إيران بين حكّام الخليج وقوى المعارضة
في الأصل لا تتدخّل إيران في الشأن الخليجي، لكنها معنية معنوياً بدعم توجهات تتناسب مع سياستها الخارجية ومبادئ الثورة.
يغرق الكثير من المؤيّدين للجمهورية الإسلامية الإيرانية في الحيرة بين التفريق بين إيران الدولة وإيران الثورة، فيحاكمون تصرّفات الاستراتيجية بمسطرة الثورة والمبادئ التي تبدو أنها تخالف تلك الاستراتيجيات.
ومن قبيل ذلك؛ التشوّش في فهم الجمع بين دعم طهران لقوى معارضة خليجية على المستوى الإعلامي والدعم المعنوي، وبين إعادة العلاقات الدبلوماسية مع حكّام تلك الدول المثقلة بالملف الحقوقي، خصوصاً في السعودية والبحرين.
ويلحق بذلك التشوّش تساؤل استنكاريّ يقول: هل ستواصل إيران الدعم الإعلامي والسياسي والمعنوي لتلك القوى المعارضة؟
لمعالجة الموضوع، أقسّمه إلى ثلاث نقاط:
الأولى: كيف يجتمع نهج إيران الدولة وإيران الثورة في نظام واحد؟
الثانية: استراتيجية إيران تجاه أنظمة الخليج.
الثالثة: سياسة طهران تجاه القوى المعارضة في الخليج.
أولاً: نهجان ونظام واحد قويّ:
منذ أن انتصر روح الله الخميني في أواخر سبعينيات القرن الماضي، رفعت إيران جملة من المبادئ التي فُهمت أنها جزء من السياسة الخارجية للدولة، كدعم القضية الفلسطينية ودعم المستضعفين وإعلاء كلمة الإسلام وما إلى ذلك، وإن كان الفهم المذكور صحيحاً جزئياً، لكن ذلك لا يعني أنه المؤثّر الأوحد في رسم الاستراتيجيات والسياسات.
والسبب يعود إلى أن بناء الدولة يحتاج إلى جملة من الطرق الطويلة للوصول إلى المكننة السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تبلور الدولة وحجمها، وما يقتضيه الحجم المفترض للدولة أمر يتأثّر أيضاً بحجم الهدف الذي يضعه مؤسسوها، فإن كانوا يريدون دولة إقليمية، تطلّب ذلك الكثير من العمل الذي يستبعد في بعض أطواره مسألة الانفعال والردود السريعة.
ومن الواضح أن نهج الثورة كثورة بالمفهوم الاصطلاحي يختلف عن نهج الدولة ومبتنياتها، وهذا حمّل خليفة السيد الخميني وتلميذه، السيد علي الخامنئي عبئاً معقّداً جداً فضلاً عن كونه عبئاً ثقيلاً، يتلخّص في أن يحافظ على مبادئ الثورة، لكن في الوقت عينه يشتغل اشتغالاً حثيثاً على بناء الدولة.
هذا الهم الكبير أفرز المؤسسات التي تضطلع كل واحدة على مسؤوليات بعينها، مع التنسيق فيما بينها ومع خضوعها للقرارات النهائية للمرشد الأعلى للجمهورية، ويجري التنسيق بقدر، كما أن قرارات المرشد الأعلى لا تتدخّل في عمل المؤسسات تلك إلا بقدر الضرورة. وعليه، تمكّنت إيران أن تدأب في بناء الدولة عبر وزارات وبرلمان وقضاء وقانون، وتحفظ مبادئ الثورة عبر الحرس الثوري الذي يعتبره البعض الدولة العميقة للجمهورية الإسلامية.
فيكون عمل الوزارات-كوزارة الخارجية مثلاً-لا يخرّب عمل الحرس الثوري، وهذا لا ينفي عدم التضارب الخفيف والتشنّج أحياناً بين الوزارات من جهة وعمل الحرس من جهة أخرى، لكن بالقدر الذي لا يخرق سقف النظم والنظام، ولا يثقب جدار الدولة على الفوضى.
