أزمة إردوغان الاقتصاديَّة وانعكاسها على سوريا
بسبب سيطرة القوات التركية على غالبية المساحة شمال سوريا، وإلزام المواطنين التعامل بالليرة التركية، كان لتهاوي الليرة أثر مباشر في حالتهم المعيشية.
دخل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان العام 2022 بقوَّة، ولكن بتأثير سلبيّ وعكسي في بلاده، ما أرخى بظلاله القاتمة على المناطق التي يسيطر عليها في شمال سوريا بشكل مباشر، وعلى مواطني بلاده بشكل غير مباشر. إردوغان الَّذي أراد تحقيق "صفر مشكلات" مع جواره بخطط متفردة سياسياً اقتصادياً، نراه يأخذ اقتصاد بلاده إلى الانهيار.
شهدت الليرة التركية مؤخراً تدهوراً كبيراً أمام الدولار الأميركي. أتى ذلك غداة قرار إردوغان بخفض الفائدة للمودعين في البنوك، وهي سياسة معاكسة لأي سياسة إنقاذ تُتخذ في دول العالم. وتبع هذا الانخفاض سلسلة إجراءات لاقت سخطاً كبيراً بين المؤيدين له قبل المعارضين لإجراءاته، بسبب تأثيراتها المسكّنة للألم بشكل مؤقت، والتي لا تشمل خطّة علاج كاملة لإنقاذ الاقتصاد.
ونقلاً عن صحيفة "زمان" التركية، حذّر اقتصاديون أتراك من احتمال بلوغ معدّل التضخّم النقدي في تركيا نحو50 % بحلول شهر أيار/مايو القادم، مؤكدين أنّ هذا الوضع قد يتسبّب بتراجع دخل الأفراد بالليرة، والَّذي يشهد تراجعاً بالفعل بشكل كبير.
الوضع الاقتصادي التركي الحالي
يقول المحلّل السياسي السوري والمختصّ في الشأن التركي عمر رحمون للميادين نت إنّ الاقتصاد التركي شهد طفرة منذ وصول إردوغان إلى السلطة في تركيا في العام 2002، لكنّه خلال 20 سنة مضت، وبدلاً من أن يحافظ على الطفرة الاقتصادية التي قادها، قام بتدميرها بمغامراته الاقتصادية والسياسية والعسكرية في الإقليم كلّه، وخصوصاً بتدخله السلبي في سوريا، وعدائه للعرب بشكل عام.
ويضيف رحمون أنّ الحقيقة الاقتصادية في تركيا هي التي تتكلَّم، فالطفرة الاقتصادية هي التي جاءت بإردوغان إلى السّلطة، والانهيار الاقتصادي الذي تشهده الليرة التركية هو الذي سيخرجه من سدّة الحكم، والناخب التركي سيقف مع من يملأ له جيبه بالليرات، ولن يقف مع من يبيعه الأوهام والشعارات، مؤكداً أنّ الأزمة الاقتصادية في تركيا اليوم هي أزمة حقيقية، وليست أزمة مفتعلة أو دعايات تنشرها المعارضة التركية، إذ بدأت تظهر ملامحها جليّةً على الواقع المعيشي في تركيا، ولن يستطيع أحد أن يغطي شمس هذه الحقيقة، مهما حاول.
الأسباب والحلول
تعزو إحدى مؤسِّسات ثالث أكبر حزب معارض في تركيا "الحزب الجيد"، إيلاي أكسوي، في حديث إلى الميادين نت، تدهور الوضع الاقتصادي في تركيا إلى إهمال الحكومة دعم الإنتاج والاعتماد على الاستيراد خلال السنوات العشرين الماضية.
وتوضح أنّ ذلك ليس السبب الوحيد، فقد أثرت الحروب في المنطقة سلباً في الوضع التجاري والاقتصادي، وأولها الحرب في سوريا، ما أدى إلى توقّف الخط التجاري مع الدول العربية، إضافةً إلى استقبال تركيا 3.7 مليون لاجئ، في الوقت الذي تلقت وعوداً أوروبيّة بأن تحصل على كل النفقات المرتبطة بمعيشة اللاجئين. وإلى الآن، لم تحصل إلا على 6 مليارات يورو فقط، علماً أنّها دفعت ما يقارب 90 مليار يورو حتى هذه اللحظة.
