إيطاليا والصين.. هل يستمر الاتفاق على مشروع "الحزام والطريق"؟
ترغب إيطاليا في زيادة صادراتها إلى الصين وزيادة الاستثمارات الإيطالية هناك والمعاملة المتساوية لشركاتها. وفي هذا الإطار، أشار السفير الصيني الجديد لدى إيطاليا أن الصين ستسعى لاستيراد مزيد من المنتجات الإيطالية.
عندما زار كبير الدبلوماسيين الصينيين، وانغ يي، إيطاليا مؤخراً، والتقى نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني، شدد المسؤول الصيني على أن توقيع مذكرة التفاهم بشأن مشروع "الحزام والطريق" بين بكين وروما رفع بشكل كبير المستوى الإستراتيجي للعلاقات الثنائية بين البلدين.
تعود العلاقات الثنائية بين الصين وإيطاليا إلى العصور الوسطى عندما بدأ تجار البندقية، ومنهم ماركو بولو، فتح طرق التجارة، والتي عُرفت لاحقاً باسم "طريق الحرير"، مع الصين، واستكشاف هذا البلد وعادات أهله. أما العلاقات الدبلوماسية بين البلدين فتعود إلى 6 تشرين الثاني/نوفمبر 1970، وتطوّرت منذ ذلك الوقت لتصبح الصين الشريك التجاري الآسيوي الأول لإيطاليا، إذ بلغ حجم التبادل التجاري بينهما نحو 78 مليار دولار في عام 2022.
في عام 2019، انضمت إيطاليا إلى مبادرة "الحزام والطريق"، في أثناء زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى روما، لتكون الدولة الأولى والوحيدة في مجموعة السبع التي توقّع على مذكرة التفاهم بشأن "الحزام والطريق".
وهدفت بكين من خلال توقيعها على المبادرة إلى تعميق علاقاتها الاقتصادية والسياحية والثقافية والتكنولوجية والصحية وغيرها من المجالات مع روما، وإيجاد أسواق لبضائعها، فضلاً عن زيادة حضورها في أوروبا والاستفادة من موانئ إيطاليا، لاسيما ميناءي تريسيا وجنوة. أما إيطاليا فكانت ترغب في الاستفادة من رأس المال الصيني من أجل تحسين البنية التحتية، وتحقيق النمو الاقتصادي.
لفترة طويلة، كانت الحكومة الإيطالية تقيم علاقات ودية وطيبة مع الصين، لكنّ التغيّرات العديدة التي طرأت على الحكومة الإيطالية، خلال السنوات الأخيرة، فرضت اتباع نهج أكثر تشدداً تجاه الصين. فعند التوقيع على مذكرة التفاهم بشأن "الحزام والطريق"، كان يحكم إيطاليا تحالف شعبوي شكّلته حركة الخمس نجوم والرابطة اليمينية المتطرفة، ويرأس الحكومة جوزيبي كونتي. وعُرف عن حركة الخمس نجوم قربها من بكين، ولكن في المقابل، لم يكن هناك موقف موحّد في الحكومة حول انضمام روما إلى المبادرة، فقد قرر ماثيو سالفيني، زعيم الرابطة ونائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية، حينها، أن ينأى بنفسه عن المبادرة تحت ضغط من الولايات المتحدة الأميركية، كما أنه لم يقابل الرئيس الصيني وامتنع عن حضور حفل الاستقبال الذي أقيم له. وفي عام 2020، احتج سالفيني أمام السفارة الصينية لدى روما؛ دعماً لسكان هونغ كونغ.
وفي أيلول/سبتمبر 2019، شكّل جوزيبي كونتي حكومته الثانية، لكنه استقال في شباط / فبراير 2021 من منصبه بعد حجب الثقة عن حكومته؛ بسبب الخلافات بشأن تعامله مع عدد من القضايا الاقتصادية ومكافحة فيروس كورونا، وتولى بعد ذلك ماريو دراجي منصب رئيس الوزراء وكان من أهم أهداف سياسته الخارجية مواجهة روسيا والصين، وتعزيز الأمن السيبراني والتحالف مع الرئيس الأميركي، جو بايدن، والأوروبيين وحلف شمال الأطلسي.
كما اتبع سياسة "القوة الذهبية"، أي نظام الاستثمارات الأجنبي المباشر الذي قدّم عام 2012، والذي يسمح للحكومة التدخل في تعاملات الشركات لحماية الأمن القومي والأصول الإستراتيجية، ما أدى إلى تعقيد وصول المستثمرين الصينيين إلى التقنيات الإستراتيجية. ومن الأمثلة على ذلك، منعت حكومة دراجي شركة هواوي الصينية من توسيع شبكات الجيل الخامس على أراضيها، من دون أن تفرض حظراً شاملاً، وأوقفت استحواذ شركة صينية على شركة أشباه الموصلات الإيطالية LPE، كما تدخلت الحكومة في قضية شركة الأغذية Verisem التي كانت تجري محادثات مع شركة سويسرية مملوكة إلى حد كبير لشركة صينية للاستحواذ عليها.
