إنقاذ النظام الطائفي من ضرورة تغييره
لا يمكن هزيمة النظام الطائفي إلّا عبر فهم المعادلة الثلاثية التالية، وتفكيك أطرافها.
ذات يوم في عام 1975، ورداً على البرنامج المرحلي، الذي تقدَّمت به الحركة الوطنية اللبنانية ودعت فيه إلى إصلاح النظام السياسي اللبناني، قال بيار الجميل، مؤسس حزب الكتائب وأحد صُنّاع النظام الطائفي في لبنان، "إن الصيغة اللبنانية هي تجربة حضارية فريدة، يجب أن تستمر". وكان في جملته تلك كثير من الحقيقة. فالصيغة اللبنانية فريدة في العالم، لأنها الصيغة الوحيدة التي اعترفت بطائفيتها، وبَنَت دولتها على أساسها، من دون مواربة أو محاولة للتجميل. يُضاف إلى تلك الفرادة أن أغلبية الدول العربية، التي نجمت عن "موجة الاستقلال" في النصف الأول من القرن العشرين، هي دول طائفية في بُناها السياسية والاقتصادية، لكنها جميعا حاولت التخفي وراء مصطلحات المُواطَنة لتُداري سَوْأتها الطائفية.
وجدت الفرادة اللبنانية دعماً عربياً من منطلق وجود بلد عربي، رئيسه مسيحي، الأمر الذي يستجيب لدواعي التعدد الثقافي الحداثي، ويكسر التنميط الإسلامي للوطن العربي. كما وجدت تلك الفرادة دعماً دولياً لأنها جعلت لبنانَ الخاصرةَ الرخوة للوطن العربي، فالطبقة السياسية اللبنانية أدركت أن بقاءها، وتمتعها بالميزات التي يقدمها النظام الطائفي، مشروطان بتبعيتها الكاملة للخارج، وللغرب الاستعماري بصورة خاصة.
في عام 1958، حدث خلل في التوازن الطائفي، بسبب شعور القوى الوطنية اللبنانية بالقوة نتيجة الحالة الثورية التي خلقتها ثورة تموز/يوليو في مصر. استعان الرئيس كميل شمعون بالولايات المتحدة، التي أرسلت 14 ألف عسكري إلى لبنان لدعم حكومته. احتواء المعارضة كان رسالة واضحة إلى جمال عبد الناصر، مُفادها أن النظام الطائفي في لبنان خط أحمر أميركي لا يمكن تجاوزه، ثم اختير الرئيس فؤاد شهاب، بموافقة أميركية - مصرية، ليعيد التوازن بين الطوائف اللبنانية.
عادت الكرة إلى الملعب اللبناني من خلال الحرب الأهلية التي انطلقت شرارتها عام 1975، والتي كانت نسخة أخرى عن أحداث 1958. أخذت المقاومة الفلسطينية مكان مصر، وبقي الفرقاء اللبنانيون على حالهم. وعلى الرغم من الشد والجذب بين القوى الوطنية، صاحبة المشروع اللاطائفي، والقوى الطائفية التقليدية، التي تحاول المحافظة على البنية الطائفية، فإن الحرب انتهت كسابقتها باتفاق الطائف، الذي عَمِل على إعادة إنتاج النظام الطائفي بشروط محاصصة جديدة، تُعيد التوازن بين الطوائف.
لسان حال النظام الطائفي في لبنان يقول "لا يكون لبنان إلّا على طوائفه، ولا تقوم دولته إلّا بها". ولو سحبنا هذه الفكرة على بعض الدول العربية، فإننا نستطيع القول "لا يقوم الأردن إلّا على عشائره، ولا تقوم دولته إلّا بها"، و"لا يقوم العراق إلا على طوائفه وإثنياته، ولا تقوم دولته إلا بها". والأمر نفسه ينطبق على السودان وليبيا، وهو ما تحاول القوى الاستعمارية فرضه على سوريا واليمن ومصر.
أمام الأزمات المتكررة التي تعرضت لها الدولة الطائفية، والتي كادت تقوّضها في أكثر من مناسبة، كان لا بد من إيجاد طريقة لتأبيد هذه الدولة، والقضاء على أي محاولة لإسقاطها. عانت الدولة الطائفية، عبر تاريخها، بسبب أنها كانت، في نظر معظم شعوبها، حالة موقتة في الطريق إلى الدولة الحقيقية، وخصوصاً في ظل التنظير المضاد للطائفية، كونها تتناقض مع مفاهيم الدولة الديمقراطية الحديثة، ومفاهيم المواطَنة.
كان الحل واضحاً، وهو إدماج الطائفية في القانون العام، وتكريس الدولة الطائفية دولةً ديمقراطية، مع إضافة بسيطة، وهي "الديمقراطية التوافقية". ميزة هذا الحل أنه يستجيب لشروط الديمقراطية كمتطلب غربي لدعم الأنظمة القائمة، ويستجيب للتوازن الطائفي الداخلي، الذي يحفظ لكل طائفة (عشيرة/ إثنية) مكاسبها التي حقّقتها من خلال النظام القائم. وفي كل مرة يتعرض النظام الطائفي للتهديد، يتم اللجوء إلى أقدم حيلة في الكتاب الديمقراطي: الانتخابات.
