أميركا والكيان الصهيوني والنظام الاستيطاني الدولي
الانحطاط الاستراتيجي للكيان مرهون إذاً باستمرار قتاله وإنهاكه على كل الجبهات بـ"الحروب غير المتناظرة" بين المقاومة الشعبية والاحتلال على النمط اللبناني والفلسطيني.
هل العلاقة بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني علاقة عضوية أم وظيفية؟ الراجح أنها علاقة وظيفية، وأن الكيان مجرد قاعدة عسكرية متقدمة. ويترتب على ذلك إمكانية تفكيك الكيان الصهيوني وتصفية مشروعه الاستيطاني وترسانته النووية.
كان المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري يرى أن اليهود لا يسيطرون على أميركا ومقدراتها واقتصادها وقرارها، ويعدد قطاعات حيوية اقتصادية لا ثِقل لليهود فيها: صناعة الحديد والصلب والتعدين والصناعات الكيميائية والهندسية والمصارف الكبرى والزراعة، واقتصار نفوذهم تقليدياً على تجارة التجزئة والصرافة والسمسرة والبورصة والترفيه والخدمات..
هذه المهن هي ما كان يسمح لليهود بها في أوروبا منذ القرون الوسطى. يُذكر أن جيل المهاجرين اليهود الأوائل في أميركا كانوا عمال مناجم، وأصبح أولادهم محامين وأكاديميين، وأحفادهم مديري أعمال ووسطاء في البورصة ومنتجي أفلام، وهكذا.
في القرن السادس عشر، سيطر البيوريتانيون على برلمان ثورة كرومويل في إنكلترا. وبعد فتوى الإصلاحي البروتستاني الفرنسي الكبير جون كالفن (1509-1564) بإباحة الربا، استقدم البيوريتانيون صرافين يهوداً من هولندا لتأسيس صناعة مالية وإقراض.
تزامن ذلك مع مرحلة هامة في إحياء العهد القديم بالحياة الدينية الأوروبية بتأثير "الإصلاح" الديني الباحث عن مرجعية موازية لمرجعية الكنيسة الكاثوليكية، تلتها مراحل أخرى أفضت إلى القرنين الـ19 و20، حين قام المبشرون الإيفانجيليون بالترويج لفكرة الصهيونية والدولة اليهودية، وربطوا هجرة اليهود لفلسطين بنبوءات آخر الزمان وعودة المسيح ومعركة "أرمجدون" الفاصلة، وسعوا لاستصدار وعد بلفور.
استعار الاستيطان الأوروبي ديباجاته من التوراة وسردياتها وأبطالها ورموزها وقيمها وجغرافيتها، واستمد المهاجرون الأوروبيون رؤيتهم الكونية وسرديتهم الدينية والأخلاقية من نصوصها، وتماهوا تماماً مع الروح العبرية، واعتبروا أنهم خرجوا مما يشبه الأسر الفرعوني لبني إسرائيل (في مصر التوراتية) إلى "أرض الميعاد".
وكتب مستوطنون عهداً على السفينة التي ذهبوا بها إلى أميركا الشمالية يشبه عهد الإله "يهوه" لبني إسرائيل في العهد القديم، وهاجروا لأنهم أرادوا تأسيس "إسرائيل الجديدة" في العالم الجديد. انطلقت أيديولوجيا الاستيطان التي أسست فكرة "أميركا"، وهي الترجمة الإنكليزية لـ"إسرائيل الأسطورية"، بقوة دفع عاتية تقوم على: احتلال أرض الغير، واستبدال شعب بشعب، واستبدال ثقافة بثقافة. وكل منها إبادة قائمة بذاتها.
امتلأ خطاب المستوطنين البيض في أميركا بتعبيرات أرض الميعاد وميثاق الرب وشعب الله المختار والاستكشاف وارتياد التخوم والغزو وإبادة السكان الأصليين. وصاحب ذلك اعتقاد بفرادة تاريخية لتجربة الاستيطان، وأنها جزء من أجندة الرب، وأن أميركا بتعبير الكتاب المقدس "مدينة على جبل" و"منارة الأمم".
وقد نشأ الدين المدني؛ دين الدولة الأميركية ومؤسسات "العدالة" والبيروقراطية والشُرطة وفرض القانون، عن أيديولوجيا المستوطنين "البيوريتانيين" الأوائل الذين طردوا من إنكلترا، مُكرساً يهوه "رب العهد القديم" بعنصريته وعنفه وشراسته كمرجع أعلى، ما يفسر شراسة الدولة الأميركية وعنفها وعنصريتها وعدوانيتها وسلطويتها.