كما منع دراجي شركة صينية من زيادة حصصها في شركة Robox الإيطالية الرائدة في مجال التكنولوجيا. وفي إطار آخر، فتح تحقيقاً حول بيع شركة تصنيع طائرات مسيّرة لشركتين صينيتين في عام 2018.
لقد اتخذت حكومة دراجي نهجاً أقرب إلى الولايات المتحدة الأميركية، ففي أثناء لقاء وزير الخارجية الإيطالي السابق، لويجي دي مايو، نظيره الأميركي، أنتوني بلينكن، قال الوزير الإيطالي إن علاقة إيطاليا مع الصين لا تقارن بعلاقتها مع الولايات المتحدة الأميركية.
وعلى خطى سلفها، اتبعت رئيسة وزراء إيطاليا الحالية، جورجيا ميلوني، نهجاً متشدداً تجاه الصين. فقبيل الانتخابات البرلمانية، وصفت ميلوني في مقابلة مع وكالة الأنباء المركزية التايوانية انضمام إيطاليا إلى مبادرة " الحزام والطريق" بـ " الخطأ الكبير"، وأعربت عن رغبتها في تعميق العلاقات مع تايوان. وقد أثارت هذه التصريحات استياء السفارة الصينية لدى إيطاليا، كما التقت ممثل تايوان في إيطاليا في تموز/يوليو العام الماضي، وفي تغريدة لها عبر "تويتر" حول الاجتماع معه وصفته ميلوني بأنه "السفير".
في المقابل، شدد المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، وانغ وين بين، أن على إيطاليا الالتزام بمبدأ "الصين الواحدة". وتتبع ميلوني في سياستها الخارجية خطاً قريباً من الغرب والولايات المتحدة الأميركية، إذ وعدت في مقابلة مع "رويترز" بمحاربة الطموحات الصينية والروسية في الغرب، وأعلنت أن إيطاليا لن تكون حلقة ضعيفة في التحالف الغربي.
وينعكس خط ميلوني المتشدّد تجاه بكين على أعضاء حكومتها، ففي كلمته أمام مؤتمر ميونخ للأمن، الذي عقد من 17 إلى 19 شباط/فبراير الجاري، قال وزير الخارجية الإيطالي، أنطونيو تاياني، إن بلاده تقف إلى جانب أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وحلف شمال الأطلسي. كما انتقد وزير الأعمال وصنع في إيطاليا، أدولفو أورسو، قرار ألمانيا السماح لشركة "كوسكو" الصينية الاستثمار في ميناء هامبورغ، وقال "إننا لن نسلّم أنفسنا إلى الصين"، في إشارة إلى ميناء تريستا.
إن موقف ميلوني المتشدّد تجاه بكين ليس مستغرباً أو مفاجئاً، ففي عام 2008، حثت جورجيا ميلوني، التي كانت تتولى منصب وزيرة الرياضة، الرياضيين الإيطاليين على مقاطعة أولمبياد بكين؛ بسبب مخاوف بشأن التيبت و"انتهاكات حقوق الإنسان بشكل عام" في الصين.
وبعد تفشي فيروس كورونا، اتهمت الصين بشن حملة تضليل على نطاق عالمي. وقبيل الانتخابات البرلمانية الإيطالية، ذكر مقال نشر في مجلة China in Italy أن الجالية الصينية في إيطاليا لن تنسى ادعاء ميلوني، ذات مرة، أن الصينيين نهبوا ثروة إيطاليا.
ولكنّ ميلوني التي تعلن صراحةً عداءها للصين أبدت خلال اجتماعها مع الرئيس الصيني، شي جين بينغ، على هامش قمة مجموعة العشرين التي عقدت في بالي بإندونيسيا في 15-16 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، اهتماماً بتعزيز المصالح الاقتصادية وزيادة الاستثمارات الإيطالية في الصين، وانتقدت عقلية "مواجهة الكتل" في التعامل مع بكين، في إشارة إلى التحالفات التي تقيمها واشنطن مع دول أخرى لمحاصرة الصين كتحالف "أوكوس". وشدّدت المسؤولة الإيطالية على ضرورة التعاون مع الصين في المحافل الدولية مثل مجموعة العشرين والأمم المتحدة، وقبلت دعوة الرئيس الصيني لزيارة بكين.
