أكياس السياسة السّعودية الفارغة
أمام هذه الحقيقة، نحاول قراءة الموقف السعودي في إطار أوسع، بما يوفر توصيفاً أكثر دقّة للمرحلة المقبلة.
في الميثولوجيا اليونانية، تحكي أسطورة إيكاروس أنّه كان محتجزاً مع أبيه في متاهة في جزيرة كريت عقاباً لهما. وللهرب من العقاب، استعانا بأجنحة ثبّتاها على ظهريهما بالشمع، لكن أثناء الهروب حلّق الابن إيكاروس قريباً من الشمس، متجاهلاً نصيحة والده، فأذابت الحرارة الشمع، وسقط في البحر ليموت غرقاً.
مناسبة الحديث عن إيكاروس ووالده وأجنحتهما، هي التشابه الذي يطرحه الكاتب الأميركي دافيد أوتاواي بين إيكاروس وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، مع فارق واحد يتمثل بأنّ الأخير لا يزال يكافح في المياه بعد سقوطه.
يتخبّط محمد بن سلمان في مياه السياسة الإقليمية والدولية، ولا نقدّم جديداً حين نقول إنَ هذا هو حال السعودية أيضاً، فكل ما يحدث في هذه البلاد وكل ما يصدر عنها يتمحور حول شخص ولي العهد وطموحه السياسي.
ونحن هنا إذ نحاول استقراء جديد السياسة السعودية في هذه المرحلة تجاه عدد الملفات، بناءً على الإجابة عن سؤال: كيف يفكّرون في الرياض؟ نستبق اعتراض البعض على كون التخبط السعودي يسبقه تفكير وتخطيط، وإذ نقرّ بفشل السياسة السعودية، نضع في الاعتبار أنَّ السياسات المحكوم عليها بالفشل لا تعني عدم التحسّب لها.
كيف يفكّرون في الرياض؟
يحكم التعاطي السياسي السعودي مع ملفات الإقليم عاملان رئيسيان؛ يتعلّق الأول بطموح ولي العهد السياسي والصراع الذي تشهده أروقة قصر اليمامة، فيما يرتبط الآخر بمحاولة السعودية البحث عن مكانة ودور في ظلِّ ما جرّه طموح ابن سلمان وإخفاقاته على البلاد.
وفق هذا الإطار العام، يمكن القول إنَّ الرياض تركّز حالياً على إنهاء عزلتها، ليس عبر مراجعة سلوكها خلال المرحلة الماضية، وإنما من خلال ما يمكن تسميته سياسة افتعال الأزمات، ومن ثم ربط هذه الأزمات ببعضها البعض، بحيث يصبح حلّ إحدى العقد غير كافٍ لحلحة الأمور. وبمرور الوقت، يتزايد تعقيد الأزمة، وتضطر باقي الأطراف إلى الانخراط فيها بشكل أكبر.
وتتركّز السمة الأساسية لهذا التفكير على ضرورة الحفاظ على حالة من عدم الاستقرار الإقليمي، وبذل الجهود لتخريب كل بادرة تهدئة أو وضع العراقيل في طريقها على أقل تقدير. هكذا، تعطّل السعودية عودة ديناميات العمل العربي المشترك، فتقف معترضة على عودة سوريا إلى الجامعة العربية من دون أسباب واضحة، وكذلك يلتبس على المراقبين موقف الرياض من تهدئة الأجواء مع طهران، وبالمثل إصرارها على الغرق عميقاً في مستنقع عدوانها على اليمن.
ضمن هذا السياق، يبرز الملف اللبناني. يثير "الحَرَد" السعودي وتمنّع الرياض عن الرضا استغراب البعض، إذ لم تكن استقالة وزير الإعلام جورج قرداحي كافية لإنهاء الأزمة المفتعلة، فأتبعتها الرياض باختلاق عناصر أخرى للأزمة، ثم ربطتها بطريقة كوميدية أحياناً بملفات أخرى، كملف اليمن على سبيل المثال.
العداء السعودي لحزب الله جليّ ومعلن، والأصابع السعودية واضحة ومكشوفة في كلِّ مفصل أمني أو سياسي في لبنان. أمام هذه الحقيقة، نحاول قراءة الموقف السعودي في إطار أوسع، بما يوفر توصيفاً أكثر دقّة للمرحلة المقبلة.
لبنان هدفاً
ما زالت السعودية تعمل على تغيير الأغلبية النيابية في الانتخابات اللبنانية المقبلة، لكنَّ عملها هذا بات محكوماً بمعطيات الواقع. وإزاءها، بات لافتاً تعبير الصحافة السعودية عن قناعة بالعجز عن التأثير. لذا، تتلخّص النظرة السعودية المستجدة إلى الاستحقاق الانتخابي في لبنان بالعمل على منع إقامة الانتخابات بالتوازي مع تحسب سيناريوهات فشلها في ذلك.
في السيناريو الأول، تنتقل السعودية من محاولة فاشلة للتأثير في الانتخابات إلى محاولة تطييرها، وتعمل في سبيل ذلك في اتجاهين:
- يصوّب الأول على النظام السياسي اللبناني، ليس من ناحية حيويته أو ملاءمته، وإنما لجزئيّة عجزه عن التأثير في قرارات المقاومة التي تتحكّم، وفق السردية السعودية، في القرار اللبناني، وتأخذه للإضرار بمحيطه العربي القريب والبعيد. وتهدف الرياض من ذلك إلى إقناع المجتمع الدولي "بعدم جدوى الانتخابات، مهما كانت النتائج"، أي حتى لو أفرزت أغلبية مناوئة لحزب الله.