وقد لفت باحثون إلى تغلغل أيديولوجيا الاستيطان العبري التوراتي في نسيج الحياة الأميركية، وخصوصاً الحياة العامة وعمل الكونغرس، فـ"الدين المدني"، مثلاً، يحتفل بـ"عيد الشكر" أكثر من "الكريسماس"، وهذا ما يكرّس "المعنى الإسرائيلي لأميركا"، وهذا ما أكده حاخام مهم في كتاب عن تاريخ اليهود بأميركا، يقول إن الأميركيين "أكثر يهودية منا"، لأنهم "تبنوا كل أفكارنا"، مقارناً بين "يهود الجسد، أي أميركا، ويهود الروح الذين هم نحن"، ويفسر تغلغل اليهودية هذا العلاقة بين أميركا والكيان الصهيوني.
النفط و"إسرائيل" ومستقبل العالم الإسلامي
تتواتر في دوائر السياسة والإعلام في أميركا مقولة: "لو لم تكن إسرائيل موجودة لتحتم إيجادها"، وعدم وجودها يتطلب نشر عشرات السفن الحربية وحاملات الطائرات والقواعد العسكرية في المنطقة من دون طرح مبررات ذلك.
وقد تشدّق بذلك كبار قادة الكيان الصهيوني، مثل بنيامين نتنياهو، الذي أكد وهو يتفقد حاملة طائرات أميركية راسية بجوار ساحل فلسطين المحتلة أن هناك حاملة طائرات أخرى هي "إسرائيل". أما أرئيل شارون، فقد رفض معادلة "إسرائيل" بحاملة طائرات واحدة، مؤكداً أنها تعادل 10 حاملات طائرات!
هنا، يأتي دور المشروع الصهيوني "الوظيفي" في إعادة تدوير منظومة السيطرة الإمبريالية واستدامة الهيمنة الغربية على المشرق ضمن مثلث جيواستراتيجي مترابط بنيوياً وعضوياً، وتؤدي كل حلقة من حلقاته إلى الأخرى ضمن دائرة تراكمية متواصلة وذاتية التغذية، بعد انتزاع أسباب المقاومة من المشرق: الخطر والتهديد والابتزاز.
ترافق ذلك مع تعاظم أهمية المشروع الاستيطاني الصهيوني ضمن منظومة السيطرة الغربية، وخصوصاً بعد عدوان 1967، وتَوثُق العلاقة بينهما، كما تعاظمت طاقة هذا المشروع الاستيطاني على التمدد وتوسع مساحات ومجالات الاستيطان الصهيوني من الخليج إلى المحيط.
خلال فترة الحرب الباردة، كانت ثوابت السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط ثلاثة: تأمين واستمرار تدفق نفط الخليج، ومنع دخول السوفيات أو طردهم، ومنع اندلاع حرب عربية إسرائيلية شاملة. وفي أعقاب غزو العراق للكويت في 1990، أجمل هنري كيسنجر أولويات أميركا في حملتها وحروبها في ثلاث أولويات: النفط وإسرائيل التوجه المستقبلي للعالم الإسلامي!
انحطاط استراتيجي
بلغ الكيان الصهيوني قمة العلو والغطرسة بعدوان يونيو 1967 ليبدأ الهبوط أو الانحطاط الاستراتيجي بعد أيام في معركة رأس العش، ثم حرب الاستنزاف (1967-1970) التي شنتها مصر وكبدته خسائر موجعة، ولم تتوقف إلا من أجل بناء حائط صواريخ الدفاع الجوي المصري، ثم جاءت حرب 6 أكتوبر 1973 (10 رمضان 1393هـ) التي زلزلت الكيان الصهيوني، وأهالت التراب على خط بارليف وتحصيناته واستراتيجية الحدود الآمنة، ومُنيت قواته بهزيمة قاسية وإهانة مذلة. في أيام الحرب، نشرت الصحافة أن ضابطاً مصرياً أسر ضابطاً إسرائيلياً، وسأله: ماذا حدث لكم.. لماذا تغيرتم؟ فأجابه الإسرائيلي: بل أنتم الذين تغيرتم يا سيدي!
الانحطاط الاستراتيجي للكيان مرهون إذاً باستمرار قتاله وإنهاكه على كل الجبهات بـ"الحروب غير المتناظرة" بين المقاومة الشعبية والاحتلال على النمط اللبناني والفلسطيني.
