إثيوبيا: من صراع القوميات والحرب الأهلية إلى مصر وسدّ "النهضة"

لم يكن وصول آبي أحمد إلى قمة هرم الحكم في إثيوبيا في العام 2018 حدثاً عادياً، فهي المرة الأولى في التاريخ التي يصل رجل يتحدّر من العرقيّة الأكبر في إثيوبيا، هي الأورومو، إلى الحكم فيها.

  • أثار ارتقاء آبي أحمد إلى سدّة الحكم في إثيوبيا موجة ابتهاج شعبية كبيرة
    أثار ارتقاء آبي أحمد إلى سدّة الحكم في إثيوبيا موجة ابتهاج شعبية كبيرة

بعدد سكّان يصل إلى 115 مليون نسمة، تعدّ إثيوبيا ثاني أكبر بلد أفريقي (بعد نيجيريا)، وهي مجتمع متعدد الإثنيات والقوميات واللغات والأديان. أكبر جماعة عرقيةٍ في إثيوبيا هي "أورومو" التي تشكل حوالى 35% من السكان، تليها "أمهرة" بنسبة 27%، ثم تأتي ثالثاً عرقية "تيغراي" بحوالى 7% من الإثيوبيين، ثم تتوزع النسبة الباقية (31%) على حوالى 80 مجموعة عرقية أخرى.

وتبعاً لذلك، تتعدّد اللغات أيضاً، ولكن اللغة الرسمية في البلد هي الأمهرية. ومن ناحية الدين، فإنّ حوالى 35% من الإثيوبيين مسلمون، و65% مسيحيون (45% أرثوذكس و20% بروتستنت).

5 تواريخ مهمّة 

1944: في أواخر أيام الحرب العالمية الثانية، ومع انهزام إيطاليا، حصلت إثيوبيا على استقلالها، واعترفت بها بريطانيا العظمى (آنذاك) كدولة ذات سيادة. وهكذا، انتهت حقبة الاستعمار الإيطالي الذي بدأ في العام 1935.

1974: سقوط الملكيّة في إثيوبيا، وتحوّلها إلى المعسكر الاشتراكي بمسمّاها الجديد "جمهورية إثيوبيا الديمقراطية الشعبية". بعد تدهور الأوضاع في البلد إلى حد حصول مجاعة فيه، وقع انقلاب عسكري قامت به مجموعة من الضباط من ذوي الرتب الصغيرة من الماركسيين المتشددين. 

وبذلك، انتهى عهد الإمبراطور هيلاسيلاسي، آخر ملوك السلالة السليمانية، الذي كان متوّجاً بعرش إثيوبيا منذ العام 1930، ويحمل أألقاباً عدّة، منها "ملك الملوك" (King of Kings) و"الأسد القاهر من قبيلة يهوذا" (Conquering Lion of the Tribe of Judah)، وبدأ عهد منغستو هيلا ميريام.

1991: وقع حدثان مهمان هما سقوط نظام منغستو الماركسي على يد "جبهة تحرير شعب تيغراي" بعد أكثر من 15 عاماً على الصراع المسلّح بينهما، ونشأة نظام جديد في إثيوبيا تهيمن عليه عرقية التيغراي برئاسة ميليس زيناوي. 

ترافق ذلك مع حصول أرتيريا على استقلالها من إثيوبيا، بعد أن نجحت "الجبهة الشعبية لتحرير أرتيريا" في إلحاق الهزيمة بالجيش الإثيوبي. ومع هذا التطور، صارت إثيوبيا دولة "حبيسة" من دون أي منفذ بحريّ. 

2012: وفاة ميليس زيناوي بعد 21 سنة من الحكم، حقّق خلالها استقراراً في البلد، فتقدّمت إثيوبيا نوعياً في الاقتصاد والانفتاح الخارجي. تولّى الرئاسة بعده هايلي مريم ديسالين الذي ينتمي إلى الحزب الحاكم "الجبهة الديمقراطية الثورية لشعب إثيوبيا"، ولكنه يتحدر من أقلية عرقية صغيرة "ولايتا" (غير التيغراي).