- أما الآخر، فيقوم على توجيه أدوات السعودية في لبنان للعمل على استفزازات طائفية غير مبررة، بغرض استجلاب ردود أفعال مماثلة من بيئة المقاومة، وهي الاستفزازات التي يرجّح أن تتصاعد كلَّما اقتربنا من موعد الاستحقاق الانتخابي، بالتّوازي مع تحركات تستهدف تعطيل الساحة الأمنية اللبنانية، وحملة إعلامية من أذرع الرياض تحمّل المقاومة مسؤولية أيّ حدث أمني مستقبلي.
يتقاطع ذلك مع رواج أحاديث تحريضية عن أفكار أميركية لتطبيق القرار 1559، عبر تقسيم لبنان إلى مناطق أمنية تستثني من التعاطي الدولي والعربي مناطق الجنوب والضاحية الجنوبية باتجاه البقاع شرقاً، تُضاف إليها حملة من البعض في لبنان للمطالبة "بالحماية الدولية من الاحتلال الإيراني".
في السيناريو الثاني (الانتخابات تجري في موعدها)، تعمل السعودية على إقناع المجتمع الدولي برفض أي نتيجة تفرز أغلبية للمقاومة وحلفائها أو رفض التعاطي مع جسم سياسي يعبر عن هذه النتيجة. وفي سبيل ذلك، تعمل الرياض على إفراغ الساحة السنية في لبنان.
وهنا، كان لافتاً كم الترحيب في الصحافة السعودية بإعلان سعد الحريري خروجه من الحياة السياسية، وهو الإعلان الذي اتُّخِذ منصَّة لدعوة السنة في لبنان إلى عدم المشاركة في الانتخابات، في محاولة لتشتيت تركيز الصوت السني في زعامة معينة، وإذابته ظاهرياً في كتلة الناخبين، ثم الطعن في شرعية الانتخابات، لكونها أخرجت السنة من الحياة السياسية.
يتعارض ذلك مع الموقف التركي الَّذي يحاول خلق زعامة سنية في ظلِّ الفراغ الذي تشهده هذه الساحة. وهنا، تقول المصادر إنَّ الرياض أدرجت "الاحتكار السعودي للساحة السنية في لبنان" في أجندة الزيارة المرتقبة للرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى الرياض، في إطار إجراءات إعادة بناء الثقة بين الطرفين.
لبنان وسيلة
تصبّ كلّ المعطيات السابقة في إطار أكبر، إذ تعمل الرياض عبر استراتيجية "الحَرَد" على حشد لوبي عربي حولها. يقتات هذا اللوبي على الأزمات التي تفتعلها السعودية في لبنان على وجه الخصوص. ولأنَّها تدرك هشاشة وضعها وصعوبة اقتناع الآخرين بخياراتها، توظّف السعودية أدوات الضغط التي تمتلكها في ذلك، وتبرز هنا الكويت مثالاً مهماً؛ ففيما تنشغل بترتيب بيتها الداخلي مع تولي ولي العهد زمام الأمور بشكل فعلي، وتعمل على إنهاء الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد منذ العام 2011، تلتقط السعودية هذه اللحظة السياسية الدقيقة لتقايض موقفاً سياسياً كويتياً يتماهى مع التوجهات السعودية لبنانياً، بامتناع سعوديٍ عن الإخلال بالوضع الداخلي للكويت. نُسجّل هنا أيضاً تركيز الصحف السعودية على استكتاب كتاب كويتيين، من الطائفة الشيعية حصراً، لمهاجمة المقاومة في لبنان.
في نهاية المطاف، تعمل السّعودية على توظيف كلِّ ما سبق سرده في إطار مآلات المفاوضات النووية في فيينا، وبالاحتمالية المتصاعدة للتوصل إلى اتفاق بين إيران والقوى الكبرى. تريد الرياض القول، من خلال الحفاظ على حالة اللااستقرار الإقليمي، إنَّ التوصل إلى اتفاق مع إيران لا يعني نهاية "المشكلة الإيرانية". لذا، يروّج إعلامها ونخبها افتراضاً مفاده أنَّ المنطقة محكومة بحالة من "ميليشيات ما تحت الدولة"، وأن التهدئة مع إيران لا تعني عدم مواجهة هذه "الميليشيات المدعومة من قبلها"، وأنَ تحالفاً أمنياً دولياً تحت مظلة الولايات المتحدة هو ضرورة يجب اللجوء إليها. وفي هذا السياق، تستغلّ السعودية كل حدث أمني، كانبعاث تنظيم "داعش" مؤخراً، لتسويق هذا الافتراض دولياً.
ختاماً، لا يجب أن يُفهم هذا السرد في إطار التخوف من نجاح الخطط السعودية، فلطالما عاد حطّابو السياسة الخارجية السعودية بأكياس فارغة، لكنَّ الإقرار بذلك، والحكم المسبق على الاستراتيجية السعودية بالفشل، لا يمنعان من التحضّر لها، لأنها تأتي دائماً بأثمان باهظة، وما حصيلة السياسة السعودية الفاشلة في سوريا خلال العشرية الماضية سوى خير مثال على ذلك.