أسرى جلبوع في غربة "التنسيق الأمني"
بالنظر إلى أداء السّلطة، يبدو أنّها هي التي كانت تجابه مخاض ولادة النفق، وإن أتى عكس المنطق زمنياً، كما هو الحال في واقع السلطة الفلسطينية في كل الأحوال.
بينما ذهب الجميع بحثاً عن أجوبة "الممكن" في نفق بَدَت كل ملامحه "غير ممكنة"، من إعجاز العقليّة الأمنية إلى رصد مسار المطاردة وأهوالها، ثم اختراق أيهم كممجي ومناضل انفيعات الجدار العنصري، خيط رفيع تأتّى بين تصريحات الأسرى المعاد اعتقالهم، وفي حيثية مكان الاعتقال بحد ذاته.
بحسب الخطّة، كما رواها الأسير محمود العارضة لمحاميه رسلان محاجنة، كانت الوجهة واضحة لديهم: "العودة إلى جنين" في الضفة، فما الذي أوقع الأسرى الأربعة في أراضي الـ48 الخاضعة مباشرةً للاحتلال؟ وكيف اصطادت المنظومة الاستخباراتية الأخيرين في معقل جنين؟ يقع الجواب تارة بين تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، وتارة أخرى في أداء السلطة الفلسطينية منذ الدقائق الأولى لولادة نفق الحرية.
السيناريو المنطقي هنا بالنسبة إلى الأربعة يفترض اللجوء إلى الحاضنة الشعبية الأولى تحت كنف الأراضي التابعة للسلطة الفلسطينية في الضفة، وليس إلى معقل الحشد الاستخباراتي الإسرائيلي. على الرغم من وجود جدار الفصل، والاستنفار العسكري والأمني لقوات الاحتلال على خطوط التماس، فإنَّ الأذرع ستمتد حتماً لتقديم المساعدة وحماية الأسرى، هذا بالنسبة إلى النظرية المنطقية.
أما في الحالة الفلسطينية، وبوجود التنسيق الأمني، وتجنيد الاحتلال ترسانته الأمنية الكاملة في مهمة البحث، تغيرت الخطة، واضطر الأسرى إلى التفرّق في مناطق الداخل الفلسطيني التي يجهلون متاهاتها وطبيعتها، وتلاحقهم في طرقاتها عيون آلاف الكاميرات. أما في مناطقها المفتوحة، فكان الخطر الأمني الكبير يترصد بهم بسبب انتشار التدريبات العسكرية لـ"جيش" الاحتلال بشكل واسع.
أما بالنسبة إلى الأسيرين كممجي وانفيعات، فقد اختلف المشهد، وكان اعتقالهما في الأراضي الواقعة تحت حكم السلطة. وهنا، لا بد حُكماً من التنسيق مع السلطة. بحدّه الأدنى، سوف تبلغ قوات الاحتلال أجهزة الأمن بالانكفاء ريثما تنتهي من عملية الاقتحام. وفي قضية مصيرية للاحتلال كهذه، لا بد من انتقال التعاون مع السلطة إلى مستواه الأعلى، فهل جاء منع الأجهزة الأمنية الإرباك المسلّح على حاجز الجلمة ليلة الاقتحام بالذات من قبيل الصدفة مثلاً، بعد أن داوم المقاومون يومياً على افتعال المواجهات المسلحة مع قوات الاحتلال؟ يضاف إلى ذلك بيئة غير معدّة في الضفة لاحتواء المطاردين وسيطرة الاحتلال الفعلي على الأرض تحت غطاء السلطة. كلّ ذلك قلّص فرص وجود ملجأ للمطاردين في الضفة.
بالنظر إلى أداء السّلطة، يبدو أنّها هي التي كانت تجابه مخاض ولادة النفق، وإن أتى عكس المنطق زمنياً، كما هو الحال في واقع السلطة الفلسطينية في كل الأحوال. الحقيقة المؤكدة هنا أنه لن تكون هناك لقاءات علنية، فالسلطة حريصة على الالتزام بسياسة العمل "تحت الرادار"، ليبقى الإعلان منوطاً بمسؤولي الاحتلال أنفسهم، كما جرت العادة.