2018: وصول آبي أحمد إلى زعامة إثيوبيا عن طريق الانتخابات، وهو ينتمي إلى الأورومو؛ عرقية الأغلبية.

ما قبل اندلاع الحرب الأهلية: آبي أحمد النجم الصاعد في سماء أفريقيا

لم يكن وصول آبي أحمد إلى قمة هرم الحكم في إثيوبيا في العام 2018 حدثاً عادياً، فهي المرة الأولى في التاريخ التي يصل رجل يتحدّر من العرقيّة الأكبر في إثيوبيا، هي الأورومو، إلى الحكم فيها. لم يكن وصوله ثورياً أو انقلابياً، بل كان عملية متسلسلة نتجت من انتخابات شعبية حرة فاز فيها الائتلاف السياسي الذي يتزعمه (الجبهة الديمقراطية لشعب أورومو)، ما دفع الحزب الحاكم (الذي تسيطر عليه عرقية التيغراي) إلى تزكيته لمنصب رئيس الوزراء خلفاً لرئيس الوزراء ديسالين، الذي استقال بعد اندلاع عصيان مدني وأعمال عنف واحتجاجات واسعة النطاق ضد الحكومة. 

والواقع أنَّ آبي أحمد لم يكن غريباً عن النظام القائم في إثيوبيا أو طارئاً عليه، فقد عمل لسنين ضابطاً في الجيش الإثيوبي، ومن ثم في المخابرات العسكرية، ووصل إلى رتبة عقيد، قبل أن يتحوَّل إلى العمل السياسي في العام 2010. 

وبعد أن انتُخب نائباً في البرلمان، انضمّ إلى الحكومة الفيدرالية بصفة وزير للعلوم والتكنولوجيا ما بين 2016 و2017. ولذلك، إنَّ الأوساط النافذة في الدولة العميقة - التي تسيطر عليها عرقية التيغراي - لم يساورها قلق كبير بشأنه وتقبّلته.

أثار ارتقاء آبي أحمد إلى سدّة الحكم في إثيوبيا موجة ابتهاج شعبية كبيرة، فهو بشبابه (مواليد 1976) وحيويته وذكائه، صار يمثل أملاً للمستقبل في نظر قطاع واسع من الإثيوبيين، وخصوصاً الشباب. ولآبي أحمد خصال فريدة تعبّر عن التعددية في البلد، فأبوه مسلم من عرقية الأورومو، وأمه مسيحية من الأمهرة، وهو شخصياً مسيحي بروتستنتي. 

ومن اليوم الأول لاستلامه الحكم، بدا واضحاً أنَّ آبي أحمد يريد أن يقود إثيوبيا باتجاه مرحلة جديدة من النهضة الاقتصادية والتكنولوجية، وأن يطلق طاقات الشباب، ويندمج في الاقتصاد العالمي، ويجذب الاستثمارات إلى بلده الكبير ذي الإمكانيات الهائلة. 

اتجه آبي أحمد إلى الجيران أولاً، فلا بدّ من تأسيس أرضية مشتركة للتعاون في منطقة شرق أفريقيا ككل، حتى يتمكَّن من تنفيذ خططه الطموحة. الخطوة الأولى والصعبة كانت مع إرتيريا، العدو اللدود لإثيوبيا منذ استقلالها عنها في العام 1991، فذهب إليها، وتمكن من عقد معاهدة سلام مع رئيسها أسياس أفورقي تنهي عقوداً من النزاع السياسي (والعسكري) وحالة اللاحرب – واللاسلم بينهما. 

وقد أتبع ذلك بسلسلة اتفاقيات تعاون مع حكومات السودان وجيبوتي وكينيا، كلّها ذات منحى اقتصادي يفيد جميع الأطراف، ويؤمّن لإثيوبيا الاستفادة من المرافئ البحرية لهذه الدول على المحيط الهندي والبحر الأحمر (إثيوبيا، كما هو معلوم، دولة قارية ليس لها اتصال بالمحيطات). 