لقد حوّلت هذه الصيغة النظام الطائفي إلى نموذج نفسه، فهو يُقارَن بنفسه فقط لأنه فريد من نوعه. وهذه المقارنة ليست شاملة، بل مقسَّمة إلى قطاعات. فهو، اجتماعياً، متعدد الطوائف، أو الإثنيات، أو الأصول والمنابت. وسياسياً، يقوم على الديمقراطية الليبرالية التوافقية، التي تؤمّن تمثيل جميع أطراف المعادلة الطائفية. واقتصادياً، هو نظام رأسمالي هامشي تابع للمراكز المالية العالمية. واسطة العقد داخل هذا النظام هي الدولة المركزية، القادرة على تنظيم الانتخابات في موعدها، وتوزيع حصص الناتج المحلي بعدالة على الطوائف وزعمائها. وبالتالي، تشكّل الدولة المركزية نقطة اتفاق وتَلاقٍ لجميع البنى الطائفية، وليس دقيقاً التصور القائل إن الطوائف تسعى لتدمير الدولة المركزية والحلول محلها.
لقد أصبحت قيادات الطوائف منغمسة أكثر في اللعبة الاقتصادية المالية داخل الدولة وخارجها، وهي تدرك تماماً أن غياب الدولة المركزية، كناظم للتوازن الداخلي، يعني الفوضى والحرب الأهلية اللّتين تضرّان المصالح الاقتصادية لهذه القيادات. لذلك، لا أحد يرغب في تغيير حقيقي، ولا حتى تلك الجماهير التي تخرج إلى الساحات مدعية الثورة. لن يقبل أحد في لبنان نظاماً انتخابياً على أساس المواطنة، يمكن أن يؤدي إلى حصول طائفة بعينها على الأغلبية وعلى الرئاسات الثلاث. والأمر نفسه ينطبق على الأردن والعراق ومصر. هذه الثورات المسبَّقة الصُنع (فكراً وليس تنظيماً) تسعى لتحسين شروط توزيع المنافع لمصلحة هذا الطرف أو ذاك، من دون أن تكون معنية أصلا بالمساس بالبنية الطائفية للمجتمعات، بل لعلها تسعى لدعمها وتحرص على بقائها.
أمّا القوى العلمانية، صاحبة المصلحة الحقيقية بزوال النظام الطائفي، فاحتواها هذا النظام بصورة كاملة. فهي، من خلال عملها، إمّا منحازة إلى البرنامج السياسي لأحد أطراف المعادلة الطائفية، وبقاؤها مرتبط بتحقيق مصالح هذا الطرف، وهو ما أصاب الحزب الشيوعي والقوميين السوريين في لبنان، والحزب الشيوعي في العراق، وإمّا أن هذه القوى منحازة إلى الدولة المركزية (راعية النظام الطائفي)، وأصبحت جزءاً من بنيتها، وأصبح وجودها وممارستها لنشاطها مرتبطَين بتعزيز الدولة المركزية والدفاع عنها. وهذه حال معظم الأحزاب الشيوعية والقوى الاشتراكية والأحزاب الليبرالية، التي تعمل علانيةً، كما هي الحال في الأردن والمغرب ومصر وفلسطين.
من أجل تأبيد النظام الطائفي، عمل الاستعمار من خلال ثلاث آليات: التهديد بالحرب الأهلية؛ منح النظام الطائفي صبغة ديمقراطية؛ تأبيد القُطرية السياسية خياراً وطنياً ونهائياً للشعوب العربية. وإذا طبّقنا هذه المعادلة على الحالة اللبنانية، فيمكن لنا رؤيتها بكل وضوح.
1- ربط الأزمة الاقتصادية بسلاح المقاومة، والتهديد، في أكثر من مرة، بالوصول إلى مواجهات قد تقود إلى الحرب الأهلية.
2- عقد الانتخابات في موعدها من أجل إعطاء الصبغة الديمقراطية، من دون أيّ تغيير يُذكَر في النتائج، التي أشارت إلى التعادل بين الأطراف، وغياب القدرة على إحداث أي تغيير مهما كان بسيطاً.
3- رفع شعار الاستقلال الذي تستهلكه القوى المتصارعة، واختراع محتلّ وهميّ، هو إيران، من أجل دفع صورة لبنان القُطرية إلى الواجهة، كحل نهائي لا يمكن التراجع عنه.
لا يمكن هزيمة النظام الطائفي إلّا عبر فهم هذه المعادلة الثلاثية وتفكيك أطرافها. لذلك، فإن التصدي للنظام الطائفي العربي لا يمكن أن يتحقق إلّا من خلال حركة تحرر وطني عربية، ذات طابع مقاوم ومُعادٍ للاستعمار، ومنحاز جذرياً إلى مصالح الأغلبية الشعبية، تعمل متآزرة في جميع الساحات، وفي كل الجبهات.