أين المشاركة العربية لمحاسبة مجرمي حرب الإبادة؟
مبادرات كثيرة من الدول ومن أحرار العالم لمحاكمة مجرمي الحرب، ولا أمل في تحرّك الدول العربية والإسلامية، ولا في حراك المجتمعات المنهارة الغارقة في غيبوبة، لكن المجتمعات لا تموت إلا إذا ماتت روح المقاومة في النخب والتيارات الفكرية والسياسية.
أمام طاقات النخب العربية والإسلامية أفق رحب للتحرّك في مجتمعاتها ومع الجاليات العربية والإسلامية، وهي الأكثر انتشاراً في رحاب الكون والأكثر قدرة على فعل التغيير، لكن يبدو أنَّ معظم النخب العربية والإسلامية التي لم تفقد كرامة الإحساس بالمسؤولية والطموح الإنساني على نقيض نخب غابة التوحّش ربما تفتقد التقاط طرف الخيط لتحريك أيديها ورؤوسها وعدم الاكتفاء بتحريك ألسنتها.
نواة كسر الجمود
لا ريب في أنه يمكن لمجموعة، ولو قليلة العدد، من النخب الأكثر إحساساً بمسؤولية القدرة على الفعل، أن تتلاقى في "منتدى الحوار الاستراتيجي" (أو أي اسم وشكل آخر) بهدفين:
أ ــ بحث فكري- تاريخي لبلورة مشروع رؤية استراتيجية سياسية في منطقتنا العربية ــ الإسلامية، بمواجهة مشروع الرؤية الاستراتيجية السياسية الأميركية ونظامها الدولي.
ب ــ تحرّك عملي في إطلاق مبادرات نحو أهداف سياسة واستراتيجية مع أصحاب الشأن والاهتمام المختص في موضوع كل ملف على حدة، بحيث يعمل كل مهتم في حقل اهتمامه واختصاصه وخبرته في سبيل تكامل المبادرات والتحرّكات مع بعضها البعض في أهداف سياسية واستراتيجية جامعة.
في المقاومة السياسية
إن القضية الفلسطينية في منطقتنا العربية - الإسلامية هي مفتاح الصراع بين غابة التوحّش النيوليبرالية المعولمة والطموح الإنساني إلى التحرّر والانعتاق من السحل والقهر ورمي البشر، وهي رمز الصراع العالمي بمواجهة منظومة عالم الغابة على الصعيد الكوني.
وليس مصادفة تحرّك المسلمين في جميع أنحاء العالم من ماليزيا وإندونيسا والجمهوريات الروسية إلى كاب تاون في أفريقيا الجنوبية، جنباً إلى جنب مع دول العالم الجنوبي في أفريقيا وأميركا اللاتينية، ومع أحرار العالم في أميركا الشمالية والدول الغربية.
الغضب الجماهيري العالمي الواسع ردّاً على مساعي منظومة الغابة لقتل مشاعر الأخوّة والتضامن الإنساني لا يخفي آثار عمل النخب والتيارات السياسية والفكرية والثقافية والشبابية منذ زمن، ولا سيما في حركة المناهضة والمقاطعة وفي حركة "العولمة البديلة" منذ حركة "احتلوا وستريت" عام 2000 بمواجهة منظومة الغابة في بلدانها وعلى اتساع المنظومة في العالم، فتحرّكها ضد الحرب الأميركيةـ الإسرائيلية، فضلاً عن مشاركة الدول الغربية و"المجتمع الدولي" لإبادة الشعب الفلسطيني، هو في عمقه تحرّك ضد العدو المشترك، سواء ضد العدو الوطني في كاتالونيا ودبلن وعالم الجنوب، أم ضد العدو الاجتماعي والسياسي النيوليبرالي العنصري في أميركا الشمالية (حركة "ووك" مثلاً وحركة حياة السود مهمة...)، أو فرنسا (ميلينشون ولجان المقاطعة ودعم فلسطين...)، وفي بريطانيا وإسبانيا وإيطاليا وبلجيكا...
هذه القوى السياسية والشبابية التي تصعّد المواجهة ساعة أقصى توحّش المنظومة في غزّة والضفة والمنطقة، تأمل المؤازرة والعمل مع النخب العربية والإسلامية ضد العدو المشترك. ومن نافل القول اعتبارنا تحرّك الجنوب العالمي وأحرار العالم مجرّد "رأي عام" عاطفي ظرفي يطيح رغبة التقارب والتواصل، ناهيك بالحوار وتبادل المعرفة والعمل المشترك.