على المستوى الداخلي في إثيوبيا، قام آبي أحمد بالانفتاح على معارضي النظام، وأوقف الممارسات القمعية بحقّهم، وأطلق من كان في السّجن منهم، وسمح لشخصيات إثيوبية مهاجرة إلى أميركا ودول الغرب بالعودة إلى البلاد، وأجرى مصالحات بين القوميات في عدة أقاليم إثيوبية. 

نالت سياسات آبي أحمد الاستحسان والتأييد على مستوى المنطقة والعالم. وبدا أنّه النجم الصاعد على مستوى القارة الأفريقية، والذي يسعى إلى أن يقودها نحو مستقبل جديد لتأخذ مكانها المناسب في القرن الواحد والعشرين. وتم منحه جائزة نوبل للسلام في العام 2019.

الحرب الأهلية في إثيوبيا.. كيف بدأت؟ ولماذا؟

شعر آبي أحمد بمدى الشعبية التي بات يحظى بها في بلاده وخارجها، ما منحه ثقة بالنفس، ودفعه إلى اقتحام موضوع صعب كان لا بدَّ منه لكي يواصل مشوار الإصلاحات والتغيير الذي بدأه. كان من الضروري إصلاح البنية الداخلية لمنظومة الدولة الإثيوبية وإزاحة الحرس القديم وأصحاب النفوذ الذين قد يعوّقون التحوّل الديمقراطي والإصلاح الاقتصادي ويكبحونه. 

هؤلاء كانوا في أغلبيتهم من عرقية التيغراي، وهم يسيطرون بشكل خاص على المؤسّسة العسكريّة والأمنية. سياسياً، انفصل آبي أحمد نهائياً عن النظام القديم، ممثلاً بـ"الجبهة الديمقراطية الثورية لشعب إثيوبيا"، وقام بتأسيس حزب جديد أسماه "حزب الازدهار" وتزعّمه.

شيئاً فشيئاً، بدأت قيادات التيغراي ذات النفوذ في الدولة تشعر بخطورة سياسة آبي أحمد على مصالحها، فكان طبيعياً أن تبدأ المقاومة و"التحرش" برئيس الوزراء وإيصال رسائل إليه، ومن ذلك قيام نحو 250 من أفراد القوات الخاصة في الجيش الإثيوبي في تشرين الأول/أكتوبر 2018 باقتحام مكتبه، حاملين الأسلحة، للتعبير عن شكاواهم المتعلقة بالأجور وعرض مطالب أخرى. وبعد ذلك، تعرض لمحاولة اغتيال بقنبلة يدوية لم تنفجر خلال مشاركته في تجمّع شعبي مؤيد له. 

في تشرين الثاني/نوفمبر 2019، ردّ آبي أحمد بقوة، فأوقف 63 من كبار المسؤولين في الجيش وجهاز الأمن والمخابرات، من بينهم 27 جنرالاً، للاشتباه في ارتكابهم انتهاكات لحقوق الإنسان ووقائع فساد والضلوع في محاولة اغتياله.

لم تهدأ الأحوال في البلاد، بل إن التوترات العرقية بدأت تظهر من جديد في عدة أقاليم منها، حتى أوروميا، بلده الأصلي، وكذلك أمهرة. أما الحرس القديم من أصحاب النفوذ في جهاز الجيش والدولة، فبدأوا يعودون إلى إقليمهم الأصلي في شمال البلاد، تيغراي، ويستجمعون قواهم، ويحضّرون لمواجهة رئيس الوزراء الّذي اتهموه بممارسات عدائية وجرائم بحقّ التيغراي وشعبها.

في تشرين ثاني/نوفمبر 2020، أمر آبي أحمد قوات الجيش الحكومي بالهجوم على إقليم تيغراي. حصل ذلك بعد سلسلة من الاحتكاكات بين الطرفين سياسياً وعسكرياً، فقد رفضت حكومة إقليم التيغراي قراره بخصوص تأجيل الانتخابات في البلاد بسبب ظروف كورونا، وأصرّت على إجرائها، ما دفع رئيس الوزراء إلى قطع التمويل الفيدرالي عن الإقليم وفرض نوع من الحصار عليه. حصل إثر ذلك ردّ فعل مسلّح من جانب جبهة تحرير تيغراي، حين هاجمت قاعدة عسكرية حكومية للجيش في الإقليم. 