وفي رأي إيلاي، لكي يتحسّن الاقتصاد، على الحكومة الاهتمام بالإنتاج، وتركيا قادرة على ذلك، ولكن لا يعلم أحد المخطط القائم، إذ لم يتم الإعلان عن استراتيجية حزب "العدالة والتنمية" في الشأن الاقتصادي حتّى الآن.
وتدعو إيلاي إلى تجنّب تدهور الاقتصاد بشكل أكبر، وإلى استئناف العلاقات مع دول الجوار والدول الإقليمية، ما يؤدي إلى إعادة انتعاش الاقتصاد بشكل سريع.
الانعكاسات على الوضع في سوريا
وبسبب سيطرة القوات التركية على غالبية المساحة شمال سوريا، وإلزام المواطنين التعامل بالليرة التركية، كان لتهاوي الليرة أثر مباشر في حالتهم المعيشية. وفي حالة موازية، كان لوجود تركيا في سوريا أثر سلبي في انهيار اقتصادها، بسبب الأموال التي تصرفها على اللاجئين والنازحين، وما تقدمه لهم من ميزات في أراضيها على حساب مواطنيها.
الانعكاس المباشر "الراهن" في إدلب وحلب
ألقى تدهور الليرة التركية ثقله الكبير على كاهل المواطنين في المناطق التي تسيطر عليها تركيا، قبل أن يلقي ثقله على الأتراك بكثير، إذ بدأت الأزمة المعيشية تتفاقم منذ أشهر، لتصل إلى ذروتها اليوم. ويعود السبب في ذلك إلى فرض التعامل بالليرة التّركية بدلاً من الليرة السّورية.
ومن أهم النقاط التي أثّرت في السوق هي تحول تجار الجملة الكبار إلى بيع تجار المفرق بالدولار بدلاً من الليرة التركية، ما أدى إلى ارتفاع مباشر للأسعار وتردي الوضع المعيشي، إذ إنّ العامل هناك يتلقى راتبه بالليرة التركية ويشتري بالدولار، ما أدى إلى انخفاض القدرة الشرائية بشكل كبير.
وشمل رفع الأسعار أساسيات الحياة، من خضراوات وفواكه ومعلبات ولحوم، إضافة إلى رفع أسعار الكهرباء والمواد النفطية، من بنزين ومازوت وكل مصادر التدفئة. ورغم كل هذا الغلاء، يواصل قادة الجماعات المسلحة التضييق على المواطنين وسرقتهم، بفرض رسوم إضافية على الطلاب في المدارس، ورفع قيمة الزكاة التي يأخذونها عنوة من الأهالي وغيرها من أمور يندى لها الجبين.
ولا ننسى فرق الرواتب بين الداخل السوري التي تسيطر عليه تركيا والداخل التركي، إذ يصل راتب العامل في سوريا إلى 500 ليرة تركية، فيما يصل راتب أستاذ المدرسة إلى 700 ليرة تركية، ما يكفيهم لأيام معدودة. أما المجنّد التركي، فهو يتلقى 4000 ليرة تركية، والضابط 8000 ليرة، ويتلقى أستاذ المدرسة المبلغ نفسه الذي يحصل عليه الضابط.
وفي مقارنة بسيطة جداً، نجد أنّ ما يعيشه المواطن السوري من مأساة في مناطق التداول بالليرة التركية في سوريا أضعاف ما يعيشه نظيره في الأراضي التركية.
الانعكاس غير المباشر "المستقبلي"
ويوضح الخبير في الشأن التركي عمر رحمون أنّ أزمة إردوغان الاقتصادية ستكون سبباً في تقوقعه وتراجعه في كلِّ الملفات التي شارك فيها، وفي مقدمتها سوريا، مضيفاً إلى أننا في سوريا لا نعوّل إلا على الجيش العربي السوري في تحرير الشمال، وسيكون للأزمة الاقتصادية في تركيا أثر عظيم في كف يد إردوغان عن التدخل في البلاد، لأنّ وجود تركيا في سوريا سيصبح مكلفاً، وستكون الأزمة الاقتصادية التركية الحالية أحد أهم أسباب خروج تركيا منها، وأهم أسباب ضغط المعارضة التركية على إردوغان للخروج منها.