المبادرة التي أطلقتها جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية هي قمة جبل الجليد في معركة المواجهة بين أركان منظومة غابة التوحّش وقوى محور المقاومة في منطقتنا والمقاومة السياسية في العالم.
وبصرف النظر عن نتائج المحكمة التي تتعرّض لضغوطات سياسية من دول المنظومة، فإن اتخاذ جنوبي أفريقيا زمام المبادرة في أعدل القضايا العادلة هو كرة ثلج تكسر فولاذ المحرمات المترسّخة في قيَم "المجتمع الدولي" وقوانينه منذ نكبة احتلال فلسطين عام 48، وتفتح كوّة في جدار قيَم المنظومة الدولية و"شرعيتها الدولية" الوليدة في مؤسسات الأمم المتحدة تحت جناح أميركا المنتصرة في الحرب العالمية الثانية (ميثاق روزفلت ثلاثي الأبعاد: الناتوــ الأمم المتحدة ــ مؤسسات بريتون وودز).
بدأت المبادرة بفتح المعركة الحقوقية ــ السياسية ــ الإعلامية بين رواية المنظومة الدولية لإعادة إحياء "إسرائيل" في احتلال فلسطين وأسرلَة المنطقة وصهينتها ورواية التحرر الفلسطيني رمز الصراع العالمي بين البربرية والإنسانية، وهي تفتح معركة الصراع مع الأهداف الأميركية ــ- الغربية في إنشاء "دولة يهودية" معفية (مثل أميركا والدول الغربية) من المحاسبة والمعاقبة بناء على ترسيخ صناعة "الهولوكوست" لهذا الغرض، وعلى فبركة "مكافحة اللاسامية والإرهاب" للغرض نفسه.
"منتدى الحوار الاستراتيجي" المقترح (أو أي اسم آخر وشكل منتدى يمكن أن يفتح على الحوار بالعمق وإطلاق مبادرات عملية بأهداف سياسية) يمكنه المبادرة مع عدد محدود جداً من آلاف "الجمعيات المعنية بحقوق الإنسان" في المنطقة العربية - الإسلامية، وآلاف الجمعيات المعنية "بحقوق الطفل" أو "المرأة" أو عشرات الآلاف من المحامين والقضاة والبرلمانات والاتحادات الحقوقية والنقابات والروابط المهنية... لدعم مسار جنوبي أفريقيا أسوة بباقي العالم، وهو مسار حقوقي - سياسي ـ- إعلامي يفتح على مقاضاة ومحاسبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية الإسرائيليين والغربيين في "محكمة الجنايات الدولية" أو المحاكم الأوروبية الوطنية، وذلك بالانضمام إلى دعوى المحامي الفرنسي جيل دوفير المرفوعة بدعم 550 من كبار المحامين الغربيين أو إطلاق دعاوى عربية - إسلامية تتلاقى وتتكامل مع الدعاوى الأخرى، وتأخذ موقعاً بدل الفراغ العربي ـ- الإسلامي، في المعركة السياسية العالمية المفتوحة على مصراعيها لأجل غير مسمى.
في هذا المنتدى المقترح، تدار الأهداف السياسية والتنسيق ما أمكن في المنطقة العربية - الإسلامية بين المبادرات والنشاطات العملية العالمية، ومنه إطلاق مبادرة إنشاء صندوق لجمع التبرعات والمساعدات تحت إشراف لجنة مالية خاصة ذات شفافية عالية وصدقية لا غبار عليها.
ما هو خاصّ بالمنطقة العربية - الإسلامية في هذا السياق، ويحتاج إلى مشاركة الجنوب العالمي وباقي الأحرار في ميدان المعركة السياسية، هو المعركة الشرسة لمنع تحقيق الأهداف الجيوسياسية الإقليمية التي تسميها الإدارة الأميركية "الاستراتيجية السياسية لليوم التالي"، فحرب الإبادة الأميركية - الإسرائيلية التي تشارك فيها أنظمة دول عربية وإسلامية، إذ ترى الحرب صراع "المتطرفين" بين نتنياهو وحماس، تمرّر استمرار الحرب في مباحثاتها مع الإدارة الأميركية بشأن حكم غزة ووهم "الدولة الفلسطينية" في "اليوم التالي".