تفاقمت الأمور بعد ذلك بين الطّرفين، واتّجهت إلى التصعيد على مدار سنة كاملة، حقّقت خلالها قوات تيغراي سلسلة انتصارات على الجيش الإثيوبي الرسمي.

تيغراي تكشّر عن أنيابها: المحارب القديم يعود إلى الميدان

يعود الفضل في الإنجازات العسكرية المهمّة التي حققتها "جبهة تحرير شعب تيغراي" إلى الخبرة العسكرية الكبيرة لكوادرها وقياداتها التي كانت تشكّل العصب الأساسي للجيش الإثيوبي على مدار 30 عاماً، بعد أن انتصرت على نظام منغستو في العام 1991 وأسقطته. يُضاف إليها أكثر من 15 عاماً من الكفاح المسلّح ضد الحكومة قبل ذلك. إنها خبرة عسكرية تراكمية تصل إلى حوالى 45 عاماً لأجيالٍ من العسكريين التيغراي.

ولعلَّ واحداً من أهم زعمائهم على الإطلاق هو تسادكان جبريتنساي البالغ من العمر 68 عاماً، والذي يتولى القيادة العليا لقوات جبهة تحرير شعب التيغراي، وتُعزى إليه جميع النجاحات العسكرية التي حققوها. 

كان لتسادكان الشاب سمعة كبيرة أيام الكفاح المسلّح ضد نظام منغستو في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، إذ أظهر كفاءة عسكرية نادرة وتصميماً كبيراً على الصمود في أصعب الظروف. ويُروى أنه لم ينَم على سرير طيلة 15 عاماً قضاها بين الكهوف والجبال والأدغال، قائداً للعمل العسكري ضد الحكومة. تصاعدت مكانة تسادكان بين رفاقه حتى كان على رأس قيادة قوات جبهة تحرير شعب تيغراي التي وصلت إلى 100 ألف مقاتل عند دخول أديس أبابا في العام 1991. 

أصبح تسادكان رئيساً لأركان الجيش الإثيوبي في عهد رفيقه من الجبهة رئيس الوزراء القوي ميليس زيناوي، إذ أعاد بناء الجيش وهيكليّته. وأثناء الحرب التي اندلعت بين إثيوبيا وإريتريا في العام 1998، كان الجنرال تسادكان هو المخطّط العسكري الإثيوبي في الصراع الدامي الذي أودى بحياة ما يقارب 80 ألف شخص من كلا الجانبين.

وفي حزيران/يونيو 2000، حطّم هجوم إثيوبي الدفاعات الإريترية، واندفعت القوات الإثيوبية عبر الحدود، فحصل عند ذلك خلاف بين الرجلين. كان تسادكان عازماً على التقدم نحو العاصمة الإريترية أسمرة، ولكن رئيس الوزراء زيناوي رفض وأصرّ على التوقف، باعتبار أن أهداف الحرب الإثيوبية تحقّقت، وأن إريتريا هُزمت. 

وبعد توقف الحرب، أقال زيناوي زميله تسادكان من منصب رئيس للأركان، وقرر إبعاده عن العمل العسكري الَّذي كان محور حياته. ورغم قوّته ونفوذه، تقبّل القرار، وتحول إلى وضعه الجديد كمواطن عادي، وانشغل ببعض الشؤون التجارية في مسقط رأسه في التيغراي.

وعندما اندلعت الحرب في تيغراي في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، لبّى تسادكان نداء الواجب، وانضم إلى المقاومة المسلحة، ونحّى جانباً خلافاته مع قادة الجبهة الآخرين، وبدأ بتنظيم شباب التيغراي للقتال، إلى جانب قدامى المحاربين الذين عادوا إلى حمل السلاح تحت قيادته.