مصير القوات التركية في سوريا
وعلى خلفية الأزمة الاقتصادية التي تعانيها تركيا، يجد البعض أنّ وجود جنود أتراك في سوريا سبب في هذه الأزمة بشكل أو بآخر. ويقول المحلل السياسي التركي والعضو المؤسس في منظمة ""GEN، دنيز بستاني، إنّ الحرب في سوريا أدّت إلى إضعاف الحكومة التركية، ما أدى إلى ظهور أقليات حصلت على دعم من دول أجنبية، وعلى رأسها أميركا و"إسرائيل"، وإن هؤلاء الإرهابين الذين يسمون أنفسهم مسلمين ما هم إلا مجموعة من التكفيريين من تنظيم "داعش" و"هيئة تحرير الشام" ("النصرة سابقاً).
ويرى دنيز أنَّ الدعم الأميركي والإسرائيلي لهم يهدف إلى تشكيل "دولة إسرائيل ثانية"، مؤكداً أنّ موقف الحكومة التركية كان خاطئاً في بداية ما يُسمى "الربيع العربي". وللأسف، إنّ نتائج هذا الخطأ تتحمل عواقبه شعوب المنطقة، وأولها الشعب التركي، الذي اكتشفت حكومته أنَّه يشكّل خطراً على الأمن القومي التركي.
لذلك، دخل الجيش التركي ضد مشروع أميركا و"إسرائيل" في سوريا، مبيناً أنّ هذا الخيار كان ناقصاً بسبب عدم التنسيق مع الحكومة السورية بحسب اتفاقية أضنة الموقعة في العام 1998، والتي كان أهم بنودها الدفاع عن أيّ خطر يهدد سوريا أو تركيا.
ويؤكد دنيز للميادين نت إجراء لقاء سياسي تركي سوري في الأردن، والتحضير للقاء بين رؤساء المخابرات بين الدولتين في العراق قريباً. هذا التقارب ستكون له انعكاسات إيجابية، أهمها الانسحاب من سوريا وفق اتفاقية شبيهة باتفاقية أضنة، وبالتأكيد وفق شروط وضمانات من الطرفين.
مصير اللاجئين السوريين في ظلِّ الأزمة التركية الأخيرة
وتؤكد إيلاي إكسوم للميادين نت أنّ إعادة "اللاجئين" ستكون في مصلحة البلدين، بسبب التأثير الاقتصادي السلبي الذي خلّفه وجودهم واستخدامهم كورقة ضغط إقليمية على سوريا وتركيا، موضحةً أنّ بعض "اللاجئين" يشكلون أزمة اجتماعية، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية، والقانون التركي لا يسمح لأي شخص من دول الشرق وآسيا بالحصول على الجنسية. أمّا معهم، فقد تم تجاوز القانون، فهم بصفة حماية مؤقتة، والحماية المؤقتة لا تسمح لهم بالعمل والإقامة أو الحصول على الجنسية، وما يحصل حالياً غير قانوني، وهناك احتمال كبير لإلغاء كلّ هذه الامتيازات.
إيلاي أسست مع دنيز مبادرة "جين" (GEN) التي تعني "الأجانب الذين حصلوا على الحماية المؤقتة"، ويعملون حالياً على كشف المشاكل التي تحصل بين أصحاب الحماية المؤقتة والشعب التركي، والذين ينخرط بينهم أشخاص يحملون فكراً يشكل خطراً على الأمن القومي التركي ودول الإقليم.
لذا، ترى أنّه يجب تطبيق القانون بإلغاء كل الميزات التي حصلوا عليها، والعمل على إعادة العلاقات بين الحكومتين التركية والسورية، لإيجاد صيغة تفاهم وإعادة أصحاب الحماية المؤقتة بشكل أمثل إلى بلدهم.
وتختم إيلاي متفائلة بالقول: "إنّ مؤشر التطورات في العلاقات الخارجية سيتكلّل بالنجاح وفق وجهة نظرها".