ويأتي تعهد ميلوني بزيادة التعاون مع الصين في الوقت الذي تعيد فيه الحكومات الأوروبية النظر في علاقاتها مع الصين، وسط تزايد المخاوف بشأن الاعتماد على بكين.
ومع ذلك، سافر المستشار الألماني، أولاف شولتس، إلى الصين في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي؛ لتعزيز العلاقات الاقتصادية معها، كما أُعلن عن زيارة مرتقبة للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى الصين للتباحث في العلاقات الاقتصادية بين البلدين والأزمة الروسية-الأوكرانية.
سيشكل عام 2023 علامة فارقة في العلاقات الإيطالية-الصينية، فمذكرة التفاهم بشأن "الحزام والطريق" تسري لمدة 5 سنوات من تاريخ التوقيع عليها، وتمدّد بشكل تلقائي إلى مدد مماثلة، وإذا أراد أحد الطرفين الانسحاب منها، فعليه أن يقدم إنذاراً كتابياً قبل 3 أشهر على الأقل من تاريخ انتهاء المذكرة، وبالتالي على الحكومة الإيطالية إذا أرادت الانسحاب من المذكرة أن تخطر الصين بذلك أواخر هذا العام.
وإذا كانت التصريحات السابقة لرئيسة الوزراء، جورجيا ميلوني، تشير إلى عدم نية إيطاليا التجديد، فإنها أعربت خلال لقائها الرئيس الصيني عن رغبتها في تعزيز التعاون بين البلدين.
ولتعميق العلاقات الصينية-الإيطالية، زار مؤخراً كبير الدبلوماسيين الصينيين، وانغ يي، روما والتقى الرئيس الإيطالي، سيرجيو ماتاريلا، ووزير خارجية إيطاليا، أنطوني تاياني، وقبيل الاجتماع، صرّح تاياني أنه لا يزال من السابق لأوانه الحديث عن تجديد مذكرة التفاهم بشأن مشروع" الحزام والطريق"، مضيفاً أن هناك أموراً طارئة تستحق النقاش في إشارة إلى الحرب الروسية-الأوكرانية، ولاحقاً قال تاياني إن الحكومة الإيطالية تقيّم مسألة تجديد مذكرة التفاهم مع الصين، وستقرر ما يجب فعله في الوقت المناسب.
ترغب إيطاليا في زيادة صادراتها إلى الصين وزيادة الاستثمارات الإيطالية هناك والمعاملة المتساوية لشركاتها. وفي هذا الإطار، أشار السفير الصيني الجديد لدى إيطاليا أن الصين ستسعى لاستيراد مزيد من المنتجات الإيطالية عالية الجودة، ودعم الشركات الإيطالية لتوسيع حصصها السوقية في الصين. وفي خطوة نحو الوصول إلى الأسواق الصينية، صادقت الصين على المحرك التوربيني الإقليمي ATR42 المصنع في إيطاليا.
ما من شك في أن الولايات المتحدة الأميركية ستضغط على حكومة ميلوني لعدم تجديد مذكرة التفاهم مع الصين؛ بذريعة أنها تهدد الأمن القومي الإيطالي، وأن هناك مبادرة أخرى بديلة من مبادرة "الحزام والطريق" أطلقتها مجموعة السبع وهي "إعادة بناء عالم أفضل"، والمبادرة التي أطلقها الاتحاد الأوروبي تحت مسمّى "البوابة العالمية".
ولكن، من ناحية أخرى، تواجه إيطاليا اليوم تحديات داخلية تتمثل في ارتفاع أسعار الطاقة، وارتفاع معدلات البطالة والتضخم، وارتفاع الدين العام وضعف النمو الاقتصادي، وأن انسحاب إيطاليا من المبادرة سيغضب بكين وستتوتر العلاقات بينهما، ومن المحتمل أن تعمد بكين إلى اتخاذ إجراءات اقتصادية ضد روما التي هي اليوم بحاجة ماسة إلى الصين؛ لإعادة إنعاش اقتصادها وتطوير بنيتها التحتية.
ما زال لدى الحكومة الإيطالية وقت للتفكير ما إذا كانت ستجدد الاتفاقية أم تلغيها، وربما يكون للأحداث التي يمكن أن تحصل عالمياً، لاسيما مسار الحرب الروسية-الأوكرانية والعلاقات الصينية-الأميركية والضغوط الأميركية والأوروبية عليها، وداخلياً نمو الاقتصاد الإيطالي أو تراجعه أثر على موقف إيطاليا من مذكرة التفاهم بشأن طريق الحرير.