من جانبها، أصدرت الحكومة الإثيوبية مذكّرة توقيف بحق الجنرال تسادكان وغيره من قادة تيغراي، واتّهمتهم بالخيانة العظمى. ويبدو جلياً أنَّ خبرة المحارب القديم تفوّقت على حماس الشاب آبي أحمد.

ورطة آبي أحمد

يجد آبي أحمد نفسه في وضع سيئ وصعب للغاية، فالحملة التي أطلقها قبل سنة لإخضاع المتمردين في تيغراي تدهورت وتراجعت، إلى أن وصلنا إلى الوضع القائم هذه الأيام، إذ تهدّد قوات جبهة تيغراي باجتياح العاصمة أديس أبابا. والنداء الذي وجّهه آبي أحمد إلى عموم المواطنين في أديس أبابا للاستعداد وحمل السلام للدفاع عن العاصمة، يشير إلى مدى التدهور الذي يعانيه وجيشه.

كما أنّ حركاته الاستعراضية الأخيرة من لبس الكاكي العسكري وإعلانه التوجه بنفسه إلى الجبهة، إنما تأتي في خانة رفع الروح المعنوية، وليس لها قيمة عسكرية حقيقية، لأن القادة الميدانيين في جبهات القتال لا يحتاجون إلى شخص رئيس الوزراء معهم، بقدر ما يحتاجون إلى التسليح والتمويل والدعم اللوجستي والغطاء السياسي طبعاً. 

ومما يفاقم سوء أحوال آبي أحمد هو تراجع الدعم السياسي له على المستوى الدولي، وخصوصاً الغربي، فمع وجود اتهامات وشهادات كثيرة على وقوع جرائم ضد المدنيين وانتهاكات حقوق إنسان ومذابح في إقليم تيغراي ارتكبتها قوات الحكومة الإثيوبية والمليشيات الأمهرية الداعمة لها، يتعرض آبي أحمد لضغوط شديدة وصلت إلى حد إعلان الإدارة الأميركية فرض قيود واسعة النطاق على المساعدات الاقتصادية والأمنية لإثيوبيا، بسبب "الفظائع" في إقليم تيغراي، كما حظرت منح تأشيرات لمسؤولين إثيوبيين حاليين أو سابقين، وفرضت أيضاً عقوبات على الحكومة الإريترية وجيشها الداعم لآبي أحمد على الأرض.

ومن ضمن الاتهامات الموجهة إلى آبي أحمد والحكومة الإثيوبيّة، هو إعاقة وصول المساعدات الإنسانية إلى إقليم تيغراي، وفرض حصار شامل على الإقليم، وقطع الخدمات العامة عنه، وذلك قبل بضعة أشهر، ما أدخله في تصادم مباشر مع المنظمات الإنسانية والأمم المتحدة، دفعه إلى طرد 7 من كبار مسؤولي الأمم المتحدة، بتهمة "التدخل في شؤون إثيوبيا الداخلية".

وإنها لمفارقة كبرى أن يتحوّل "رجل السلام" والتسامح والفائز بجائزة نوبل إلى متّهم بجرائم وانتهاكات ومذابح! وفي موقف نادر، أصدرت اللجنة المانحة لجائزة نوبل للسلام بياناً بدا كأنه يمهّد للتراجع عن قرارها بمنح آبي أحمد الجائزة في العام 2019، إذ قالت اللجنة التي نادراً ما يكون لها موقف بشأن ما يفعله الفائزون بجوائزها بعد حصولهم عليها، إنَّها "تتابع عن كثب التطورات في إثيوبيا، وتشعر بالقلق الشديد".

المؤشرات اليوم تفيد بأنَّ كلّ ما فعله آبي أحمد وأنجزه منذ وصوله إلى السلطة في العام 2018 معرّض للتلاشي بفعل الحرب مع التيغراي. سياسة التسامح وإطلاق الحريات على الصعيد الداخلي، وأجواء السلام والتعاون على المستوى الإقليمي، وسمعة إثيوبيا في الأوساط الدولية كبلدٍ صاعد وجاذب للاستثمار... كل ذلك معرض للزوال.