وقد جاء تصريح وزير الأمن الإسرائيلي بيني غانتس واضحاً حين أشاد بـ"التعاون الوثيق بين الأجهزة الأمنية الإسرائيلية المختلفة والسلطة الفلسطينية في عمليات البحث عن الأسرى الفلسطينيين الستة"، حسبما أفادت الإذاعة العامة العبرية "كان" في 10 أيلول/سبتمبر الجاري، مضيفاً: "هذا التعاون سيستمر، وفي نهاية الأمر، عاجلاً أم آجلاً، سنقبض على من ينبغي القبض عليهم"، كما نقل موقع "آي 24 نيوز" العبري.
وكان قد سبقه تصريح عضو لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي، التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، أشرف العجرمي، في 9 أيلول/سبتمبر الجاري، بأنَّ السلطة ستعتقل الأسرى الستة إذا عثرت عليهم: "هذا سيكون بمثابة الحل الأمثل لجميع الأطراف: إسرائيل والسلطة، وسوف نتخلّص من هذه المشكلة".
إنَّ الأسرى الأربعة لم يكونوا بمعزل عن هذا الواقع، وهم يملكون الإدراك الكلّي للإحاطة بما قد ينتجه "التعاون الأمني" للسلطة مع الاحتلال، كأولوية لوجودها الذي يطغى في حساباتها على الموقف الشعبي وتداعياته، فكان قرارهم مغايراً للخطة الأولية، علماً أنهم كانوا على بيّنة بأنَّ بينهم وبين الاعتقال مسألة أيام فقط، بحسب تصريحات الأسرى لمحاميهم، في ظل غياب الملجأ واستنفار "الجيش" الإسرائيلي في مناطق سلطته طلباً لاستعادة ماء وجهه، كما كان الاقتحام مخادعاً مشرّعاً من السلطة، لا بنادق المقاومين، لدخول جنين.
السّلطة بين المطرقة والسندان
في الحقيقة، إنّ السّلطة كانت واقعة بين مطرقة هبّة جماهيرية ضخمة في حال خروجها بموقف مستنكر للعملية وكشف المعلومات الأمنية في عملية المطاردة، وسندان خسارة وجودها والمكاسب الأخيرة التي أفرزتها ضغوطات إدارة بايدن على حكومة الاحتلال الإسرائيلي. مع ذلك، وجدت في عملية الأسرى ورقة رابحة لن تفرط بها، مقابل أثمان سياسية تصب في طموحاتها بعملية "بناء الثقة" مع الاحتلال.
كما أنَّها لم تكن لتقامر بالتخلّي عن قوام وجودها وإيقاف التنسيق الأمني، وفي هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها الاحتلال في تخطي معضلاته الأمنية، ولن تقحم نفسها مجدداً في الابتزاز المالي من قبل الاحتلال، في حال رفضها التنسيق الأمني في عملية الأسر، وهي التي تعاني منذ فترة أزمة مالية خانقة.
بطبيعة الحال، لن تسمح بإغلاق قنوات الفرج مع الإدارة الأميركيّة. لذا، اقتضت مصلحة السّلطة "الترتيب" مع الاحتلال، فتجاهل رئيس الوزراء محمد اشتية القضية متعمداً في اجتماع المجلس الأسبوعي في 6 أيلول/سبتمبر 2021، على الرغم من إشارته إلى أنَّ حكومته "تتابع باهتمام أوضاع الأسرى المضربين عن الطعام".
لكن لنفترض: ماذا لو أتى أداء السلطة مغايراً، كإيقاف التنسيق الأمني، كما فعلت سابقاً، وإن كان علنياً فقط، واحتضنت الأسرى الستّة؟ هل كانت عملية "نفق الحرية" ستواجه المصير نفسه؟ الحقيقة المرّة أنه كما لا يمكن نزع ملامح يحيى عياش وباسل الأعرج وأبو جندل ومحمد الضيف... من المسار النّضالي للشّعب الفلسطينيّ، لا يمكن فصل الكمائن التي زرعتها الأجهزة الأمنية الفلسطينيّة في طريق هؤلاء عند مفترق أوسلو.