إمبراطورية المصادفة والإدمان الإمبريالي
توازنات النظام الدولي المستقبلية ستؤول إلى قيام حلف روسي ألماني له جذوره الجيوسياسية والأنثروبولوجية العميقة، وانكفاء العالم البروتستانتي -المتمحور حول أميركا- على نفسه، وبروز الجنوب كقوة صاعدة مستقلة عن الغرب!
بعد صدور كتابه "السقوط الأخير" (1976)، الذي تنبأ فيه بانهيار النظام السوفياتي بناء على تحليل معطيات اجتماعية وأنثروبولوجية وثقافية وظفت أنساق القرابة ووفيات الأطفال الرضّع وغيرها، أصدر المؤرخ الفرنسي إيمانويل تود عام 2001 كتابه "ما بعد الإمبراطورية"، الذي قدم فيه حججه على أفول أميركا كقوة عالمية وحيدة مهيمنة، رغم مزاعم انتصارها الكبير بانهيار الاتحاد السوفياتي، وواصل هذا الطرح في كتابه الأخير "هزيمة الغرب" (2024) في ضوء حرب أوكرانيا وتداعياتها الأوروبية والعالمية.
من الأسباب الرئيسة التي طرحها تود لأفول أميركا والغرب: تآكل الدولة القومية والديمقراطية التمثيلية، وعولمة الإنتاج وتراجع التصنيع، وإفلاس المصفوفة الدينية الغربية البروتستانتية (سيُخصص لها معالجة لاحقة)، وزيادة الوفيات الحادة في أميركا لتتجاوز روسيا، وتفاقم حالات الانتحار وجرائم القتل والعنف العشوائي الداخلي، وسيادة العدمية الإمبريالية التي يعبر عنها أميركياً بهوس مزمن بالحروب الأبدية، وهذه المسألة الأخيرة لقيت اهتماماً لدى نخبة أميركية تخشى عواقب النزوع الإمبراطوري والإدمان الإمبريالي.
إمبراطورية المصادفة
يعتقد تود أن الولايات المتحدة أصبحت إمبراطورية وقوة عظمى وحيدة في العالم، ليس عن طريق الاستراتيجية، بل عن طريق المصادفة، في أعقاب انهيار مفاجئ لخصمها الرئيس الاتحاد السوفياتي.
في الواقع، أميركا تشبه إمبراطورية رومانية متهالكة تعاني إفراطاً في الإنفاق على التسلح وعدم المساواة والاستياء الداخلي. ولتتمكن أميركا من إبقاء بقية العالم في صفها، ومنع دائنيها من المطالبة بديونهم، فكل ما يتعين عليها فعله هو أن تستخدم عصا غليظة.
يقول تود: "إن أميركا الحقيقية أضعف من أن تتمكن من مواجهة أي طرف باستثناء الأقزام العسكريين"، وهذا يفسر العداء تجاه دول مثل كوريا الشمالية وكوبا وأفغانستان وعراق صدام حسين، وهي دول متخلفة فقيرة أنهكها الحصار والعقوبات. مثل هذه "الصراعات التي تمثل خطراً عسكرياً ضئيلاً أو معدوماً" تتيح وجوداً أميركياً في جميع أنحاء العالم.
كذلك، فإن "التغطية الإعلامية المسرحية [لحروب وانتصارات أميركا].. يجب ألا تعمي الأعين عن حقيقة أساسية، هي أن حجم الخصوم الذين اختارتهم الولايات المتحدة هو المؤشر الحقيقي لقوتها الحالية"، أي أن أميركا لن تكون قادرة على تحدي دول أكثر قوة، مثل إيران، وتتجنب مواجهتها، وأن "تهديداً واحداً فقط للاستقرار العالمي يخيم على العالم اليوم، وهو الولايات المتحدة نفسها، التي كانت ذات يوم حارسة وأصبحت الآن مفترسة"!.
وفي أواخر عام 2002، في ضوء الغزو والاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق، عقب هجمات 11 أيلول 2001، اعتقد تود أن العالم على وشك أن يكرر الخطأ نفسه الذي وقع فيه عند قراءة وضع الاتحاد السوفياتي خلال السبعينيات الماضية (مع توسع التدخل السوفياتي عسكرياً في فيتنام والشرق الأوسط وأفريقيا وغزو أفغانستان)، أي إساءة تفسير التوسع في النشاط العسكري الأميركي باعتباره علامة على قوة أميركا المتزايدة، في حين أن هذا العدوان في الواقع هو قناع التراجع والأفول!
فخ واشنطن في أوكرانيا
يرفض تود النظر إلى الصراع الدائر في الساحة الأوكرانية كما لو أنه حرب استعمار واحتلال تقليدية، بالنظر إلى وشائج القرم ودونباس العضوية مع روسيا، كما يرفض اعتبارها حرباً بين الديمقراطية والاستبداد أو صداماً بين ما يسميه "أوليغاركيات ليبرالية" و"ديمقراطية تسلطية".