يذكر توماس فريدمان أن سفير إيطاليا في بيروت قال له: إن أميركا بقوتها الضخمة تشبه فيلاً لا نفع منه في القتال إلا ضد فيل مثله! وهكذا تؤدي المقاومة الشعبية وحروب الاستنزاف إلى إرهاق معنوي ومادي لجيوش ضخمة، لكنها غير مؤهلة بنيوياً وتدريبياً ومعنوياً للتعامل مع حروب ومقاومة هكذه.
في حرب تموز 2006 في جنوب لبنان، تعرّض الكيان الصهيوني لانحطاط استراتيجي هدد موقعه وأهميته ودوره في خدمة الإمبريالية الغربية، كما تعرضت قدرته على الردع الاستراتيجي للتآكل والتراجع الصريح في مواجهة قوة بلا سمات وإمكانات الدولة، وشارك في المعركة أقل من ألف مقاوم لبناني، وكانت أول حرب عربية إسرائيلية تجاوز قتلاها العسكريون الإسرائيليون عدد شهداء المقاومة.
دمار المدرعات الإسرائيلية بصواريخ موجهة أو بمضادات محلية الصنع يفاقم تآكل الردع والانحطاط الاستراتيجي. يقول مؤرخون عسكريون إن القلاع الحصينة انتهى دورها باختراع المدافع، لتصبح الدبابات بالحروب الحديثة قلاعاً متحركة، لكن قذائف محلية الصنع تحيل هذه القلاع إلى متاحف التاريخ العسكري بيد مقاتلين حفاة يطلبون الشهادة ويشتبكون من المسافة صفر، كما تشهد حرب طوفان الأقصى شمالاً وجنوباً؟!
في صيف 2006، ثبت مقاتلو المقاومة اللبنانية بمواقعهم بمواجهة قوات الكيان الصهيوني في معارك امتدت 12 ساعة، وتمكنوا من التنصت على اتصالات الإسرائيليين، وأعطبوا سفينة حربية إسرائيلية من طراز ساعر على الهواء مباشرة.
يتصاعد إذاً الانحطاط الاستراتيجي ويهدد موقع الكيان الصهيوني ودوره الوظيفي لدى الإمبريالية الغربية، كنذير شؤم للغرب وهيمنته على منطقتنا والعالم والنظام الدولي أحادي القطبية، بل تُعتبر حالة المشروع الصهيوني، ضعفاً وانحطاطاً، مؤشراً هاماً على تراجع السيطرة الغربية.
لدى دراسة رد فعل الغرب على صدمة طوفان الأقصى، نجد اندفاعاً في دعم وتسليح الكيان الصهيوني وإمداده بخدمات لوجستية واستخباراتية وتبرير جرائمه والتعامل مع الحدث كتهديد وجودي للكيان، واعتبار الرئيس الأميركي -أكثر من مرة- أن المقاومة الفلسطينية، مثل روسيا، عدو وتهديد لأميركا والغرب، وضلوع قلب النظام الاستيطاني العالمي ودائرته الأنكلوساكسونية Anglo Sphere (أميركا وكندا وبريطانيا وأستراليا ونيوزيلاندا) في قيادة الحرب في وزارة الدفاع الإسرائيلية في تل أبيب، والمشاركة بضباط وخبراء ووسائل تجسس وجمع حربي، و"قوة دلتا" الأميركية لحرب المدن التي فقدت ببداية الحرب أفراداً حاولوا دخول غزة وعادوا أشلاء، ومشاركة استخباراتية وعملياتية مؤخراً بعملية النصيرات لاستنقاذ أسرى إسرائيليين وسقوط أفراد أميركيين.
إذاً، يشغل المشروع الصهيوني الاستيطاني موقعاً مركزياً في النظام الاستيطاني العالمي والهيمنة الغربية، ربما أكثر مما كان يُقدّر سابقاً، لكن تفكيك المشروع الصهيوني، تحت وطأة انقساماته وتناقضاته الداخلية وفقدانه الشرعية وتصاعد مقاومة الفلسطينيين والأمة، سيؤدي بالضرورة إلى تفكك النظام الاستيطاني العالمي والسيطرة الغربية عالمياً، وهذا موضع ترحيب بعالم الجنوب: آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية وقوى كبرى وقوى إقليمية مقاومة تدعو إلى تفكيك الأحادية القطبية لأجل نظام عالمي متعدد الأقطاب أكثر توازناً وعدلاً.
وكان لموافقة روسيا مؤخراً على نقل سلاح روسي إلى أطراف في حالة نزاع مع دول تسلح أوكرانيا دلالة بالغة في سياق سعي الدول وحركات التحرر الوطني للخروج من الحصار والاحتواء والسيطرة الغربية وتعزيز قوتها وفاعليتها، وهذا تطور مهم له ما بعده.