السابقة. وهذا قد يغيّر الخريطة السياسية في "إسرائيل" فعلاً.
جوهر الاستقالة من جوهر الأزمة
لا يستطيع أحد أن ينكر أن الحكومة الحالية تخطت تحديات كبيرة كانت تشكل مركّبات أساسية في الأزمة السياسية بين عامي 2019 و2021، ولم يستطع نتنياهو تخطيها، أهمها مشاركة كتلة عربية في الائتلاف الحكومي لأول مرة، هي القائمة العربية الموحدة/ الحركة الإسلامية الجنوبية. كما أقرت حكومة بينيت - لبيد ميزانية الدولة لعامين سابقين، وهناك استعدادات جدية لإقرار ميزانية في العام 2022 بعد عودة الكنيست من عطلته الحالية.
تخطى العلمانيون كثيراً من العقبات التي وضعها التيار الديني الاستيطاني، المشارك في رئاسة الحكومة أمامهم، وأهمها استلام رئاسة الحكومة، على الرغم من قلة عدد أعضاء كتلته البرلمانية، حتى إن وزير الصحة، نيتسان هوروفتس، أبدى استعداده للتنازل أمام مطلب سيلمان بألا يتم إدخال الخبز المُخمّر للمستشفيات، في مقابل عودتها عن استقالتها، وحافظ بينيت على الموقف السياسي الذي اتّبعه نتنياهو بشأن الاتفاق النووي مع إيران. وفي الوقت نفسه حظي برعاية إدارة بايدن، على عكس نتنياهو.
مع ذلك، فالأزمة مستمرة، لأنها تعود عند كل محطة أو عقبة إلى جوهرها، وهو أزمة حكم، وليست أزمة حكومية؛ أزمة تطال جوهر النظام السياسي في "إسرائيل"، والطموح اليميني المتطرف إلى تغييرات جوهرية تقلص من صلاحيات المؤسسات الديموقراطية، بما في ذلك وظيفة المستشار القضائي للحكومة والمحكمة العليا وفرض السيادة على المناطق المحتلة في العام 1967، سيادة على الأرض دون حقوق للسكان... (إشارة إلى مقال سابق بعنوان: أزمة الحكم في "إسرائيل" والسيناريوهات المتوقعة).
يشعر اليمين الاستيطاني المتطرف بأن "إسرائيل" دولة قوية عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، وكثيراً ما يستخدمون صفة "دولة عظمى"، وأن اليمين يحظى بقوة سياسية متنامية وأغلبية جماهيرية ساحقة بين اليهود في الشارع، كما يرى هؤلاء أن الأنظمة العربية والإسلامية تتسابق للتطبيع معهم، في إشارة إلى الاستسلام للقوة. ومع ذلك لا يستطيعون ترجمة هذه القوة إلى واقع سياسي وقانوني جديد داخل "إسرائيل"، ولا يستطيعون تحقيق طموحهم باستسلام الشعب الفلسطيني، وهو ما يشكل الانتصار الحقيقي لـ"إسرائيل".
في ظل هذه التناقضات، يعمل اليمين المتطرف، بقيادة نتانياهو وقيادات المستوطنين المتدينين، على إسقاط الحكومة الحالية وتشكيل حكومة يمين متطرف واسعة وثابتة وقوية، لا يعوقها أحد، لإجراء كل التغييرات القانونية اللازمة لتغيير طريقة الحكم بما يتناسب مع طموحاتهم وخططهم الاستراتيجية.
تأتي استقالة عيديت سيلمان في ظروف سياسية خاصة، ولا يمكن فصل الاستقالة عن توقيتها وظروفها. تزداد أزمة بنيامين نتنياهو القضائية بعد الاستماع الى شهادات خطرة ضده، وهو في أمس الحاجة إلى مساعدة اليمين المتطرف لإنقاذه من حكم شبه مؤكد.
في الوقت ذاته، يعود المستوطنون، وعلى رأسهم القيادة الدينية المتطرفة، إلى برنامجهم المعلن لتصعيد الاقتحامات لباحات الأقصى، ويرون أن الظروف العربية والإسلامية مؤاتية جداً لتحقيق طموحهم في هدم قبة الصخرة وبناء الهيكل المزعوم مكانها، وهذا ما يصرحون به علناً، ويرجونه مكتوباً في مواقعهم الإلكترونية.
وقد حقق الضغط الذي مارسته قيادات المستوطنين على الحكومة الحالية، لغاية الآن، إنجازات ملموسة، بسعي حثيث من الحكومة ومؤسسة رئيس الدولة، بتعهد السلطات الأردنية والفلسطينية والمصرية والتركية وغيرهم، بالعمل على تهدئة الفلسطينيين الغاضبين من المشروع الاستيطاني في القدس عامة، وفي الأقصى خاصة، مع السماح، غير المعلن، لما يقوم به المستوطنون من اقتحامات وطقوس داخل الحرم القدسي الشريف.
هذه الاستقالة لم تكن سوى حلقة في سلسلة حلقات ونشاطات يقوم بها اليمين المتطرف هذه الأيام. وقد أتت في صباح اليوم الذي أقام به اليمين المتطرف تظاهرة في القدس أمام مكاتب الحكومة، احتجاجاً على "فقدان الأمن"، وضعف الحكومة في مواجهة المقاومة الفلسطينية.
هذا كله يأتي ضمن مسيرة طويلة هادفة، ليس فقط لإسقاط الحكومة، ومن ثم إجراء انتخابات أو من دون انتخابات، لعودة اليمين الفاشي إلى الحكم، بحكومة واسعة قوية وقادرة على إجراء تغييرات جديدة وجوهرية في نظام الحكم.