هذه الأنظمة تشترك عملياً في مساعي تحقيق أهداف الحرب الجيوسياسية الإقليمية في إطار أحلام بايدن لقيادة العالم في قرن أميركي جديد، وتراهن مع الإدارة الأميركية على إعادة إحياء "الدولة اليهودية" بعد الطوفان، في ترسيخ احتلال فلسطين وأسرلَة المنطقة وصهينتها بإقرارها حق وجود "يهودية الدولة القومية التاريخية" على أرض "شعب الله المختار"، بحسب أساطير المعتقدات الصهيونية "العلمانية الديمقراطية" للدول الاستعمارية الغربية ودولة الاحتلال الإسرائيلي، وبحسب معتقدات الصهيونية الدينية وفق أساطير سفر التكوين وسفر التثنية لإبادة نسل العماليق.
أنظمة الدول العربية والإسلامية التي تقبل تبنّي المعتقدات الصهيونية في اتفاقيات "أبراهام" مع أميركا و"إسرائيل" تعوّل على فتات العائدات المالية في المشروع الأميركي - الهندي (طريق التوابل) في مقابل طريق الحرير الصيني، فهي تجمح إلى الانخراط مع "إسرائيل" والرساميل الغربية في استغلال ثروات البحر الأحمر والقرن الأفريقي وأفريقيا السمراء في مشاريع "نيوم" والاستثمار في النفط والأرض والمرافئ... لكن تعويلها عرضة للذهاب أدراج الرياح، لأن الشرط الأساس هو الاستقرار السياسي والاجتماعي الجيوسياسي في المنطقة العربية- الإسلامية وشعلتها فلسطين المحتلة، وفي منطقتي البحر الأحمر والقرن الأفريقي... لكن طفولتها السياسية البدائية الريعية تحجب عنها النظر في ضرورة تأمين استقرار محيطها الإقليمي الجيوسياسي، حتى في سبيل تعزيز مصالحها المالية الضيّقة، وهي تظلّ محكومة، في إطار الاقتصاد الريعي نفسه، بألا تكون شريكاً متأسرلاً ومتصهيناً في التبعية إلى مشروع التخريب والحرب الأميركية ــ الإسرائيلية الجيوسياسية. ولا بدّ لها من تحييد نفسها عن التبعية لكي تستطيع الإفادة القصوى الخاصة من المنافسة الاستراتيجية بين مشروعي طريق الحرير وطريق التوابل.
إن "منتدى الحوار الاستراتيجي" المقترح يمكنه المساهمة في المقاومة السياسية لدرء مخاطر مشاركة أنظمة المنطقة في تحقيق أهداف الحرب الأميركية ــ الإسرائيلية الاستراتيجية بإعادة إحياء "إسرائيل" بعد الطوفان في المنطقة، وتبنّي الأنظمة المعتقدات الصهيونية بذريعة "السلام" الأميركي والوعد بحل "الدولتين"، وهو وعد لذرّ الرماد في العيون غير قابل للتحقيق، ولو على جزء من أرض فلسطين، وغير قابل للتعايش مع يهودية الدولة، في ظل انفجار الهمجية الدينية المسيحية في الغرب والبرازيل والأرجنتين... وتغوّل الهمجية اليهودية في "إسرائيل" والهمجية الداعشية في العالمين العربي والإسلامي، وهي همجيات تشدّ من أزر بعضها بعضاً، وتصب في طاحونة الداعشية الصهيونية.
تبقى مهمة "منتدى الحوار" الأساس التي يمكن تحقيقها بالمبادرات العملية والمقاومة السياسية هي العمل المشترك نحو أهداف سياسية استراتيجية بين المنطقة العربية ــ الإسلامية والجنوب العالمي وأحرار العالم لإزالة "الشرعية الدولية" عن "الدولة اليهودية" بالعودة إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1975 في اعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، والعمل على تفكيك "يهودية الدولة" وملحقاتها مثل "مكافحة اللاسامية" وغيرها، من أجل حلول إنسانية صاغتها فلسفة عصر الأنوار لحل "المسألة اليهودية" في المجتمعات الأوروبية الغربية والشرقية، وكذلك حل المسائل العنصرية و"الإسلاموفوبيا" وشوفينية تفوّق العرق الأبيض و"المركزية الأوروبية" في المجتمعات الغربية.
إن مقولات النخب العربية والاسلامية نقلاً عن وصفات الحضارة الغربية في القرنين الماضيين كشفتها عارية أشهر "طوفان الأقصى"، فالأجيال الشبابية ترميها وراء ظهرها، لكن موت النخب في قاعدة الهرم السياسي والاجتماعي عبء ثقيل على نعومة أظفارها.