ثانياً: استراتيجية إيران تجاه أنظمة الخليج
صحيح أن الخطاب الثوري في بداية تأسيس الجمهورية الإسلامية تجاه أنظمة الخليج كان نارياً، وصحيح أيضاً أن العلاقة منذ ذلك الوقت وحتى الآن بين إيران ودول الخليج متذبذبة بين صعود ونزول، وقطع علاقات وإعادتها، ألا أن الرتم الإيراني تجاه حكّام الخليج مفهوم وواضح، وهو أن أنظمة الخليج تنفّذ أجندة غربية في المنطقة (بغض النظر عن التطورات الأخيرة)، وفي الوقت نفسه لا يمكن أن تتبنّى إيران الانقلابات في كل تلك الدول، بل إنه ليس من الحكمة ولا من حسن السياسة فعل ذلك.
وعليه عملت إيران على الفصل بين الأصيل والوكيل، فالوكيل الخليجي الذي هو جار لحدود الجمهورية معنيّ بأمن المنطقة كما إيران، وهذا يتطلّب توافقاً على نقاط مشتركة، وشراكة في عدد من المساحات، كالمساحة الاقتصادية والأمنية وحتى السياسية، مع أنه من المعروف أن حدوث حرب كبرى مع "إسرائيل" سيقتضي ضرب القواعد الأميركية في كل دول الخليج، وهذه البديهية المؤجّلة مفهومة لدى الجميع ولا يمكن لإيران أن تراوغ بشأنها ولا يمكن للخليجيين أن يمنعوا حدوثها إذا ما حانت.
فيترتّب على هذه التركيبة أن ينسج الإيراني علاقته بحكّام الخليج بخيط الصبر والنفس الطويل، مع عدم التخلي عن الدعم الإعلامي والسياسي للمعارضين لكن بمقادير مختلفة، كما سيتبيّن في النقطة التالية.
ثالثاً: سياسة طهران تجاه القوى المعارضة في الخليج
في الأصل لا تتدخّل إيران في الشأن الخليجي، لكنها معنية معنوياً بدعم توجهات تتناسب مع سياستها الخارجية ومبادئ الثورة.
هذه المسؤولية المعنوية، تتطلّب من طهران الدعم المعنوي والسياسي للمعارضة للمعارضين الشيعة، ولا سيما أنّ دول الخليج نفسها تمارس الضغط على مواطنيها من هذه الطائفة الإسلامية في بعض الأحيان إذا ما أرادت أن تضغط على إيران، وبذلك تضع الجمهورية الإسلامية الإيرانية الموضوع على طاولة التشريح بهذه الكيفية:
1. إيران ملتزمة بدعم هؤلاء المعارضين.
2. والجمهورية معنية بتحقيق شروط بناء الدولة.
3. كما أن الجمهورية تنظر بعين واسعة للمخاطر المحدقة التي تواجهها والتي تقع معظمها خارج دائرة الخليج (حكّاماً وقوى معارضة). فالتحديات تتعلّق بدول عظمى كالولايات المتحدة الأميركية، وبكيان يمتلك السلاح النووي كــ "إسرائيل"، وعليه؛ فالأمر يتطلّب موازنة مع الأخذ بالاعتبار مساحة المناورة التي تتيحها استقلالية المؤسسات في الدولة كما هو مبيّن في النقطة الأولى.
ثمّة عمل حثيث لحل المشكلات العالقة بحلول هادئة، سواء بين إيران وحكّام الخليج أو بين قوى المعارضة الخليجية وأنظمتها الحاكمة، وخطاب الخارجية الإيرانية في هذا الصدد مع تبدّل الحكومات وتياراتها، خطاب منضبط في حد معين، يمدّ جسور الدبلوماسية من جهة، ويدعم قوى المعارضة من جهة أخرى، مع عدم إنكار ارتفاع وانخفاض في الكفّتين بحسب الظرف والوقت.
بهذا الفهم يمكننا أن نرسي الخطوط العامة لرؤية الجمهورية لدول الخليج، والاستراتيجية التي من خلالها منعت طهران أي ثغرة تريدها واشنطن في إحداث حروب فرعية مع الجمهورية المحاصرة والمُتآمر عليها طوال الوقت، حتى وصلت إيران بسفينها إلى ما وصلت إليه حالياً. وهذه السياسة تنطبق تقريباً مع معظم الدول التي يستخدمها الغرب كأدوات في صراعه الدولي.