مصر وما يجري في إثيوبيا ومستقبل سدّ "النهضة"

من الطبيعي والمشروع التفكير في مدى استفادة مصر من تطورات الحرب الأهلية المشتعلة في إثيوبيا في ما يتعلق بسد "النهضة". وقبل ذلك، يمكن التساؤل: هل لمصر دور فيما يجري في إثيوبيا؟ بمعنى، هل يمكن أن تكون مصر داعمة لطرف معين بشكل ما في إثيوبيا؟ 

الإجابة عن هذين التساؤلين هي النفي، فليس لمصر دور مباشر أو غير مباشر في ما يجري، بل هي تكتفي بدور المراقب والمتابع، فالأزمة الإثيوبية داخلية وأسبابها، كما أوضحنا، تعود إلى صراع الإثنيات والمصالح بين الأطراف الإثيوبية، ولكن هذا لا ينفي أن تكون مستفيدة مما يجري، إذ إنَّ ضعف الدولة الإثيوبية والحكومة المركزية سينعكس بلا شكّ على المفاوضات وملفّ سدّ النهضة. 

إن الخطط الاستراتيجية البعيدة المدى لاستفادة إثيوبيا من السدّ تقتضي بالضرورة وجود حكومة مركزية مستقرة وقوية في أديس أبابا. وبخلاف ذلك، إن أهمية السدّ لإثيوبيا وقدرتها على الاستفادة منه سوف تتضاءل. 

ومن المستبعد أن تتمكَّن الحكومة الإثيوبيّة المنهمكة في صراع داخليّ طاحن من مواصلة الاهتمام بمشروع السدّ بالشكل الذي رأيناه في السنوات القليلة الماضية، وقدرتها على إكمال العمل والتقدم في أعمال البناء والإنجاز باتت ضعيفة. 

ولو استمرَّ الوضع الحالي لفترة أطول، فإنَّ مسألة الملء الثالث لخزان السدّ ستصبح موضع شكّ. صحيح أن عن حكومة إثيوبيا لم تصدر حتى هذه اللحظة أي شيء يشير إلى تغيير في الموقف من سدّ النهضة والعلاقة مع مصر، ولكن في النهاية، ستفرض الوقائع على الأرض نفسها.

كما أنَّ إثيوبيا تعتمد على جهات أجنبية وبنوك دولية ومؤسسات مالية لتمويل مشروع السد، ولكنها قد تراجع نفسها وتعيد حساباتها بشأن تقييم جدوى مشروع السد في ظلّ وجود صراع أهلي أو حكومة ضعيفة في البلد.

الأمر إذاً يعتمد على تطورات الأزمة في إثيوبيا. إذا فشلت الحكومة الفيدرالية في حسم الموقف لمصلحتها بسرعة والانتصار على خصومها، وطالت الحرب الداخلية، فإن مصر ستكون في وضع مريح نسبياً، وستخف الضغوط عليها. 

أما في حالة انهيار الحكومة المركزية في أديس أبابا على يد خصومها التيغراي، فسوف تدخل إثيوبيا في فوضى شاملة بشكل يؤدي إلى إعاقة مشروع السد إلى أمد غير معلوم. في تلك الحالة، ربما سيكون على مصر التدخل في الإقليم الإثيوبي الذي بُني فيه السد (بني شنغول – غومز)، بحيث تضمن حمايته من انهيار مفاجئ أو عمليات تخريب تؤثر في كميات المياه المتدفقة إلى السودان ومصر وانتظامها. 

ولو تمكّنت حكومة أبي أحمد من تحقيق انتصار سريع وحاسم على جبهة تيغراي (وهو أمر مستبعد)، فإنها ستخرج من الأزمة، وقد أنهكت قواها وضعف وضعها، وستكون بحاجة إلى معالجة الجروح وإعادة تحقيق السلم الأهلي كأولوية، وربما يدفعها ذلك إلى إبداء مرونة أكبر في المفاوضات مع مصر.