تعني هذه العبارات انهيار "الديمقراطية التمثيلية" في الغرب، إذ يسود في المجتمعات الغربية تحكم قوى بيروقراطية متنفذة غير منتخبة ولا تعبّر عن الجسم السياسي السيادي، وإن توفرت معايير الحرية السياسية، فيما يتمتع النظام الحاكم بروسيا بشرعية حقيقية وقبول شعبي لا شكّ فيهما، وإن كانت مساحة الحرية العمومية محدودة.
يرى تود أن حرب أوكرانيا بمنزلة "فخّ لواشنطن صنعته بأيديها"، وعملت بوعي على إنتاج جميع الظروف المواتية لاندلاع النزاع في أوكرانيا، بمشاركة نشطة من حلفائها الأوروبيين، وذلك من خلال دعم تيارات قومية متطرّفة هناك، وإيصالها إلى السلطة، ومن ثمّ ضخّ الأسلحة والأعتدة العسكرية المتطوّرة إليها، وإرسال المستشارين العسكريين لتدريب قواتها العسكرية، لتحويلها عملياً، وليس رسمياً، في مرحلة أولى إلى دولة عضو في حلف شمال الأطلسي.
استخفّت واشنطن بروسيا وبقدراتها العسكرية والاقتصادية، واعتقدت أن إقدام روسيا على التدخّل في أوكرانيا سيحوّل الأخيرة إلى أفغانستان جديدة بالنسبة إلى موسكو، تستنزف جيشها وتندحر، مع الأمل في أن يفضي ذلك لانهيار الدولة الروسية وتفككها.
تلازم مع هذا الاستخفاف بروسيا هو تناسٍ خطير على المستوى الاستراتيجي لانحسار القاعدة الصناعية، وخصوصاً العسكرية، بالولايات المتحدة والغرب يُترجم اليوم عجزاً عن تلبية احتياجات جيش أوكرانيا من أسلحة وذخائر "غبية" و"ذكية" على حدّ سواء.
وبعكس أي "محلل" غربي تقريباً في مجال حلف شمال الأطلسي، يرى تود أن موسكو في سبيلها للفوز على هذا الحلف بأكمله، وليس فقط على أوكرانيا، مستفيدة من نافذة الفرصة التي حددها بوتين أوائل 2022. يراهن تود على نافذة زمنية مدتها 5 سنوات، أي أن نهاية اللعبة ستكون عام 2027. ومن المفيد مقارنة ذلك بتقدير وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، كما سجل في 2023: ستنتهي العملية العسكرية الخاصة في عام 2025.
تحالف أوراسي وتوازنات مستقبلية
وأياً كان الموعد النهائي، فكل هذا يشكل نصراً كاملاً لروسيا، إذ يملي الفائز كل الشروط، فلا مفاوضات، ولا وقف إطلاق نار، ولا صراع مجمد، وتدور الهيمنة الآن في دوامة دورتها اليائسة.
وكان تود قد استشرف في كتابه "ما بعد الإمبراطورية" أن الولايات المتحدة تخسر مكانتها كقوة عظمى، وفي الوقت نفسه تبتعد أيضاً عن القيم الديمقراطية التقليدية المتمثلة بالمساواة والعالمية، وتنفق ما يتجاوز إمكاناتها اقتصادياً، وتستمر في إثارة غضب الحلفاء والأعداء الأجانب على حد سواء بسياساتها العسكرية والأيديولوجية.
ومع تراجع الهيمنة الأميركية على العالم، توقع تود مبكراً ظهور "تحالف أوراسي" يجمع بين أوروبا وروسيا واليابان والعالم الإسلامي! كما قام بتقييم اتجاهات سلبية أخرى، بما في ذلك عدم التزام أميركا بالتكامل الاجتماعي والاقتصادي للأميركيين الأفارقة، والاقتصاد الشره الذي يعتمد بشكل متزايد على الفقاعات والإفراط في الاستهلاك وحسن نية المستثمرين، فيما تبدد السياسة الخارجية موارد البلاد واحتياطاتها من "القوة الناعمة"، فيما يُقابل سلوكها العسكري، كمشعل حرائق ورجل إطفاء معاً، بمقاومة متزايدة. هكذا، وخلافاً للحكمة الأميركية التقليدية، تفقد أميركا بسرعة قبضتها على المسرح العالمي اقتصادياً وعسكرياً وأيديولوجياً.
الخلاصة التي يتوقعها المؤلف أن توازنات النظام الدولي المستقبلية ستؤول إلى قيام حلف روسي ألماني له جذوره الجيوسياسية والأنثروبولوجية العميقة، وانكفاء العالم البروتستانتي -المتمحور حول أميركا- على نفسه، وبروز الجنوب كقوة صاعدة مستقلة عن الغرب!